مفهوم العبادة في الإسلام

  يجد دارس الفكر الإسلامي تنظيماً لكل العلاقات التي تخص شؤون الفرد، فنظّم علاقة الفرد بربه، ونظّم علاقة الفرد بالفرد، ونظّم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة، ذلك أن حكمة الله أرادت أن لا يترك عباده دون نظام كامل لحياتهم، يتناول فيه جميع مناحي الحياة، إذ قال: )أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى( (القيامة: 36) وقوله: )وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء( (النحل: 89).

  وقد جاء هذا التنظيم لكل جوانب الحياة، بتشريع وافٍ، نظر فيه إلى فطرة الإنسان، والى استعداداته وطاقاته، وعلمه بمآله ومصيره، وما يسعده في حياته وبعد مماتـه، فشّرع له نظاما ومنهجا كاملا لكل جوانب حياته(١)ومن أهم هذه الأنظمة، نظام العبادات في الإسلام، ذلك أن للعبادات دوراً كبير في الإسلام، وأحكامها تمثل جزءًا مهمًا من الأحكام الشرعية، والسلوك العبادي يشكل ظاهرة ملحوظة في الحياة اليومية للإنسان المتدين، ونظام العبادات في الشريعة الإسلامية يمثل أحد أوجهها الثابتة، التي لا تتأثر بطريقة الحياة العامة، وظروف التطور المدني في حياة الإنسان، إلا بقدر يسير، خلافًا لجوانب تشريعية أخرى مرنة ومتحركة، يتأثر أسلوب تحقيقها وتطبيقها بظروف التطور المدني في حياة الإنسان، كنظام المعاملات والعقود(٢).

  وانطلاقًا من هذه الأهمية فقد شرّع الإسلام أنواعا متعددة من العبادات، من أجل تزكية النفس البشرية، وربطها بخالقها في كل أحوالها، وهي على نوعين(٣):

عبادات قلبية: ومستقرها القلب، كالإيمان بالله وتوحيده، وحب الله ورسوله، والتوكل على الله، ورجاء رحمته، وخشية عذابه، والتفكّر في قدرة الله وعظيم صفاته...إلى غير ذلك من المعاني والأحوال القلبية التي أمر لله تعالى المؤمن أن يسعى الى تحصيلها.

عبادات عملية: وتشمل أركان الإسلام، كالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والجهاد، وسائر النوافل والتطوعات التي هي من جنس العبادات التي فرضها الإسلام، كما تشمل العبادات أيضا: ذكر الله باللسان، كالتكبير والتسبيح والتهليل والحمد وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر ما يقوم به المسلم من أقوال وافعال، طاعة لله ورسوله، فكلها يجمعها معنى العبادات العملية.. (٤). وهذه العبادات العملية على ثلاثة أنواع هي(٥):

عبادات بدنية خالصة: كالصلاة والصيام، فالصلاة عبادة بدنية، تجب على المكلّف في اليوم والليلة خمس مرات، وقد سميت الصلاة بالعبادة البدنية، لان المسلم يمارسها ويقوم بوظائفها ببدنه قياما، وقعودا، ركوعا وسجودا، وكذلك الصيام، لأنه يمارس هذه العبادة ببدنه ومشاعره وأحاسيسه. عبادات مالية: كالزكاة مثلا، فالله تعالى فرض على كل مسلم في ماله حقا معلوما يخرجه من أصناف مخصوصة، إذا بلغ المال قدرا معلوما، ومنه أيضا الخمس وصدقة التطوع... عبادات مركبة: ويقصد بها عبادات مركبة من النوعين السابقين، فهي عبادة بدنية ومالية في الوقت نفسه، ومن أمثلتها: الحج فإنها عبادة تحتاج إلى المال من جهة ويمارسها المسلم ببدنه من جهة أخرى، وذلك بالقيام بمناسك الحج وشعائره، لذلك فرضها الإسلام مع الاستطاعة، ومنه أيضا الجهاد، فهو عبادة شرعت في النفس والمال لقوله تعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُون( (الحجرات: 15).

  وهكذا تكون العبادات منظمة لعلاقة الفرد بربه، بطاعته والخضوع له، والإقرار بربوبيته، وانطلاقا من هذه الأهمية العظمى فسوف تركز هذه الدراسة على مفهوم العبادة في الإسلام بصورة وافية، تتلاءم والمراد منها، وسيكون الحديث النبوي الشريف، الميدان الرئيس لها، بوصفه مصدرا مهما من مصادر التشريع الإسلامي، وسيكون الكلام هنا منصبّا على الأمور الآتية:

معنى العبادة لغة واصطلاحا. مرادفات العبادة.  المصطلحات الشرعية.  الحكم الشرعي وأقسامه.  

 

العبادة لغة واصطلاحًا:

أصل العبادة لغة: الخضوع والتذلل، والعبد: المملوك ضد الحر، والجمع: عبيدٌ واعْبُدٌ وعِباد وعُبْدان وعِبْدان وعُبُد، ويقال: طريق معبّد: أي مذلّل بالوطء قد أثر الناس فيه ، قال طرفة(١):

تُبارِي عتاقًا ناجياتٍ وأتْبَعَتْ     وَظِيفًا وَظِيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ

  والتعبيد: الاستعباد: وهو اتخاذ الشخص عبدًا، وجملٌ معبد: أي مذلل بالقطران أيضا، ويقال: عبّدت الرجل: إذا أذللته حتى يعمل عمل العبد وهو حر(2) ، و(عَبَدَ بفتح الباء: بمعنى ذلّ وأطاع، وعَبِدَ من الشيء بكسر الباء: أنِفَ، وعَبِدَ: غَضِبَ)(٣) ويقال: (بعير معبد: إذا كان مذللا قد طلي بالهناءَ من الجرب حتى ذهب وبره، قال طرفة(٤):

إلى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرة كُلُّهُا    وأُفْرِدْتُّ إفرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ

معناه: المذلل)(٥) وذكر سيبويه: أن العبد في أصل اللغة صفة كقولهم: (رجلٌ عبدٌ)، ثم استعمل استعمال الأسماء، والجمع: اعْبُد وعبيد وعِباد وعُبُد(٦) وذكر ابن خالويه أن الصحراء سميت (أمّ عُبيد لأنها تُذِلّ من سلكها)(٧).

  إذن أصل العبادة هو الخضوع والتذلل، ومن ذلك (قول العرب: قد عبدتُ اللهَ أعبده: إذا خضعت له وتذللت وأقررت بربوبيته)(٨)، قال ابن سيده: (وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة)(٩).

  أما العبادة بمعناها الشرعي فهو: (فعل المكلف على خلاف هوى النفس تعظيمًا لربه)(١٠)، وعرّفها ابن سيده على أنها كل (طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل)(١١)، فالعبادة إذن: نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المتصف بالربوبية والإلوهية، وهي بهذا المعنى الذي اتسم بصفة الشرعية، تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وتتضمن غاية الذل لله تعالى ممزوجًا بغاية المحبة له، فيجب لتحصيل العبادة بمعناها الدقيق أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وان يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله(١).

  والعبادة بهذا المفهوم إنما تقودنا إلى أمر في غاية الأهمية ألا وهو الطاعة التامة، والانقياد الكامل للباري ، على أساس أنها (غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الأفضال وهو الله تعالى)(٢). ومن اجل ترسيخ هذه الغاية المقدسة في نفوس البشر، فقد تقصّد الباريأن يُصدّرها في أعظم سورة في القران الكريم بقوله: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( (الفاتحة: 5) مريدا بذلك تذكيرهم بمعنى العبودية والاستكانة له، فالمتأمل بهذه الآية يجد أن (معنى نعبد: نخضع ونذل ونعترف بربوبيتك)(٣)، فهي إذن إظهار التذلل والاستسلام والانقياد للرب والامتثال لأوامره تعالى(٤)، وقد ذهب الغزالي إلى أن العبادة ترتبط ارتباطا وثيقًا بما يفعله الإنسان في واقعه الذي يعيش فيه من خلال تصرفاته، ورؤيته للتكاليف الشرعية: إذ يقول: (الطاعة والعبادة: متابعة الشارع في الأوامر والنواهي، بالفعل والقول، وكل ما نقول ونفعل ونترك يكون باقتداء الشرع)(٥)، فالشرع إذن هو الذي يرسم ملامح العبادة، وذهب السيد السبزواري إلى أن العبادة هي الطاعة والخضوع وهي عنده تشمل: العبودية التسخيرية والعبودية الاختيارية(٦)، ولعله أراد بالعبودية التسخيرية: عبودية الإنسان لله تعالى، عن طريق الجبر، فهو مخلوق لله تعالى يتصرف به أنى شاء، وهذا أمرُ واقع، فالناس كلهم عبيد الله، أما المراد بالعبودية الاختيارية فلعله يقصد الجانب التعبدي للإنسان، أي: اختيار طريقة فعلية للاتصال بالله تعالى والانقياد له من خلال عبادته عبادة حقّة، تؤكد شكر المخلوق للخالق، وتؤكد مبدأ العبودية التامة له وعدم الجحود الذي يغرزه الشيطان في نفوس البشر، وهذه عبودية يتحكم بها الإنسان فبإرادته هو يختار الجانب الإلهي أو الجانب الشيطاني ومن هنا جاءت هذه التسمية.

  فالأمر بالعبادة أذن هو (تذليل النفس الأمارة بالسوء واللوامة ليطيعا النفس المطمئنة، فيحصل الترقي إلى الكمال، ورضى ذي الجلال)(٧).

         وبذلك أضحت (العبادة) مصطلحا جديدا استعمله القران الكريم والسنة النبوية المباركة بإسلوب جديد وبمعنى جديد، أضفى عليه ملامح الإقرار والاعتراف بالربوبية لله الواحد، بعد أن سَلِب منها معنى عبودية الإنسان لأخيه الإنسان الآخر.

         ونظرا لأهمية العبادة نرى أن القران الكريم استعمل مادة (عبد) في مواضع كثيرة، وبدلالات متنوعة، تفوق الاستعمال المعجمي لها. فالقران مثلا يفرق بين صيغتي (عباد) و(عبيد) باستعمال غير مألوف، فاستعمل الأول بمعنى العباد الصالحين قال تعالى: )ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ( (الزخرف: 68)، وقال: )وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( (الأنبياء: 26)، واستعمل الآخر بمعنى من يعصون الله تعالى، قال تعالى: )وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد((الأنفال: 50- 51)، وقوله: )قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( (ق:28- 29)، وغيرها من الآيات(١). يزاد على ذلك أن لفظة (عبد) في القران الكريم قد تغيرت دلالتها من معنى الذل الذي يصيب الإنسان، إلى معنى العز والشرف والكمال الذي يصيبه، فقد حمل مصطلح (العبد) في الإسلام معنى راقيا يتمثل بالإنسان المؤمن الذي يتسم بكل صفات الخير والأخلاق كقوله تعالى: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى( (الإسراء:1).

