منصور النمري: (توفي 190 هـ / 805 م)
قال من قصيدة في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) تبلغ (30) بيتاً:
فوافوا (كربلاء) مع المنايا بـمـرداةٍ مــسـوَّمــةِ الـخـيـولِ
وأبـناءُ السعادةِ قد تواصوا عـلى الحدثانِ بالصبرِ الجميلِ
فما بـخلتْ أكفُّهمُ بـضـربٍ كـأمـثــالِ الـمصاعبـةِ البزولِ (1)
ومن نفس القصيدة:
بـتـربـةِ (كربـلاءَ) لهم ديـارٌ نيامُ الأهلِ دارسةُ الطلولِ
وأوصالُ الحسينِ ببطنِ قاعٍ ملاعبُ للدبـورِ ولـلـقبـولِ
تحيّـاتٌ و مـغـفـــرةٌ وروحٌ على تلكَ المحلّةِ والـحلولِ
الشاعر
أبو الفضل، منصور بن سلمة الزبرقان بن سلمة بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك بن سعد بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط (2) بن وهب بن اقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار (3)
وقيل: منصور بن الزّبرقان بن سلمة بن شريك بن مطعم الكبش.... (4) ولد في رأس العين على شاطئ الفرات (5)
وإنما سمِّي جده الأعلى عامر الضحيان لأنه كان سيد قومه وحاكمهم، وكان يجلس إليهم إذا أضحى النهار، فسمِّيَ الضحيان. وسمِّيَ جد منصور مطعم الكبش الرخم لأنه أطعم ناساً نزلوا به ونحر لهم، ثم رفع رأسه فإذا هو برخم يحمن حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهن كبش ويرمي به بين أيديهن، ففعل ذلك ونزلن عليه، فتمزقنه، فسمِّي مطعم الكبش الرخم. وفي ذلك يقول أبو نعجة النمري يمدح رجلاً منهم:
أبوكَ زعيمَ بني قاسطٍ وخالكَ ذو الكبشِ يقري الرخمْ
كان النمري تلميذاً لكلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ، ومن بحره استقى، والعتابي وصفه للفضل بن يحيى بن خَالِد وقرظه عنده حتى استقدمه من الجزيرة، واستصحبه، ثم وصله بالرشيد، وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة حتى تهاجيا وتناقضا، وسعى كل واحد منهما على هلاك صاحبه (6)
ووصل الأمر من العداوة بينهما أن دخل العتابي على الرشيد ووشى بصاحبه النمري وأخبره بميله إلى العلوية وأنشده قوله في مديح أهل البيت:
شاء من الناس راتع هامل يعللون النفوس بالباطل
حتى بلغ إلى قوله:
ألا مساعير يغضبون لهم بسلة البيض والقنا الذابل
فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً وقال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة، فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كف عنه (7)
وقال السماوي: أن الرشيد بعد أن سمع شعر النمري من العتابي فاستشاط الرشيد غيظاً وبعث عيناً يتجسس أخباره، فأتاه عينه وقال: رأيته منكباً ليلاً على قبر الحسين عليه السلام ينشده وينشج، فحفظت ما أبقاه لي النشيج، وهو قوله:
متى يشفيك دمعك من همول ... ويبرد ما بقلبك من غليل....
فأعطى لمن يأتي برأسه ألف دينار، فهرب وتبعه رجل من بني فزارة إلى رأس عين فوجده قد مات، وفي خبر قد وجده مريضاً من الغرق، فاستمهله ثلاثة أيام إلى أن يموت فيأخذ رأسه، ففعل وأتى برأسه إلى الرشيد. (8)
ونقل السيد الأمين عن ابن شهرآشوب قوله: منصور بن الزبرقان النمري، وقد نبشوا قبره (9)
على الرغم من أن الاخبار القليلة جداً التي وردت في بطون الكتب عن الشاعر النمري لا تكفي لتسليط الضوء على حياته ونشأته، إلا أن أشعاره تكشف بوضوح عن شخصيته وإيمانه بعقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام) كما تكشف أيضاً عن شاعريته الفذة التي فاق بها شعراء عصره يقول عنه الصنعاني: (كان شاعراً غير منازع، فحلاً غير مقارع). (10)
كان النمري في بدايته تلميذاً كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ ومن بحره استقى، وكانت صحبتهما وثيقة تجاوزت حدود التلمذة بعد أن لمس العتابي في النمري توقد ذهن، ورهافة حس، وذكاء، وفطنة فهيّأ له متطلبات السفر من الشام إلى بغداد ووصفه للفضل بن يحيى البرمكي الذي استقدمه وأكرمه.