      هذا وقد فرق الراغب الاصفهاني بين لفظتي (العابد) و(العبد) على أساس أن العبد ابلغ من العابد، لان العبد عام، إذ يطلق على جميع الخلق سواء بالتسخير أو بالاختيار، ولما كان العابد اخص من العبد من حيث انه يطلق على من يتجرد لعبادة الله، فانه على هذا يصح أن يقال: ليس كل إنسان عبدٌ لله(٢).

       فالعبد إذن مصطلح عام يطلق على بني البشر كافة، فهم عبيد الله، العابد منهم وغير عابد، أما العابد فهو مصطلح خاص، اتصف به الإنسان المنقاد لله تعالى المتبع لتعاليمه السمحة.

         ومن الاستعمالات القرآنية لهذه المادة، إنها تأتي دالة على الناس عامة، كقوله تعالى:)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه( (سبأ: 39) وهم بطبيعة الحال البشر، وتأتي كذلك دالة على جنس خاص من الناس وهم المؤمنون بالله تعالى، كقوله: )وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ((الحجر: 39-40).

          والملاحظ في استعمالات القران لهذه المادة، إن الله تعالى كان دقيقًا جدًا في ذلك الاستعمال الذي لم يأت بصورة واحدة، وإنما جاء بصور متعددة رائعة، الغاية منها إظهار عظمة القران الكريم وإعجازه في تناول مفرادات اللغة وكيفية صياغتها صياغة جديدة، تختلف عن الاستعمال المعجمي لها وصياغتها في كلام العرب وأشعارهم، وذلك ان دلَّ على شيء فإنما يدل على قصدية القرآن في إثبات مصطلح جديد، يحمل معنى جديدًا، يكون قاعدة رئيسة للدين الإسلامي، من خلال تشريع العبادات في الإسلام، وجعل معنى العبادة المدخل الأول لمعرفة أصول ذلك النظام الراقي وقوانينه، الذي تميز به الإسلام عن باقي الأديان الأخرى.

         فالعبادة إذن هي الخضوع والتذلل التام لله تعالى، وهي بذلك تتخذ معنى عاما لمجموعة التكاليف التي أمر بها الإنسان كي ترسم له الطريق الصحيح لحياته الدنيا والآخرة أيضا، وان التطبيق الفعلي لهذه التكاليف الشرعية يمثل معنى خاصًا يرتبط بالمعنى العام الذي تمثله العبادة، والذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح (التعبد)، وفي ضوء ذلك يكون (التعبد) هو التنفيذ الفعلي للعبادة، أو هو ترسيخ لمفهوم العبادة في ذهن الناس عامة، فضلا عن العمل بمقتضياتها، وهذا ما فعله الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، إذ إنه بيّن الكثير من معالم العبادة التي ذكرت في القران الكريم بصورة إجمالية بدون تفصيل في آيات كثيرة، الأمر الذي تولاه رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإيضاح والتفسير والتشريع، فكانت سنته الشريفة ترجمانا عظيما لمفهوم العبادة من خلال تسخيره كل المعطيات والمواقف في سبيل غرس مبدأ التعبد الذي سار عليه بنو البشر منذ عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى قيام الساعة، لذلك نلاحظ أن استعمالات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  لهذه المادة (عبد) لم تختلف كثيرا عن استعمالات القران لها، وإنما جاءت بمنظور واحد وبمعنى واحد، لان الغاية واحدة، ألا وهي الخضوع لله تعالى وطاعته طاعة حقيقية، ومن هنا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  في أهمية العبادة قوله: ( اعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فانه يراك) (١)، وقوله كذلك: (حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا  (٢)، وعن الإمام الصادق u أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: (العبادة سبعون جزءا، وأفضلها جزءاً طلب الحلال) (٣) وأحاديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)  في العبادة وفضلها كثيرة.

2. مرادفات العبادات:

وجِدَت في القران الكريم والحديث النبوي ألفاظ يُظن أن لها معنى العبادة العام، ولذلك نجد أن العلماء وقفوا عندها بالشرح والتحليل، واختلفوا في ذلك، فمنهم من ذهب إلى القول بترادفها، استنادا إلى وجود ظاهرة الترادف في اللغة العربية، ومنهم من أنكرها على أساس بطلان الترادف في اللغة العربية عامة، والقران الكريم والحديث النبوي خاصة، انطلاقا من مبدأ أن لكل كلمة معناها الخاص بها والذي حمل في طياته ملامح دلالية، تقصدها القران والحديث النبوي. وسنقف عند أهم الألفاظ التي قيل بترادفها مع لفظ العبادة:

الطاعة:

       أصل الطاعة في اللغة: الانقياد، يقال: أطاعَ يُطيعُ إطاعةً: إذا انقاد للشيء، وفلان طوَع يَدِك أي منقادٌ إليك(4)، والطَوْع: الانقياد وضده الكُره، والتطوع في الأصل: تكلف الطاعة وهو في التعارف التبرع بما لا يلزم كالتنفل(5). وعُرف التطوع في الشرع بأنه (اسم لما يشرع زيادة على الفرض والواجبات)(6).

       والشيء اللافت للنظر أن العلماء انقسموا على قسمين في حقيقة ترادف هذه اللفظة مع لفظة العبادة:

الأول: ذهب إلى القول بوجود فرق كبير من حيث المعنى بين الطاعة والعبادة وفي مقدمتهم أبو هلال العسكري، إذ إنه فرّق في كتابه (الفروق اللغوية) بين العبادة والطاعة قائلا: (إن العبادة غاية الخضوع ولا تستحق إلا بغاية الإنعام، ولذا لا يجوز أن يعبد غير الله تعالى، ولا تكون العبادة إلا مع المعرفة بالمعبود، والطاعة: الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك، وتكون للخالق والمخلوق، والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللغة تكون إتباع المدعو للداعي إلى ما دعاه إليه وان لم يقصد التبع، كالإنسان يكون مطيعًا للشيطان وان لم يقصد أن يطيعه ولكنه اتبع دعاءه وإرادته)(7) وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون نص في الفرق بينهما مفاده: (والطاعة اعم من العبادة، لان العبادة غلب استعمالها في تعظيم الله تعالى غاية التعظيم، والطاعة تستعمل موافقة أمر الله وأمر غيره، والعبودية إظهار التذلل والعبادة ابلغ منها لأنها غاية التذلل، والطاعة فعل المأمور ولو ندباً وترك المنهيات ولو كراهة، فقضاء الدين والإنفاق على الزوجة ونحو ذلك طاعة الله وليس بعبادة، وتجوز الطاعة لغير الله من غير المعصية ولا تجوز العبادة لغير الله تعالى)(1) وأحسب أن هذا الكلام لا يختلف كثيرا في مضمونه عن كلام ابي هلال العسكري في الفرق بين الطاعة والعبادة.

الثاني: ذهب إلى القول بترادفهما على أساس أن لها معنى واحدًا وفي مقدمة هؤلاء الغزالي، إذ انه لا بفرق بينهما ويجعلهما نوعًا واحدًا، إذ يقول: (الطاعة والعبادة: متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالفعل والقول، وكل ما نقول ونفعل ونترك يكون باقتداء الشرع)(2).

       وممن ذهب إلى هذا الرأي السيد السبزواري من خلال تعريفه العبادة إذ يقول: (العبادة: الطاعة والخضوع)(3). كذلك نلمح من كلام السيد محمد الصدر بعدم التفريق بين العبادة والطاعة، بل هما شيء واحد إذ يقول: (فالطاعات الظاهرية: هي إطاعة الأوامر والمرحجات الشرعية الظاهرية، كالصلاة والصوم والصدقة وغيرها كثير، والمعاصي الظاهرية هي عصيات تلك الأوامر والنواهي كشرب الخمر والكذب والغيبة والزنا)(4) ويقول كذلك: (والطاعات الداخلية أو الباطنية هي ما يخص العمل النفسي أو القلبي للإنسان وليس له اثر مباشر على الجسد كالإخلاص والصبر والتوكل والتوحيد، والمعاصي الداخلية ما يقابل ذلك كالحسد والجشع والرغبة في الحرام والشرك وغير ذلك)(5). ونلمح حقيقة عدم التفريق بينها كذلك في قوله: (...ومن ذلك عبادة الطواغيت والظالمين والشياطين بمعنى طاعتهم في عصيان الله (U)، او قل تفضيل طاعتهم على طاعة الله سبحانه... وكذلك عبادة الشيطان أي طاعته، قال الله سبحانه وتعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَان((يس: 60) (6).

        ولا شك أن فحوى كلام السيد محمد الصدر يقودنا إلى القول بتبنيه فكرة اتحادها – أي العبادة والطاعة- من حيث المعنى، فالعبادات الشرعية مثل الصلاة والصيام والصدقات، أطلق عليها السيد الصدر: الطاعات الشرعية الظاهرية، والعبادات الشرعية الباطنية مثل الإخلاص والتوكل والتسليم أطلق عليها الطاعات الداخلية، فلا فرق إذن بين المصطلحين، والملاحظ إن السيد الصدر لم يكتف بذلك، بل انه فسّر العبادة الواردة في الآيات السالفة الذكر على أنها طاعة على نحو ما وجدنا في تفسيره قول الله تعالى: )أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَان((يس: 60)، فقد فسر العبادة بطاعة الشيطان، وهذا يدل على انه لا يفرق بين العبادة والطاعة، بل هما يحملان مدلولا واحدًا قائما على أساس الخضوع والانقياد لله تعالى.

      ويبدو لي أن هناك فرقًا بين المصطلحين على أساس أن لكل لفظة – في القران الكريم والحديث النبوي، وكذلك الدراسات الأصولية والفقهية – معنى خاصًا بها لا يناظره معنى آخر، فالعبادة مفهوم عام وقاعدة عظيمة وضعها الخالق للناس كافة، وان ممارسة الإنسان لهذه العبادة وجعله خاضعًا لله تعالى منقادًا له في كل ما شرّعه، وهو الذي يمكن أن نسميه طاعة، فلا يمكن أن تكون العبادة عبادة إلا بطاعة الله تعالى حق طاعته وإتباع أوامره واجتناب نواهيه، إذن فالعبادة مصطلح عام والطاعة جزء مهم من العبادة، لا بل هي لبّ عبادة الله تعالى.

     وفي ضوء ذلك لا يمكن أن نطلق على العبادات الشرعية الظاهرية أو الباطنية اسم الطاعات، لأنها سوف تحمل معنى جزئيًا غير مرتبط بالمعنى الكلي الذي يحققه معنى العبادة، ذلك لان غاية العبادة إظهار الإنسان بمظهر التكامل الإنساني البعيد عن معنى الجزئية المرتبط بملامح النقص والعيب، ولذلك فان جعل الصلاة والصيام عبادات شرعية يكسبها مبدأ التكامل والشمولية الذي يهدف إليه الإسلام، ومن ذلك كله فالملاحظ أن استعمال القران الكريم والحديث الشريف لمصطلح الطاعة كان بغاية الدقة والروعة، إذ إنه اكسبها دلالة جديدة وان كانت مرتكزة على معناها اللغوي، وتمثلت هذه الدلالة بالانقياد لأوامر الله تعالى.

النُسُك:

       المَنْسَك والمَنْسِك عند العرب: الموضع المعتاد الذي تعتاده، والمَنْسِك: الموقع الذي تذبح فيه النسيكة والنسائِك: أي الذبيحة، ونَسَكَ يَنْسِك نسْكًا إذا ذبح، وقولهم: نَسَك وتنسّك: إذا عبد وصار ناسكًا والجمع: نُسّاك(١)، قال الخليل: (النُسُك: العبادة، يقال: نَسَك ينْسُكُ نُسْكًا فهو ناسك)(٢)، وقولهم نسكَ الثوب: غسله بالماء وطَهّره(٣).

       هذه هي أهم المعاني اللغوية التي جاءت لهذه المادة، ومن خلالها نظر العلماء إلى هذه اللفظة على أساس مرادفتها للفظة العبادة، لان المتأمل في معاني اللفظة، يجد أن فحواها يصب في معنى العبادة العامة، وان كانت عبادة غير شرعية، لأنها ليست بنية القربة لله تعالى، وإنما هي بنية القربة للأصنام، ومع ذلك فقد جعلها العلماء لفظة تدل على العبادة لان القران الكريم قد استعملها بهذا المفهوم في بعض الآيات، فكانت بذلك دالة على العبادة الشرعية الحقة بعد أن لم تكن كذلك.

      والمتتبع لآيات القران الكريم، يجد إنها استعملت هذه المادة بصور متنوعة، غير مكتفية بصورة واحدة، فذكر القران لفظة (نُسُك) وأراد بها الذبح في قوله تعالى: )وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك( (البقرة: 196)، بمعنى ذبح شاةٍ (4)، كما انه استعمل اللفظة نفسها بمعنى العبادة في قوله تعالى:)قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين( (الإنعام: 162)، وقد ذكر الزمخشري أن المعنى في هذه الآية: (عبادتي وتقربي كله، وقيل: وذبحي، وقيل: صلاتي وحجي من مناسك الحج)(5) ، وكلام الزمخشري يبين لنا اختلاف العلماء في تفسير هذه اللفظة، فمن ذهب إلى القول بان المراد: الذبيحة في الحج، إنما أراد الملائمة مع قول الله تعالى، ] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [ (الكوثر: 2) ، ذلك أنه جمع بين الصلاة والذبح ، إذن فهو في هذا المقام قد جمع أيضا  بين الصلاة والنحر، ومن ذهب إلى القول بان المراد بالنُسُك هنا هو الحج، إنما أراد الجمع بين معنيي الصلاة والحج معًا، لتحقيق مبدأ الشمولية في العبادة أولا، وثانيًا ليجتمع ركنان مهمان من أركان الإسلام في خطاب الله تعالى ألا وهو الصلاة والحج، وفي ذلك يقول الطوسي: (وإنما ضم الصلاة إلى أصل واجبات الحج، لان فيها التعظيم لله تعالى عند التكبير)([1]) ، فالصلاة تفتح بالتكبير وأساسها التكبير، وكذلك الحج فان التكبير يعد لبّه وأساسه. ويبدو لي أن هذا القول أرجح من القول بان معنى النسك: العبادة العامة، وذلك نظرًا لوجود أمرين:

الأول: أن وجود العطف بين الصلاة والنُسُك يدل على إنهما أمران متغايران.

الثاني: أن الصلاة جزء من العبادة، فلا يمكن لله تعالى أن يعطف المعنى الجزئي للعبادة على معناها الكلي، فالعبادة عامة والصلاة خاصة، والعطف بينهما سيكون من باب الاعتباط، وحاشا لله أن يكون كلامه اعتباطًا، وفي ضوء ذلك فان تفسير لفظة النُسُك بمعنى الحج يكون ملائمًا للسياق القرآني في هذه الآية.

        كذلك استعمل القران لفظة (مَنْسَك) بمعناها العبادي في قوله تعالى: )لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوه((الحج: 67)، فالمَنْسَك هنا يراد به جميع العبادات التي أمر بها الله ([2]) وبعضهم ذهب إلى أن المراد: العبد أو هي بمعنى متعبدًا في إراقة الدم بمنى وغيرها ([3]).

        ومقام الآية يدلنا إلى اختيار القول الأول الدال على المعنى العبادي الخاص بالأحكام الشرعية من دون غيره من الآراء، لان الله تعالى لا يمكن أن يجعل الأمم تتيه في ظلمات الكفر والإلحاد، بل انه نوّرها بنور الهداية والإيمان برسله الذين حملوا رسالة الإخلاص الأبدي من عالم الظلمات إلى عالم النور، عالم مليء بالإيمان والعمل الصالح، عالم قائم على عبادة الله والاعتراف بربوبيته، ومن اجل ذلك فقد جعل الله لكل امة طريقة خاصة في العبادات، من خلال الأديان السماوية ، متمثلة بكتبها وصحفها التي انزلها الله تعالى على أنبيائه، فكانت ترسم لهم طريق الفوز بالجنة الأخروية.

     كل هذه الآيات جعلت الكثير من العلماء والمفسرين يعتقدون بترادف لفظة النسك مع لفظة العبادة، لأنهما يحملان معنى واحدًا – وان كان مختلفا من حيث المفهوم الجاهلي لها والمفهوم الإسلامي- من خلال جعل النسك العبادة الخالصة لله تعالى، في حين كان النسك عبادة غير خالصة لله تعالى، وإنما كانت للأصنام، (لان القرابين والذبائح لها دلالات دينية قديمة، حيث كانت تقدم للآلهة)(4)، ولكن الملاحظ أن هذه اللفظة وان كان معناها يدل عل العبادة، إلا أنها ارتبطت بشكل خاص بفريضة الحج أكثر من غيره من الفرائض، وأصبحت مناسك الحج معروفة بتعاليمها وطقوسها والمراد بها عبادات الحج حصرًا(5)، كقوله تعالى: )فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا((البقرة: 200)، وهذا ما يؤكده احد الباحثين المعاصرين إذ يقول: (فالنسك في الأصل: العبادة مطلقًا، وكل حق لله تعالى يتقرب به من صلاة وغيرها، ثم صار علمًا بالغلبة على الحج والعمرة، أو على كل عمل من أعمالها)(6).

       ويبدو لي أن القول بترادف هاتين اللفظتين أمر يدعو للتأمل والنظر، انطلاقا من القاعدة التي ذكرتها سابقًا من أن العبادة معنى عام، وتتمثل بجميع الأحكام الصادرة من لدن الله تعالى، وان الأخذ بهذه الأحكام ومحاولة تطبيقها على واقع الحال، يعد أمرا متمما لمعنى العبادة العام، ومن ذلك لفظة النسك، فكل معانيها اللغوية والقرآنية، تركز على ارتباطها بشعائر الحج وطقوسه الربانية، والدليل على ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  استعمل المعنى نفسه لهذه اللفظة، إذ يقول: (خذوا عني مناسككم)(1) ويريد: شعائر الحج، فهذه إذن تحقق جانبًا مهما أو ركنًا مهمًا من أركان العبادة، فإذا كانت هذه اللفظة جزءًا من معنى عام، فلا يمكن إطلاقها على معنى كلي بصورة مطلقة، فالجزء ما هذا إلا مفردة واحدة من مفردات الكل، اللهم إلا إذا كان من باب المجاز، وهو غير موجود في هذا السياق لعدم وجود قرينة تدل عليه.

      إذن هناك معنى العبادة الكل، ومعنى النُسك الجزء، فكل نسك عبادة، وليست كل عبادة نسك بدليل قوله تعالى: )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين( (الإنعام: 162)، فالصلاة عبادة، والنسك عبادة أيضا لكن وجود العطف في هذه الآية دلّ على أن الصلاة تختلف عن النسك الذي فُسّر هنا بمعنى الحج (2)، ومع ذلك فكلاهما يعدّ عبادة، ومتمم لأركان الإسلام التي بينّها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  بقوله: ( بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا اله إلا الله وان محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت)(3).

3.المصطلح الشرعي:

اللغة (أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم)(4)، وهي مرتبطة بتطور المجتمع وتقدم الحضارة الإنسانية، ومن المعروف ان اللغة العربية كغيرها من اللغات، نشأت لشد حاجة المتكلمين بها، وكانت من أول أمرها مقتصرة على الألفاظ الوصفية التي عبرت عن واقع العربي وبيئته التي كان يعيش فيها، ثم تطورت بتطوره خلال القرون(5)، فاللغة العربية من أوسع اللغات ثروة، وهذا ما بينه العلماء وبخاصة ابن فارس اذ يقول: (لو احتجنا إلى إن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية، لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة) (6)؛ ولذا لم يكن لأحد من أبنائها مهما اتسع علمه وآفاقه ان يستوعب حدودها ودقائقها، وان يلمّ بأوضاعها وغرائبها، واستحقت بذلك ان تكون لغة القران. وعليه فان القران يُعدّ حدثُا مهمًا في تاريخ هذه اللغة، فهو قام بتطويرها وتنقيتها لتكون معبرة عن الدين الجديد الراقي، ذلك الدين الذي أراده الله تعالى أن يكون أبديا لجميع الأمم وخاتمًا لكل الأديان قبله، ولذلك فقد حوى القران (مادة لغوية جديدة، ولذلك أدرك العلماء في فترة سابقة من العصر الإسلامي، انه لابد من فهم لغة التنزيل فهمًا جديدًا، لما فيها من أسرار لغوية جديدة) (6) ،وبهذه المزية العظيمة، تكون قد اطلعت المجتمع العربي والإسلامي على نموذج عالٍ لهذه اللغة غير المعهودة من قبل، وكانت السبب الرئيس في إعجاز القران (فالحضارة الجديدة لا بد لها من أدوات لغوية تترجم عنها ترجمة صادقة، ثم أنهم لاحظوا أن الألفاظ تتطور، فتكتسب من المعاني أشباه جديدة لم تكن لها) (7).