وعند الفضل اجتمع النمري بالشاعر مسلم بن الوليد، وروى السيد المرتضى: إن سفره إلى بغداد كان مع الوفد الذي أرسلته ربيعة إلى الرشيد بعد أن أوقع أبو عصمة الشعبي بأهل ديار بكر موقعة فظيعة يذكرها التاريخ، فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليهم فخلص اختيارهم إلى رجلين أحدهما النمري بعد أن وجدوه متكلماً أديباً لبيباً فلما سألهما الرشيد حاجتهما أنشد النمري قصيدة مطلعها:
ما تنقضي حسرةٌ ولا جزعُ إذا ذكرتُ شباباً ليس يرتجع
والقصيدة عبارة عن شكوى وعتاب وتذمّر من الدهر وهي أول شعره، حتى إذا انتهى النمري من قصيدته قال له الرشيد: ويحك... قل حاجتك فقال: أخرِبت الديار، وأخُذت الأموال، وهُتكت الحرم، فقال: اكتبوا له بكل ما يريد.
ولما وجده الرشيد فصيحاً شاعراً استبقاه عنده وأرسل أصحابه بالكتب.
قال السيد المرتضى: وكان منصور النمري يأتي باسم هارون الرشيد في شعره ومراده به صاحب منزلة هارون يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وكذلك قال المرزباني وابن دريد ومن ذلك قوله:
آل الرسولِ خيـــارُ الناسِ كلهم وخيـرُ آلِ رسولِ اللهِ هارونُ
رضيتُ حكمكَ لا أبغي به بدلاً لأنَّ حـكمكَ بالتوفيقِ مقرونُ
ثم نقل الشريف عن الجاحظ قوله: كان منصور النمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره ويريه أنه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقول النبي (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى. إلى أن وشى عنده بعض أصحابه، وأنشد له قصيدته اللامية فوجه الرشيد رجل منه فزارة.. (11)
وتتمة القصة كما ذكرناها في المقدمة.
وفي الحقيقة فقد ظلم الجاحظ الشاعر النمري عندما نسب إليه النفاق فلم يكن النمري منافقاً, بل كان يعمل بالتقية فيورّي في مدح هارون بعلي, قال السيد حسن الصدر (12) والسيد ضياء الدين الصنعاني (13):
(إنه ـ أي النمري ـ كان يُورّي في مدح هارون العباسي بعلي (ع) تلميحاً منه الى الحديث الشريف المشهور: أنت مني بمنزلة هارون من موسى).
وقال الحصري: (وكان يضمر غير ما يظهر, ويعتقد الرفض, وله في ذلك شعر كثير لم يظهر إلا بعد موته)، أما تشيع النمري فقد نقل الحصري عن الجاحظ قوله: (وكان منصور دخل الكوفة وجلس إلى هشام بن الحكم الرافضي وسمع كلامه فانتقل إلى الرفض). (14)
قال عنه المرزباني: (وكان عربي الألفاظ جيد الشعر وقيل: ما كسب أحد بالشعر كسبه، مدح الخلفاء مع أنه كان يسر التشيع فإذا ظهر عليه أسهب بمدح بني العباس إلا أنه ظهرت أشعاره بعد موته) (15)
ودلت المصادر التاريخية والأدبية على فصاحته وشاعريته من ذلك ما رواه السيد المرتضى من اجتماعه عند الرشيد بمروان بن أبي حفصة شاعر الرشيد في خبر طويل انتهى باعتراف مروان بشاعريته عليه بقوله:
فإذا هو والله أفصح الناس قد دخلني له حسد فوددت إنه قد أخذ كل ما لدي وسكت ...