  ومن تلك الألفاظ المتطورة لغوياً، الألفاظ الإسلامية عامة ، والشرعية خاصة ، تلك المصطلحات التي عبرت عن مرحلة جديدة ومتميزة من مراحل تطور الحياة بكل ما فيها من أحوال من جهة ، ومن جهة أخرى عبرت عن مراحل تطور اللغة (فكثرة استخدام العام مثلاً في بعض ما يدل عليه ، يزيد مع تقادم العهد عموم معناه ويقصد مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله ... ومن ذلك جميع المفردات التي كانت عامة المدلول ثم شاع استعمالها في الإسلام في معانٍ خاصة ، تتعلق بالعقائد أو الشعائر أو النظم الدينية كالصلاة والحج والصوم والإيمان والكفر والركوع والسجود ... وغيرها) (1) ، وبما أن القرآن امتلك ثورة لغوية هائلة ، فهذه المصطلحات التي حواها ، قد اكتسبت معاني جديدة، وأن اكتسابها لهذه المعاني ، جعل طائفة منها تدخل فيما سُمي : المصطلح العلمي(2) ، وبضمنه المصطلحات الشرعية التي اتسمت بمعنى جديد وبطابع خاص تفرد القرآن بمعانيها الجديدة ، ثم اتبعه الحديث النبوي الذي قام بتوضيحها ، والاستزادة منها ، ولذلك فقد (وجد فيها العلماء مادة غريبة، ينبغي أن تخص بالتأليف، فصنفت في ذلك الكتب والرسائل ، ويتألف من مجموع هذا، مادة تطلق عليها : الألفاظ الإسلامية) (3) ، وهذا الحدث اللغوي الكبير (يشرح لنا السر في نمو اللغة من حيث متنها وأساليبها ويعزو ذلك إلى سلوك الإنسان مسلك التقدم والرقي في جميع مقومات حياته الخاصة، وظروفه الاجتماعية ، والى حاجته الماسة إلى تنمية لغته لتساير حياته ، ولتسعفه حين يريد التعبير عن أفكاره ورغباته المتزايدة) (4) ، وما دام الأمر بهذه الأهمية ، فلا بد من الوقوف عند هذه المصطلحات الشرعية والتعمق فيها ودراستها دراسة مفصلة مبنية على أساس لغوي وديني نظراً لأهميتها في حياة الإنسان ، وكذلك بيان اختلاف العلماء فيها ، ذلك أننا وجدنا الكثير من العلماء اختلفوا فيها من حيث المعنى الجديد الذي ألبسه القرآن الكريم لها من جهة ، والحديث النبوي من جهة أخرى على أساس أنها تمثل فيه الجانب التعبدي وسأبدأ أولاً ببيان دلالة (المصطلح) اللغوية والاصطلاحية ، قبل الخوض في تفصيلات هذا الموضوع .

  قال ابن منظور : (الصلاح ضد الفساد، صلَح يصلّح ويصلُح صلاحاً وصلوحاً، والإصلاح : نقيض الإفساد، ... والاستصلاح نقيض الاستفساد، وأصلح الشيء بعد فساده : أقامه، والصُلح : تصالحُ القوم بينهم ) (5).

  وقولهم : اصطلح القوم على الأمر: تعارفوا عليه واتفقوا ، والاصطلاح : مصدر اصطلح وهو اتفاق طائفة على شيء مخصوص(6).

  أما معناه اصطلاحاً فهو: (لفظ اتفق العلماء على اتخاذه للتعبير عن معنى من المعاني العلمية)(7)،

 وقال الجرجاني: (الاصطلاح: عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه     الأول) ([4]) ، وقيل إنه : (العرف الخاص، وهو اتفاق طائف مخصوصة على وضع شيء) ([5]) ، ونرى أن بعض المعاصرين قد وضعوا شروطاً للمصطلح، ليأخذ معناه العلمي الأصيل وهي ([6]) :

اتفاق العلماء للدلالة على معنى من المعاني العلمية . اختلاف دلالته الجديدة عن دلالته اللغوية الأولى . وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلوله الجديد ، ومدلوله اللغوي . الاكتفاء بلفظة واحدة للدلالة على معنى علمي واحد .

وإذا ما أردنا أن نقيس هذه الشروط ، لوجدناها تتلاءم أشد ملائمة مع ما وضع للمصطلح الشرعي ، وعلى نحو ما سنبين لاحقاً ، إذن ففحوى المصطلح ان يكون معبراً عن معنى جديد يدل على حقيقة مقصودة أرادها واضع المصطلح ، مع عدم إهمال المعنى اللغوي الأول الذي أشتق منه ذلك المعنى الحديث، وإنما لابد أن يكون بينهما ترابط ، ليجعل الفرد يوازن ما بين المعنى اللغوي والمعنى الجديد ، وصولاً إلى المراد من تشريع المصطلح ، وفهم غاياته ومداركه، يزاد على ذلك ضرورة التمسك بلفظة واحدة فقط للدلالة على المعنى الإسلامي أو الشرعي أو أي معنى آخر ، فلا يمكن أن يشترك مصطلحان للدلالة على معنى واحد ، لأن ذلك سيحدث فوضى في المصطلحات ، ومن ثم سيؤدي إلى تشتيت الذهن وابتعاده عن المعنى المراد.

إذا ما عرفنا معنى المصطلح لغةً واصطلاحاً ، نأتي الآن لمعرفة معنى الشرع على أساس أن هذه المصطلحات سميت بالشرعية .

يقال : شرَع الوارد ويشرعُ شَرْعاً وشُروعاً : تناول الماء بعينه ، والشريعة والشراع والمشرعة : المواضع التي ينحدر إلى الماء فيها ، والشرعة والشريعة في كلام العرب : نشرعة الماء ، وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويسقون ([7]) ، قال : الراغب : (الشَرْع : نهج الطريق الواضح، يقال : شرَعْتُ له طريقاً ، والشرعُ مصدر ثم جُعِلَ اسماً للطريق النهج فقيل له شِرْعٌ وشريعةٌ ، واستعير ذلك للطريقة الإلهية) ([8]) ، ومن أجل ذلك سميت الرسالة الإسلامية (شريعة تشبيهاً بشريعة الماء، من حيث أن من شَرَع فيها على الحقيقة المصدوقة ، روي وتظهر) ([9]) ، وبعضهم ذكر أن الشرع : (ما شرّع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل وتسمى فرعية وعملية ، ودوّن لها علم الفقه ، أو بكيفية الاعتقاد ، وتسمى أصلية واعتقادية ودوّن لها علم الكلام ، ويسمى الشرع أيضاً بالدين والملة) ([10]) ، وعليه فإن المصطلحات الشرعية هي تلك الأحكام المتلقاة من الشرع ، والتي وضع أسسها القرآن الكريم، وزاد عليها ووصفها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، وهي مصطلحات عامة تشمل جميع أمور الدين([11])، وهي عبارة عن ألفاظ جرت في عرف الشارع على أنحاء لم تعهده في اللغة المحضة ، كالصلاة والصيام وغيرها ([12]).

والملاحظ أن العلماء فصّلوا في توضيح المراد من هذه المصطلحات ، وكان كلامهم في ذلك نابعاً من الخوض في ثنايا الكلام عن أقسام الحقيقة والمجاز على أساس أنهما من مظاهر تعدد المعنى مع اتحاد اللفظ ، ذلك أن للاستعمال الأثر الكبير في تغيير معنى اللفظ ([13])، إذ يقول ابن قدامة المقدسي : (في تقاسيم الأسماء، وهي أربعة أقسام : وضعية، وعرفية، وشرعية، ومجاز مطلق) ([14]) ، وبذلك ذكر العلماء أن الحقيقة على ثلاثة أقسام هي :

1 – اللغوية :

  وهي ما وضعها واضع اللغة، كالأسد للحيوان المفترس ([15]) ، ولفظ الصلاة في الدعاء، والطلاق في حل القيد ، والدابة في كل ما يدب على الأرض ([16]) ، قال السرخسي هي : (ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة) ([17]) ، أي أن المراد: استعمال اللفظة في وضعها الأول بحيث لا يتبادر إلى الذهن غير ذلك حينما تطلق ، كاستعمال (القلم) للدلالة على آلة الكتابة ، والقمر للدلالة على الكوكب المعروف([18])، وسميت هذه الحقيقة بهذا الاسم لأن الألفاظ تستعمل بمعناها الأول أو الأسم الأصلي ([19])، وأن كان ابن قدامة المقدسي يسميها الحقيقة الوضعية بدلاً من اللغوية ، على أساس ما كان مستعملاً في موضوعه الأصلي، فلا فرق بين التسميتين ، فكلاهما يؤديان إلى معنى واحد .

2- العرفية :

  وهي التي انتقلت من مسماها إلى غيره بعرف الاستعمال ([20]) ، وهي بعبارة بعضهم (ما صار اللفظ دالاً فيها على المعنى بالعرف لا باللغة) ([21]) ، وهذا يعني أن أهل العرف هم الذين يضعون هذه الحقيقة ، بحيث يتم نقلها من المعنى اللغوي إلى غيره ، فيكون المعنى الجديد هو المشهور ، مع هجران المعنى الأصلي ، والحقيقة العرفية تنقسم على قسمين :

  الأول : الحقيقة العرفية : وهي التي وضعها أهل العرف عامة ، كإطلاق الدابة على بعض ذوات الأربع ، وهي لغة لكل ما دبّ على وجه الأرض ([22]) .

  الثاني : الحقيقة العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الإصطلاحات التي تخصهم ، كالنقص والكسر والجمع للفقهاء ، والجوهر والعرض للمتكلمين ، والرفع، والنصب والجر للنحاة ([23]) .

  والحقيقة العرفية (نوع من التغيّر الدلالي الذي يصيب الألفاظ ، وهذا التغيّر إنما يسببه عرف الاستعمال ، فهي لم تنشأ عن تواطؤ واتفاق من الناس ، وإنما تكلم بها بعضهم ، فشاع استعمالها ، وارتضاها المجموع) ([24]) ، فالعرف له أثر فعال في أنواع التغيّر الدلالي الذي يطرأ على اللفظ ، ذلك أن العرف يتصرف في اللفظ إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل([25])، فالمعنى العرفي (يكون تارة أعم من المعنى اللغوي ، وتارة أخص ، وتارة يكون مبايناً له ، لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها)([26]) ، وامثلتها على التوالي ([27]) :

لفظ الرقبة ، والرأس ونحوهما ، كانا يستعملان في الأعضاء المخصوصة ، ثم صارا يستعملان للدلالة على جميع البدن . لفظ الدابة ونحوها ، كان يستعمل في كل ما دبّ ، ثم صار يستعمل في عرف بعض الناس في ذوات الأربع ، وفي عرف بعض الناس في الفرس ، وفي عرف آخرين في الحمار. لفظ الغائط والظعينة ونحوهما ، فإن الغائط في اللغة هو المكان المنخفض عن الأرض، لما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم ، ثم سموا ما يخرج من الإنسان باسم محله ، والظعينة : اسم للدابة ، ثم سموا المرأة التي تركبها باسم محلها.

3 – الشرعية :

  وهي (كل لفظ وضع لمسمى في اللغة ، ثم استعمل في الشرع لمسمى آخر مع هجران الاسم للمسمى اللغوي بمضي الزمان ، وكثرة الاستعمال في المسمى الشرعي)([28]) ، وعرّفها بعضهم بقوله: (وهي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أصل اللغة ، أو كانا معلومين ، لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو كان أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً ) ([29]) ، وهذان التعريفان وغيرهما من التعريفات الأخرى التي وضعت للحقيقة الشرعية يقودنا إلى نتيجة مفادها : أن الحقيقة الشرعية (هي اللفظ المستعمل في معناه الشرعي ، أي في المعنى الذي أراده الشرع كالصلاة والحج والزكاة ، للعبادات المخصوصة المعروفة)([30])، فهو إذن لفظ وضع لمعنى شرعي، يختلف عن معناه اللغوي المعروف([31])، وهذا يعدّ نوعاً من أثر الإسلام في اللغة العربية، فقد نزل القرآن على العرب وهم أصحاب فصاحة وبلاغة، وقد أثر في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وكانت ألفاظه عمدة المتكلمين وزاد المنشئين ، وكثير منها جاء لمعانٍ جديدة لم تكن مألوفة عند العرب ([32]) ، فلفظة الصلاة – مثلاً – كانت تعني في اللغة – قبل نزول القرآن – الدعاء، ولكن عندما جاء الإسلام جعلها من أهم العبادات ، فهي فرض وواجب على كل إنسان مسلم مكلف في أوقات معلومة ، وبشروط معلومة ، وهو معنى لم يكن معروفاً قبل نزول القرآن ، فصارت لفظة تميّز القرآن بمعناها الجديد، وهذا ما نبه عليه أبو هلال العسكري بقوله : (وقد حدثت في الإسلام معان وسميت بأسماء كانت في الجاهلية لمعان أُخر، فأول ذلك: القرآن والسورة والآية والتيمم ... والفسق هو الخروج من طاعة الله تعالى ، وإنما كان ذلك في الرطبة إذا خرجت من قشرها ، والفأرة إذا خرجت من جحرها ، وسمي الإيمان مع أسرار الكفر نفاقاً ، والسجود لله إيماناً وللوثن كفراً ، ولم يعرف الجاهلية من ذلك شيئاً ) ([33]) ، وهذا المعنى نفسه قد بينه أيضاً ابن فارس في كتابه الصاحبي ([34]) ، وللتفريق بين دلالتي الكلمة القديمة العامة والجديدة الإسلامية الخاصة ، رأى ابن فارس أن تسمى الدلالة الأولى القديمة (لغوية) ، وأن تسمى الدلالة الثانية الجديدة (شرعية) ([35]) ، فقال : (فالوجه في هذا إذا سئل الإنسان عنه ، أن يقول فيه اسمان : لغوي وشرعي ، وبذكر ما كانت العرب تعرفه ، ثم جاء الإسلام به ، وكذلك سائر العلوم كالنحو والعروض والشعر ، كل ذلك له اسمان : لغوي وصناعي) ([36]) .

  وهذه الميزة العظيمة في إيراد معانٍ جديدة لألفاظ اللغة العربية ، قد تفرد القرآن بها وأظهر إبداع الخالق في ذلك الأمر ، كما أنه تفرد بإيراد ألفاظ جديدة لم تكن معروفة من قبل، من ذلك القرآن والفرقان والتيمم ([37]) ... الخ . قال الجاحظ : (وقد سمى كتابه المنزل قرآناً ، وهذا الاسم لم يكن حتى كان) ([38]) ، وقال في موضع آخر مبيناً هذه الحقيقة : (فإذا كان العرب يشتقون كلاماً من كلامهم واسماً من أسمائهم، واللغة عارية في أيديهم ممن خلقهم ومكنهم وألهمهم وعلمهم وكان ذلك منهم صواباً عند جميع الناس ، فالذي أعارهم هذه النعمة أحقّ بالاشتقاق، وأوجب طاعة ، وكما أن له يبتدئ الأسماء ، كذلك له أن يبتدئها مما أحب)([39]).

  إذن هذه ألفاظ قد تخصصت دلالتها في الإسلام عما كانت عليه من قبل (وهذا النقل الذي يخص الشريعة يسمى الحقيقة الشرعية، وهو من أسباب نمو اللغة ، وفتح باب تطور الدلالة، وانتقال الألفاظ من معنى إلى آخر يقتضيه الشرع ، وتتطلبه الحياة)([40]) ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن العلماء لم يكتفوا ببيان معنى الحقيقة الشرعية على نحو ما ذكرنا فيما سبق ، بل أنهم توسعوا فيها وذكروا أن الحقيقة الشرعية على قسمين ([41]) :

  الأول : المصطلح الديني : وهو المتعلق بأمور العقيدة، كالإسلام والكفر والفسق والنفاق ، وقد اسماه المعتزلة المصطلح الديني ([42]) .  

الثاني : المصطلح الشرعي : وهو المتعلق بفروع الشريعة العملية ، وما تبني عليها تلك الفروع من القواعد الأصولية ، كلفظ الصلاة والزكاة والحج وغيرها ([43]) .

وقد اختلف العلماء في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وكيفية وقوعها ، وكان حقيقة الاختلاف مرتكزة على أساس أن هذه الألفاظ التي استفيدت منها المعاني الشرعية ، هل خرج بها الشارع عن وضع أهل اللغة باستعمالهم في غير موضوعهم ، ومثاله أن أهل اللغة وضعوا لفظ الصلاة للدعاء ، وفي الشرع : الصلاة لأفعال مخصوصة ذات شروط وأركان ، فهل خرج الشارع باستعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني عن وضع اللغة ، بمعنى أنه أعرض فيها عن الموضوع اللغوي فلم نلاحظه أصلاً ، بل خطف مثلاً لفظ الصلاة ، فوضعه على الأفعال المعروفة شرعاً، واعرض عن الموضوع اللغوي الذي هو الدعاء، أو لم يخرج بذلك عن موضوعهم ، ولكن لاحظ في كل لفظ موضوعه اللغوي، ثم زاد فيه شروطاً شرعية ([44]) ، ولذلك اختلفت آراؤهم على النحو الآتي :

1- إن الحقيقة الشرعية غير واقعة مطلقاً ، وإنما هي مصطلحات باقية على أصل معناها اللغوي، ولم تتغير عنه ، سوا أكانت دينية ام شرعية؟، فالصلاة والزكاة والحج باقية على معانيها اللغوية التي هي الدعاء ، والنماء والقصد، وقد بقيت على هذه المعاني في الشرع، ومن أشهر القائلين بهذا الرأي أبو بكر الباقلاني (ت403هـ) وغيره من العلماء ([45]) ، وقد احتج أصحاب هذا القول بما يأتي ([46]) :

1- إن هذه الألفاظ يشمل عليها القرآن ، والقرآن نزل بلغة العرب ، فلو أخذ اللفظ واستعمله في غير موضعه ، لم يكن من لغتهم وأن كان عربي الأصل، قال تعالى : )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (  (الزخرف:3)، ولو قال : اطعموا العلماء وأراد الفقراء، لم يكن هذا بلسانهم ، وأن كان اللفظ المنقول عربياً .

2- أن الشارع لو نقل الألفاظ عن معانيها اللغوية ، للزمه تعريف الأمة بالتوقيف لنقل تلك الأسامي ، فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها . 

  وفي ذلك يقول الباقلاني: (فإن قال قائل: خبرونا ما الإيمان عندكم ؟ قلنا : الإييان هو التصديق بالله تعالى ، وهو العلم، والتصديق يوجد بالقلب ، فإن قال، وما الدليل على ما قلتم ؟ قيل له إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن وبعثة النبي r هو التصديق ، لايعرفون في لغتهم إيماناً غير ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: ) وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ( يوسف: 17، أي ما أنت بمصدق لنا ، فوجب أن يكون الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة لأن الله U ما غيّر لسان العرب ولا قلبه، ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوفرت دواعي الأمة على نقله) ([47]) .

  وانطلاقاً من ذلك فقد أنكر هؤلاء الحقيقة الشرعية ، وعدّوها نوعاً من الحقيقة اللغوية، وهو ما رفضه الغزالي قائلاً : (بأن لفظ الصلاة في الشرع شامل للركوع والسجود ، غير مقتصر على الدعاء ، فإن قيل إنما يطلق لفظ الصلاة على الركوع والسجود لقربهما من الدعاء، في كون كل منهما مبنياً على الخضوع والخشوع ، فإن ذلك مرفوض لغوياً ، لأن اشتراكهما في الخشوع لا يسوغ إطلاق لفظ الصلاة على الركوع والسجود، فأهل اللغة لا يسمون الواقف بين يدي الأمير على الخضوع مصلياً، لأنه يدعوه في وقوفه) ([48]).

2 – الحقيقة الشرعية بقسميها واقعة مطلقاً، وممن ذهب إلى هذا القول المعتزلة فقد اثبتوا الحقائق اللغوية والشرعية والدينية، وذكروا أن هذه الأسماء منقولة ، من معناها اللغوي، ومستعملة في معانٍ إسلامية جديدة، فاللغوية ما لم يتصرف فيه ، والدينية: فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين مثل الإيمان والكفر والفسق ... الخ ، أما الشرعية فمثل الصلاة والصوم والحج، بحيث إذا أطلقت هذه المصطلحات لايفهم منها إلا المعنى الشرعي ([49]) ، والدليل على أن الأسم اللغوي يجوز أن ينقله الشرع إلى معنى آخر ، لفظة الصلاة، فهي لم تكن (مستعملة في اللغة لمجموع هذه الأفعال الشرعية، ثم صار هذا اللفظ اسماً لمجموعها، حتى لا يعقل من إطلاقه سواها) ([50]) ، وكذلك لفظ (الإيمان) معناه في اللغة التصديق مطلقاً ، ولكن معناه في الشرع هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ... الخ ، فأصبح فيه نوع من التخصيص، ولفظ النفاق: أصل وضعه اللغوي مأخوذ من نافقاء اليربوع التي يسترها ويظهر غيرها ، وفي الشرع اتخذ معنى من يظهر الإيمان ويستتر الكفر ([51]) ، وقد بين بعض الفقهاء العلة من هذا النقل على أساس محتوى هذه المصطلحات .