كما اعترف بأن النمري كان خليقاً بأن يغلبه ويعلو عليه كما جاء على لسانه: (وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو عليَّ فأني ما رأيت أحسن من تخلصه إذا ذكر الطالبيين (16)
شعره
ومن أبرز شعره في أهل البيت قصيدته اللامية التي تبلغ (20) بيتاً والتي يقول فيها:
شاءٌ من الناسِ راتعٌ هامـــــلِ يعللونَ مـن النفوسِ بالباطلِ
تَقتلُ ذريـــةَ النبيِّ ويرجـــــو نَ جـنــــــــانَ الـخلودِ للقاتلِ
ويلكَ يا قاتلَ الحسيـــــــنِ لقد بؤتَ بـحـملٍ ينــوءُ بالحاملِ
أيِّ حباءٍ حبوتَ أحـــــمدٍ في حفرتِــــه مـن حرارةِ الثاكلِ
بأيِّ وجهٍ تــــــلقى النبـيَّ وقد دخـــلتَ فـي قتلِه مع الداخلِ
هلُمَّ فــــــــاطلبْ غداً شفاعتَه أو لا فرِد حوضَه مع الناهلِ
ما الشكُّ عندي في حالِ قاتله لــــكنني قد أشكُّ في الخاذلِ
نفسي فداءُ الحسينِ حين غدا إلى الــمـنايا غدوّ لا قــافـــلِ
ذلكَ يوم أنـــحـى بـشــفـرتهِ على ســــنامِ الإسلامِ والكاهلِ
أعــاذِلـي إنــني أحـبَّ بـنـي أحمدَ فالـــتربُ في فمِ الـعاذلِ
جفوتمُ عترةَ الــنــبيِّ وما الـ ـجافي لآلِ الـــنبـيِّ كالواصلِ
مـظـلـومـةٌ والــنـبـيُّ والدُها تُديرُ أرجـــــــاءَ مُـــقلة حافلِ
ألا مصـاليت يغضبــون لها بسلــــــةِ البيضِ والقنـا الذابلِ
كم ميّـــتٍ مـنـهـم بـغـصّته مـغتربِ القبرِ بالـعــــرى نازلِ
ما أنتجتْ حـــوله قــرابـتُه عـند مـقـاســاةِ يـومهِ الـــنـازلِ
أذكرُ مـنـهـم ومـــا أصابهم فـيـمنعُ الـقـلـبُ سلـــوّه الذاهلِ
قد دنتْ فيما دنتمُ عـــليه فما رجعتْ عن دينكمُ إلى الجاهلِ (17)
وقال من قصيدته التي قدمناها وتبلغ (30) بيتاً:
متى يشفيكَ دمــعُــكَ من همـــولِ ويــبــردُ مــا بــقــلبِكَ من غليلِ
فــؤادُكَ والــســـــلـوّ فــإن فـــــيه سيــأتـي أن يـعــــودَ إلى ذهولِ
فــيا طــولَ الأسى مـن بعـــد قومٍ أديــرَ عــلـــيــهمُ كأسَ الأفــولِ
تــعــاورهـم أســنّـــةُ آلِ حـــربٍ وأسيـــــــــافٌ قـلــيــلاتُ الفلولِ
فما وُجدت عـلى الأكتافِ مـــنهم ولا الأعــقابِ آثارُ الــنّــصــولِ
و لــكــنّ الــوجــوهَ مــكــــلّماتٍ وفوق صدورهمْ مجرى السيولِ
بــتــربــةِ (كــربـلاءَ) لـــهمْ ديارٌ نيـــــامُ الأهــلِ دارســةِ الطّلولِ
تحياتٌ ومغـــــــــــــــفرةٌ وروحٌ على تلكَ المحـــــــــلةِ والحلولِ
لأوصالِ الحسينِ بـــــبـــطنِ قاعٍ ملاعبُ لــلـــــدّبــــورِ وللقبولِ
أريقَ دمُ الــحسيــــنِ ولم يراعوا وفـي الأحيـــاءِ أمواتُ العقولِ
فدت نفسي جــبــيــــنَكَ من جبينٍ جــرى دمُــه على الخدِّ الأسيلِ
ألا يا ربِّ ذي حـــــــزنٍ تــعــايا بـصـبــرٍ فاستــراحَ إلى العويلِ
قـتـيـلٌ مـا قـتـيــــــلُ بــني زيــادٍ ألا بأبـــــــــي وأمِّـي مِن قـتيلِ
أيخـلو قــلـــــــبُ ذي ورعٍ وديـنٍ مــن الأحـزانِ والــهـمٍّ الطويلِ
وقد شرقـــــتْ رماحُ بــنــي زيادٍ بـريٍ مــن دمــاءٍ بني الرسولِ
ألم يُـــــــحــزنكَ سربٌ من نساءٍ لآلِ مــحــمـــدٍ خُـمـــشِ الذيولِ
يــــــــشـقِّقنَ الجيوبَ على حسينٍ أيــامــى قــد خـلونَ من البعولِ
بــرئــنــا يـــا رســــولَ الله مّـمن أصـــــــابكَ بالأذاةِ وبالذحــولِ
ألا يا لـيـتـنـي وصــلــــتْ يميني هناكَ بقـــــــائمِ السيفِ الصقيلِ
نجدتُ على السيوفِ بحرِّ وجهي ولمْ أخذلْ بنــــــيكَ مع الخذولِ
توفي النمري في مسقط رأسه برأس عين (18)
...........................................................................................................