  فقد جاء في المزهر للسيوطي: (قال ابن برهان: والأول هو الصحيح، وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  نقلها من اللغة إلى الشرع ، ولاتخرج بهذا الفضل عن أحد قسمي كلام العرب وهو المجاز، وكذلك كل ما استحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسامي كأهل العروض والنحو والفقه... وصاحب الشرع إذا أتى بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعة عليه من علوم، صار الأولون والآخرون في معرفتها مما لم يخطر ببال العرب فلا بد من أسامي تدل على تلك المعاني)([52]) ، إذن فهذا الأمر مقصود من لدن الله تعالى لزيادة معرفة الإنسان لهذه المصطلحات الجديدة .

3- ذهب الكثير من العلماء إلى أن الحقيقة الشرعية واقعة مطلقاً بقسمها الأول الخاص بالأسماء الشرعية من دون الدينية (العقائدية) ، مثل الإيمان والكفر والنفاق ، فإنها تكون باقية على أصل معناها اللغوي غير منقولة عنه ، أما الأسماء الشرعية ، كالصلاة والصوم... فإنها قد نُقلت من معانيها اللغوية إلى معان شرعية ([53]) ، يقول السيد الحمامي : (ووجه التأييد أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة للمعاني الشرعية، كان استعمالها فيها مجازاً ، والمجاز يحتاج إلى العلاقة ، وحيث لا علاقة بين المعنى الشرعي واللغوي فلا مجاز ، فأي علاقة بين الصلاة شرعاً، والصلاة بمعنى الدعاء حتى يجوز استعمال لفظ الصلاة في المعنى الشرعي بمناسبة المعنى اللغوي) ([54]) ، وهذا كلام في غاية الغرابة !!. كيف لايكون هنالك علاقة بين معنى الصلاة الشرعي ومعناها اللغوي؟، بل أن العلاقة حاصلة لا محالة بينهما ، فأساس الصلاة هو الدعاء، وهي عبارة عن علاقة تربط الإنسان بربه، وقد جعلها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  عمود الدين، وكذلك لفظ الزكاة، فالعلاقة بين معناها اللغوي المتمثل بالنماء والطهارة، ومعناها الشرعي المتمثل بإنفاق قدر معين من المال ، علاقة قوية جداً ، فلإنسان الذي يزكي أمواله ، إنما يريد بذلك تطهير نفسه من الدنس والخطايا ، وهذا دليل قوي ينكر القول السابق.

4- الحقيقة الشرعية بقسمها الأول (الأسماء الشرعية) ، ما هي إلا مجازات لغوية اشتهرت وأصبحت حقائق شرعية ، فهي لم تستعمل في المعنى اللغوي، ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال، بل استعملت في هذه المعاني ، لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة ([55]) ، يقول المحقق الحلي: (واعلم أنه يمكن الجمع بين الدليلين ، إذ لا منافاة بين كون هذه الأسماء حقائق عند أهل الشرع، ومجازات لغوية، وحينئذ لا يلزم من كون القرآن كله عربياً انتفاء الحقائق الشرعية، لأنها مجازات لغوية) ([56]) .

  وقال العزالي : (والمختار عندنا أن لا سبيل إلى انكار تصرف الشارع في هذه الأسامي، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة الكلية كما ظنه قوم، ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين : أحدهما التخصيص ببعض المسببات كما في الدابة، فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس، إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب، والثاني في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشيء ويتصل به ، كتسميتهم الخمر محرمة ، والمحرم شربها ، والأم محرمة والمحرم وطؤها ، فتصرفه في الصلاة كذلك ، لأن الركوع والسجود شرطه الشرع في إتمام الصلاة، فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع) ([57]) .

  إن هذه النظرة لهذه المصطلحات الشرعية لا تعني أن أصحابها قد تبنوا وجهة نظر القاضي الباقلاني وجماعته الذين انكروا الحقيقة الشرعية ، وذهبوا إلى القول أن الألفاظ باقية على معناها اللغوي الأول ، وما زاد عليها يعدّ شروطاً وضعها الشرع لها، وإنما هذه النظرة هي (وسط بين رأي المعتزلة والقائلين بالنقل من غير مراعاة المعنى اللغوي، وبين رأي القاضي الذي يقول ببقاء الكلمة على وضعها من غير تصرف) ([58]) .

  إذن خلاصة القول الرابع : أن الشرع لاحظ في الأسماء الشرعية، المعنى اللغوي، فهي مجازات لغوية صارت حقائق شرعية ، لوجود علاقة بينهما .

ويبدو لي أن القول الثاني هو الراجح ، والقائل : أن الألفاظ الشرعية منقولة عن معانيها اللغوية، إلى معان شرعية ذات دلالات جديدة مستعملة ، فعلى الرغم من وجود علاقة قوية بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لهذه الألفاظ ، - والذي حدد ملامحها الرئيسة في معنى العبادات الإلهية على نحو ما بيناه سابقاً – لكن واقع الحال يوحي لنا أن هذه الألفاظ قد استعملها العرب بعد نزول القرآن بمعانيها الجديدة ، فالكفر – مثلاً – يعني الستر والغطاء، ولكن الشرع حدّه بالذي يجعل مع الله إلهاً آخر ، وهو من حيث الظاهر له ارتباط قوي بمعناه اللغوي ، فالكافر يستر ويغطي الإيمان بإله واحد وهو الله تعالى، ولكن الإنسان حينما يسمع هذه اللفظة ، فإن ذهنه يقوده إلى المعنى الإسلامي الجديد لها حصراً، والحال نفسه مع ألفاظ الصلاة والصيام والزكاة... ، فالصلاة لغة هي الدعاء، واصطلاحاً – في القرآن والحديث النبوي- هي أفعال معلومة يقوم بها الإنسان بوقت معين وشروط معينة ، وذهن الإنسان ينصرف حال سماعه لفظ الصلاة إلى تلك الأفعال لا الدعاء، والزكاة معناها اللغوي النما والتطهير، ومعناها الجديد إنفاق أو إخراج قدر معين من المال سنوياً في سبيل الله، طهارة للنفس، والذهن ينصرف إلى هذا المعنى لا النماء، والحج كذلك معناه في اللغة القصد ، لكن الذهن ينصرف – حال سماعه لفظ الحج- إلى قصد بيت الله الحرام ، والحال هكذا مع بقية المصطلحات الأخرى .

  فالشارع المقدس هو الذي رسّخ معاني هذه الألفاظ في أذهان البشر ، لأنها أساس وجوده في الحياة، فهي الوسيلة الوحيدة لربط الإنسان بخالقه، فاختار لها معان جديدة مستقلة ، وهو أمر لا نكاد نجده في المصطلحات الأخرى، فالكثير من الكلمات المستعملة بمعنى جديد ، بقيت محافظة على معناها اللغوي، فضلاً عن معناها الاصطلاحي الجديد، فمثلاً ألفاظ الخشوع، والخشية والرجاء والتفكر...، فهي مصطلحات ذات معنى مشترك في الذهن – اعني المعنى اللغوي والاصطلاحي غير مستقل عن الآخر – فالخشوع هو الخضوع والتذلل ، وهو معنى ثابت في الذهن، فيه نوع من الامتزاج بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ، وهو أمر نجده أيضاً في بقية الألفاظ الأخرى، وهذه الميزة لا نكاد نجدها في المصطلحات الشرعية التي أخذت معنى قائماً بنفسه مستقلاً عن المعنى اللغوي واقعاً ، وأن كان بينهما علاقة من نوع ما من حيث الظاهر .

  وبهذه النظرة الشاملة للمصطلحات الشرعية ، فإننا نخالف ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين الذين قللوا من أهمية التطور الدلالي الذي أحدثه القرآن لهذه الألفاظ، فذهب هؤلاء إلى أن التطور الذي أصاب هذه الألفاظ لم يخرج بها عن دلالاتها اللغوية الأولى، وكل الذي حدث أنه نقلها في محيط دلالتها الأولى، من معنى عام إلى معنى خاص، عن طريق القصد والتعمد ([59]) ، وفي هذا ظلم وإجحاف ونكران لأثر القرآن وقدرته الرائعة على تحول دلالة الألفاظ ، ذلك أن القرآن وأسلوبه يوحيان بمستوى رفيع من حيث المبنى وغزارة المادة اللغوية، وقدرة هذه القوالب اللفظية على الإعراب عن دقائق المعنى وخواطر الفكر ([60]) ، وهذا ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي (بلاشير) إذ يقول : (ومنذ ظهور الإسلام لم تعد اللغة العربية آلة عادية للكلام والتخاطب، ولا لغة إنسانية محضة، بل شيئاً آخر ، نعم لن نفهم جوهر العربية وكيانها ، بل لن نستطيع لها فهماً إن نحن أهملنا أهمية هذا – الحدث القرآني – هذا الحدث الذي بفضله تجاوزت اللغة حدود الإنسانية المحضة) ([61]) ، تلك اللغة التي لايمكن لأحد أن يستوعب حدودها، وأن يلم بأوضاعها ، إلا أن يكون نبياً من عند الله، علمه اللغة وحياً حتى كاشفته اللغة بأسرارها ، فأحاط بها من أركانها ، كالذي يتجلى في لغة النبي r ، ولذلك قال بعض الفقهاء : كلام العرب لا يحيط به إلا نبي ([62]) .

4- أقسام الحكم الشرعي :

  من الجدير بالذكر أن لكل واحد من المصطلحات الشرعية، حكماً معيناً اقتضاه الشرع منها ، أسموه الفقهاء (الحكم الشرعي) ، والمراد به : الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الإيجاب ، والاستحباب ، والكراهة أو الإباحة ([63]) ، فيقوم علم الفقه بدراسة (معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد) ([64]) ، وفيه (يمارس الفقيه عملية استنباط الحكم الشرعي، وذلك بإضافة العناصر الخاصة للبحث الفقهي، إلى العناصر المشتركة التي يستمدها من علم الأصول)([65]) ، وهو مجموعة القوانين التي يتوصل بها الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية، لأنه يفيد في عرفهم النظر في طرق الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال بها ، وما يتبع ذلك ([66]) .