1 ــ ديوان القرن الثاني ص 155 ــ 160 عن ديوان: شعر منصور النمري المقطوعة رقم: 41 / ذكر منها (24) بيتاً في أدب الطف ج 1 ص 209 / بحار الأنوار ج 45 ص 289 / مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 148 / أعيان الشيعة ج 10 ص 139 / الدر النضيد ص 259 / ناسخ التواريخ ج 4 ص 231 / مختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزباني الخراساني ص 85 ــ ٨٦ / الطليعة ج 1 ص 245
2 ــ تاريخ بغداد ج 15 ص 73 / الأنساب ج ٥ ص ٥٢٥
3 ــ أعيان الشيعة ج ١٠ ص ١٣٨
4 ــ جمهرة أنساب العرب ج 1 ص 302 / الأغاني ج 16 ص 12
5 ــ أعيان الشيعة ج ١٠ ص ١٣٨
6 ــ الأنساب ج ٥ ص ٥٢٥ / تاريخ بغداد ج 15 ص 73
7 ــ الأنساب ج ٥ ص ٥٢٦ هـ / تاريخ بغداد ج 15 ص 73
8 ــ الطليعة ج 1 ص 245
9 ــ أعيان الشيعة ج ١٠ ص ١٣٨
10 ــ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر ج 2 ص 326
11 ــ الأمالي ــ غرر الفوائد ودرر القلائد ج 2 ص 273 - 278
12 ــ تأسيس الشيعة الكرام لسائر فنون الإسلام 162
13 ـــ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر ج 2 ص 329
14 ــ زهر الآداب وثمر الألباب ج 2 ص 61 ــ 62
15 ــ مختصر أخبار شعراء الشيعة ص ٨٤
16 ــ الأمالي ج 2 ص 263
17 ــ ديوان القرن الثاني ص 161 ــ 165 / أدب الطف : 11 / 208 / الطليعة ج 1 ص 245
18 ــ الطليعة ج 1 ص 246
وترجم له أيضاً:
الشيخ محمد السماوي / الطليعة من شعراء الشيعة ج 1 ص 245
عمر فروخ / تاريخ الأدب العربي: الأعصر العباسيَّة ص 139 ــ 140
عفيف عبد الرحمن / مُعجم الشعراء العباسيين ص 537
عمر رضا كحالة / معجم المؤلفين ج 13 ص 14
أبو عبد الله المرزباني / طبقات الشعراء ص 242
أبو الفرج الأصفهاني / الاغاني ج 12 ص 17
ابن قتيبة / الشعر والشعراء ص 590
الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ج 13 ص 67 ــ 68
ابن خلكان / وفيات الاعيان ج 4 ص 123
الطبري / تاريخ الأمم ج 8 ص240
ابن شهرآشوب / معالم العلماء ص 186
ابن دريد / الجمهرة ص 285
مصطفى الشعكة / الشعر والشعراء ص 615
الشيخ محمد تقي التستري / قاموس الرجال ج ١٢ ص ١١٦
اترك تعليق