  إن تعريف الحكم الشرعي بهذه الكيفية ، إنما هو مرتبط باصطلاح الأصوليين ، فالحكم عندهم علمٌ على خطاب الشرع نفسه، وأما الفقهاء فإن الحكم عندهم هو مدلول خطاب الشرع، أي الصفة الشرعية التي هي أثر لذلك الخطاب ، وبه يتوقف أفعال العباد ، ومن أمثلتهم على ذلك قوله تعالى : )أَقِمِ الصَّلاةَ( (الإسراء: 78) هو الحكم عند الأصوليين ، ووجوب الصلاة هو الحكم عند الفقهاء، ورأي الفقهاء هو الراجح ، إذ به يتمايز الدليل الشرعي عن حكمه ([67]) ، لذلك كان لزاماً على العالم الذي يتعامل مع الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية منها ، أن يكون عارفاً باللغة العربية، فلا بد للفقيه أن يكون عالماً بلسان العرب ليعلم المراد من آيات الله وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  ويكون عالماً بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي أنزل به القرآن ، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ ، ومن جهل لغة العرب ونحوها، لم يحل له الفقيا ([68]) ، يقول الشاطبي في ذلك المعنى: (فالحاصل أنه لا غنى لمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير خطابها له وصفاً غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب) ([69]) ، وهذا أمر في غاية الأهمية ، فلا بد من فهم الأحكام الشرعية وتمييزها عن بعضها الآخر، بالارتكاز على قواعد العربية، على أساس أن الأحكام الشرعية جاءت بلغة العرب، وليس هناك سبيل للولوج إليها ، ومعرفتها من جميع جوانبها إلا بمعرفة أساليب العربية التي ضمت في ثناياها أسراراً لغوية ثرة، لايعرف خباياها إلا المتضلع بها ، وانطلاقاً من هذه الأهمية سنقف على أقسام الحكم الشرعي وهي خمسة أقسام: واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح([70]) ، ودراستها دراسة وافية كمدخل مهم لدراسة أحاديث التعبد النبوية .

1 – الواجب :

  أصل الواجب في اللغة: اللزوم ، يقال : وَجَبَ الشيء يَجِبُ وُجُوباً : إذ لَزِمَ وثبت، وقيل أن أصله من الوجبة وهو الاضطراب ، وقولهم وجب الشمس : إذا غابت وسقطت ([71]) ، أما معناه في لغة التشريع فهو (ما طلب الشرع فعله طلباً جازماً) ([72])، يثاب فاعله، ويعاقب تاركه قصداً([73])، نظراً لوجود أمرين([74]) :

  الأول : أن الثواب والعقاب ليس أحدهما وصفاً ذاتياً للأحكام ، وإنما هما جزاء عليهما فلا يجوز الحد بهما .

  الثاني: أن العقاب قد يعدم إذا عفا الله تعالى ، والثواب قد يعدم ، إذا عدمت النية، وبمثل ذلك يرد على من قال: الواجب ما ذم تاركه ، والحرام ما ذم فاعله ومن أمثلة هذا النوع الأمر بالصلاة والزكاة والحج... وغيرها .

  قال الراغب : (الواجب يقال على وجهين : أحدهما : أن يراد به اللازم الوجوب فإنه لا يصح أن لا يكون موجوداً ، كقولنا في الله جل جلاله : واجبٌ وجودُهُ . والثاني : الواجب بمعنى أن حقه أن يُوجد ) ([75]) ، وذُكِرَ أيضاً أن الواجب في نظر الفقهاء (ما إذا لم يفعله يستحق العقاب، وذلك وصف له بشيء عرف له ، لا بصفة لازمة له ، ويجري مجرى من يقول : الإنسان الذي إذا مشى ، مشى برجلين منتصب القامة) ([76]) .

  إذن لا خلاف بين العلماء على أن الواجب : إلزام على الإنسان من لدن المشرّع، يترتب على فعله ثواب أو عقاب، ولكنهم اختلفوا في مسألة مهمة ألا وهي (الواجب والفرض)، هل هما مترادفان أولهما معنى متغاير على أساس أن كل واحد منهما يؤدي دلالة معينة قصدها الشارع المقدس ؟.

  ذهب جمهور العلماء إلى أنهما بمعنى واحد ([77]) ، بينما ذهب الأحناف إلى أن الواجب والفرض متغايران من حيث المعنى، فقالوا إن الفرض (ما ثبت وجوبه بدليل قطعي، والواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه) ([78]) ، ونرى أبو هلال العسكري يفرق بينهما أيضاً، إذ يقول: (إن الفرض لايكون إلا من الله، والإيجاب يكون منه ومن غيره، تقول: فرض الله تعالى على العبد كذا وأوجبه عليه، وتقول: أوجب زيد على عبده، والملك على رعيته كذا ، ولايقال : فرض عليهم ذلك، وإنما يقال: فرض لهم العطاء ، ويقال : فرض له القاضي ، والواجب يجب في نفسه من غير إيجاب له من حيث أنه غير متعد ، وليس كذلك الفرض، لأنه متعد ، ولهذا صح وجوب الثواب على الله تعالى في حكمته ، ولا يصح فرضه، ومن وجه آخر أن السنة المؤكدة تسمى واجباً ، ولا تسمى فرضاً، مثل سجدة التلاوة ، وهي واجبة على من يسمعها، وقيل على من قعد لها، ولم يقل أنها فرض، ومثل ذلك: الوتر في أشياء له كثيرة، وفرق آخر: أن العقليات لا يستعمل فيها الفرض، ويستعمل فيها الوجوب، تقول هذا واجب في العقل ولا يقال فرض في العقل) ([79]) وفرّق بينهما الراغب بقوله: (والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه) ([80]) .

  ويبدو أن أبا هلال العسكري في تفريقه هذا ، قد نظر إليهما من الناحية اللغوية الشكلية المحضة، دون النظر إليهما من الناحية الشرعية ، وما تترتب عليهما من أحكام استناداً إلى الأدلة المعتبرة ، وأن كان منشأ الخلاف الفقهي بينهما لغوياً، من حيث أن الأحناف نظروا إلى أن الأصل اللغوي للفرض هو قطع الشيء ، والأصل اللغوي للواجب هو اللازم والساقط والثبات، وقيل من الوجبة وهو الاضطراب([81])، ولذلك قيدوه شرعاً بالدليل القطعي ، وقيدوا الواجب بالدليل الظني، أما الجمهور فذهبوا إلى أن الأصل اللغوي للفرض هو التقدير ، أما الأصل اللغوي للواجب فهو الإلزام والثبات ([82])، وكل من المقدر والثابت، لابد أن يكون مفهوماً عاماً متواتراً فلا يحتاج إلى دليل لإثباته.

  والملاحظ في هذا الموضوع أن بعض العلماء ذهب إلى القول بعدم وجود خلاف فعلي بين الجمهور والأحناف، وإنما الخلاف بينهما راجع إلى اللفظ والتسمية حصراً ، ولم يكن خلافاً حقيقياً ، وخلاصته : إن ما يثبت حكمه بدليل قطعي – وقد أسماه الأحناف فرضاً- هل يسمى واجباً ، وما يثبت حكمه بدليل ظني- وما سماه الأحناف واجباً – هل يسمى فرضاً ؟.

  فجمهور العلماء لا يمنعون التعميم في التسمية ، والأحناف لا يرون التعميم في التسمية ، فالفريقان متفقان على تفاوت مفهومي الفرض والواجب لغة ، وكذلك متفقان على تفاوت حكمي ما ثبت بدليل قطعي، وما ثبت بدليل ظني فالخلاف بينهما لفظي راجع إلى التسمية، فالأحناف والجمهور متفقان على أن الفرض والواجب كلاهما مطلوب فعله على جهة الإلزام ، وأن تاركه يستحق العقاب، والجمهور يتفقون مع الأحناف على أن المطلوب فعله طلباً ، جازماً قد يكون دليله قطعياً وقد يكون ظنياً مجتهداً فيه ([83]) .

  ويبدو لي أن الفرض والواجب كلاهما بمعنى واحد، ويؤديان دلالة واحدة مفادها: طلب الشرع الفعل على جهة الإلزام طلباً جازماً لا لبس فيه، ويترتب على فعله الثواب ، وفي تركه العقاب، وهذا المعنى الجليل المقصود من لدن الشارع المقدس تؤديه هاتان اللفظتان ، فالإنسان لابد له من القيام بالأعمال المكلفة والمشرّعة له من الله تعالى ، والمستنبطة من أدلة شرعية معتبرة ، وما دام الاتفاق حاصلاً على وجوب هذه الأحكام ، فإن الأمر يلزم الفرد بتطبيقها على واقعة المعاش في تعبده ، سواء كانت مستنبطة بدليل قطعي أو ظني ، فالدليل القطعي يدل على وجوب الأمر عند العلماء وكذلك الظني ، فإنه أيضاً يدل على وجوب الأمر وحتميته، والغاية النهائية من كل هذا العمل بالأحكام الشرعية، بحيث لا يخالف ركناً مهماً والدليل على قولنا هذا أن لفظ (الفرض) جاء في القرآن الكريم بمعنى الواجب في قوله تعالى: )فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ( (البقرة: 197) ، وقد ذكر المفسرون أن قوله (فرض) بمعنى : أوجب، وتقدير الكلام: فمن أوجب فيهن الحج([84]) ، وما دامت الآية تدل على أن المعنى واحد، فلا ضير إذن من قولنا بعدم الفرق بينهما ، والقول بترادفهما في الدراسات الفقهية ، بقي أن نشير إلى أن العلماء قسموا الفرض على قسمين ([85]) :

  الأول: فرض عين وهو ما يجب على كل مكلف كالصلاة والصيام ...

  الثاني: فرض كفاية : وهو الذي إذا قام به بعض الناس، سقط عن سائرهم ، كالصلاة على الجنازة، وطلب العلم ، والجهاد ، فإذا تواطأ الجميع على الترك أثموا .

2 – المندوب :

  أصل الندب في اللغة : الحث والدعوة إلى الشيء ، يقال : نَدَبَ القوم إلى الأمر يَنْدُبُهم نَدْباً : دعاهم وحثهم ، وقولهم: انتدبوا إليه بمعنى اسرعوا ([86]) ، وهو في لغة التشريع (ما طلب الشرع فعله طلباً غير جازم) ([87]) ، ويُمدح على فعله، ولا يُذم على تركه ([88]) ، وقال آخرون (فأما المندوب: فهو التطوع وهو على درجات، أعلاها السنة، دونها المستحب وهو الفضيلة ، ودونها النافلة، قد يقال : نافلة في المندوب مطلقاً) ([89]) والندب في المصطلح الفقهي (قد يكون على الأعيان وهو الأكثر ، كالوتر والفجر وصلاة العيدين، وقد يكون على الكفاية ، كالاذان والإقامة ، وما يفعل بالأموات من المندوبات) ([90]) ، ومن مسمياته : السنة والمستحب والتطوع والحسن والنفل([91])، وقد اختلف العلماء في ترادف هذه المسميات مع الاسم الأصل وهو (الندب) فبعضهم ذهب إلى القول بترادفها ، على أساس أنها تؤدي معنى واحداً، وذهب بعضهم إلى التفريق بينهما من جهة اللفظ والتسمية ، لا من جهة المعنى، فذهبوا إلى أن الفعل أن واظب عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  فهو السنة، وإن لم يواظب عليه ، كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب، وأن كان مما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع ([92]) ، وذهب فريق آخر إلى عدم الخوض في موضوع ترادف هذه الألفاظ ، وإنما ركزوا اهتمامهم على أقسام المندوب المذكورة في الدراسات الفقهية، ما يترتب عليها من الثواب أو العقاب ، فذكروا أن أقسامه ثلاثة ([93]) :

  الأول: ما استحق تاركه اللوم ولا يستحق العقاب وهو مثاب عليه ، وخص هذا النوع بما واظب عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  ولم يتركه إلا نادراً، وقد أطلق عليه (السنة المؤكدة)، وهي أعلى درجات المندوب ، كصلاة ركعتين قبل فريضة الفجر .

  الثاني: ما استحق فاعله الثواب ، ولا يستحق تاركه لوماً ولا عقاباً ، وخُص بما لم يداوم عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، وسمي بالسنة غير المؤكدة ، ومنه صلاة أربع ركعات قبل الظهر .

  الثالث: كل فعل زائد عن هذين القسمين ، ومنه الاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  في جميع تصرفاته وأعماله العامة والخاصة، واختيار الأوراد والأدعية .

  من هذه المعاني كلها يتضح لنا أن المندوب (هو الفعل الذي يكون راجحاً على تركه في نظر الشارع ، ويكون تركه جائزاً) ([94]) .

3 – المُحرّم :

  الحِرْم والحرام في اللغة بمعنى الممنوع ، وهو نقيض الحلال ، وقد حَرُم عليه الشيء حُرْماً وحَراماً ، وحَرَم مكة معروف سُمي بذلك لتحريم الله تعالى فيه كثيراً مما ليس بمُحرم في غيره من المواضع ، والجمع : أحرام ([95]) ، وهذا يدل على أن (المعنى العام للحرام الذي كان العرب يعرفونه قبل الإسلام، هو ما لا يحل للمرء أن يفعله ، وهذا مرتبط بعاداتهم وتقاليدهم )([96]).

  أما معناه في لغة التشريع فهو (الممنوع منه ، إما بتسخير إلهي، وإما بمنع قهري، وإما بمنع من جهة العقل ، أو من جهة الشرع، أو من جهة من يرتسم أمره)([97])، وقال آخرون إنه (ما طلب الشرع تركه طلباً جازماً) ([98]) ويطلق عليه أيضاً : المحرم والممنوع والمحظور والمعصية والسيئة والإثم ، ويترتب على ارتكابه عقوبة إلهية عظمى، لذلك فأن فاعله يكون مذموماً من جهة الشرع ([99]) ، والمحرم عند العلماء ينقسم على قسمين ([100]) :

  الأول : المحرم لذاته ، وهو ما حكم الشارع بحرمته ، ابتداءً لما فيه من المفسدة ، ومنه السرقة والزنا والقتل... الخ .

  الثاني: المحرم لغيره : وهو ما كان مشروعاً بالأصل ، ثم حرّم منه جزء من الفعل المشروع ، فاقترن ذلك التحريم به، ومنه صوم الوصال ، وصوم يوم العيد ، وغير ذلك .

 

4 – المُباح :

  الإباحة في اللغة بمعنى : إطلاق الشيء ، يقال : أباحَ الشيء : أطلقه ، وأبَحْتُك الشيء: احللته لك([101]) .

  وهو في لغة التشريع (ما لم يطلب الشرع فعله ولا تركه) ([102]) ، وهو (الحلال والجائز، وقد يعبر عنه : بلا جناح ولا حرج ولا إثم ولا بأس) ([103]) ، وقد رفض بعض العلماء جعل المباح من أقسام الحكم الشرعي، على أساس أن المراد به هو نفي الحرج، وهذا أمر ثابت قبل الشرع، فلا يكون أمراً مقرراً في الشرع، إلا أن جمهور العلماء رفضوا هذا القول ، وأكدوا انضمام المباح إلى أقسام الحكم الشرعي، على أساس أن المراد به هو الأعلام بنفي الحرج ، وهذا الإعلام إنما يكون معلوماً من قبل الشرع ، ولذلك فهو من أقسامه ([104]) .

5 – المكروه :

  أصل المكروه في اللغة : المشقة ، يقال : كَرِهْتُ الشيء كَرْهاً وكُرْهاً وكُرَاهةً وكراهيةً : وهو المشقة والتكلف ([105]) ، قال الراغب: (الكَرْه : المشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يُحمل عليه بإكراه)([106]) .

  أما في لغة التشريع فهو (ما طلب الشرع تركه طلباً غير جازم) ([107]) ، وبذا يثاب تاركه امتثالاً لمضمون الكراهة، ولا يعاقب فاعله ، لعدم حمله على المحرم ([108]) ، لكن في الوقت نفسه (قد تغلظ كراهيته حتى تقرب من الحرام ، وقد تخف) ([109]) ، وبناء على ذلك ذكر العلماء أن المكروه على قسمين :

  الأول: الكراهة التحريمية: والمراد بها : كون العمل أقرب ما يكون إلى الحرام.

  الثاني: الكراهة التنزيهية: والمراد بها : كون العمل أقرب ما يكون إلى الحل وفي كلتا الحالتين لا يعاقب المرء على فعله ([110]) .

  وعند التمعن في أقسام الحكم الشرعي كافة ، نجد أنها لم تبتعد بمعناها الإسلامي عما عُرفت به سابقاً في لغة العرب، ولكن الإسلام خصّصها فيما ينسجم وأحكامه وتعاليمه ، فاتخذت معان جديدة تعبر عن حكم شرعي يترتب عليه ثواب أو عقاب .

  بعد بيان هذه الحقائق أقول : إن الأحكام الشرعية التي بين أيدينا وما زلنا نتعبد بها ، ما كانت لولا وجود أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، التي بين فيها هذه الأحكام وأوضحها بصورة مفصلة لا مثيل لها في أي دين سماوي آخر، وهو أمرٌ تقصّده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  لعلمه بضرورة هذه الأحكام التي ترسم للإنسان طريق الخلاص من الشرك والوقوع في المعصية ، ولذلك جاءت أحاديثه التعبدية، لتغرس لنا ماهية الأحكام الشرعية وحكمتها الإلهية، ودورها في بناء إنسان مسلم، يكون ركناً مهماً لإرساء دعائم المجتمع الإسلامي الطاهر، لذلك أطلق العلماء على هذا النوع من الأحاديث النبوية اسم (أحاديث التعبد) وحدّوها على أنها (الأحاديث التي يستعملها المسلمون في أداء شعائر العبادات في الصوم والصلاة والفرائض الأخرى، كالأذان والإقامة والتكبير ، وتسمى هذه المجموعة: الأحاديث المتعبد بها) ([111]) تمييزاً لها عن أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  الأخرى التي تخص السياسة والاجتماع والاقتصاد والحرب ... الخ ، وهو الميدان الرئيس الذي ستقوم عليه هذه الدراسة إن شاء الله تعالى .

  إذن هو حديث يتناول مسائل تعبدية، ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  يجد ضرورة وضع الحكم الشرعي، لتكون مستنداً للأمة ، ودليلاً لتبيين أحكامها فيما بعد، وقد اعتنى الفقهاء والأصوليون بهذا الحديث ، بصفته مصدراً مهماً من مصادر التشريع الإسلامي ، ولهذا يقال في أدلة الشرع : الكتاب والسنة ، وإطلاق السنة في الدليل الشرعي، المراد به هو الحديث التعبدي(المشرع) ، الذي يضع القوانين العامة ، والقواعد في طريق الاستنباط الشرعي .

  ومن أجل تحقيق الغاية المقدسة من هذه الأحكام على نحو ما أراده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، فإننا وجدنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)  في أحاديثه التعبدية يتخذ ثلاثة مسارات([112]):

  الأول : أن تكون أحاديثه التعبدية بياناً للقرآن ، فللسنة النبوية أثرٌ عظيم في إظهار المراد من الكتاب الكريم، وفي إزالة ما قد يقع في فهمه من خلاف أو شبهة ([113])، ذلك أن تأويل القرآن (غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن ، وهو الرسول r  ...) ([114]) ، فالسنة أصلٌ مطلق في التفسير بعد القرآن، وهو أمر أجمع عليه جميع علماء الإسلام ، وبينوا أن السنة بيان للقرآن (من تفصيل مجمله، وبيان مشكة ، وبسط مختصره) ([115]) ، بل أن السنة النبوية (على كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هي بيان للكتاب) ([116]) ، وهذا ما كره القرطبي بقوله: (ثم جعل إلى رسول الله r  ، بيان ما كان منه مجملاً ، وتفسير ما كان منه مشكلاً ، وتحقيق ما كان منه محتملاً) ([117]) ، حتى قيل (إن القرآن أحوج إلى السنة ، من السنة إلى القرآن) ([118]) ، علماً إن السنة النبوية في بيانها للقرآن، لم تكتف ببيان الأحكام الشرعية التعبدية فيه ، بل شملت بيان جمع الأحكام التي تهم الفرد المسلم من عقائد ومعاملات واجتماع وفلسفة وأخلاق... الخ .

  لقد كانت أحاديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)  التعبدية خاصة ، وأحاديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)  عامة ، مُبينة للقرآن الكريم في الأمور الآتية([119]) :

تفصيل مجمله: ومن ذلك أن الله تعالى أمر بالصلاة في الكتاب من غير بيان لمواقيتها وأركانها وعدد ركعاتها ، فبينت السنة النبوية العملية ذلك ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم)  : (صلوا كما رأيتموني أُصلي) ([120]) ، وورد وجوب الحج في الكتاب من غير بيان مناسكه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (خذوا عني مناسككم) ([121]) . تقييد مطلقه: كقوله تعالى : ) وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( (الحج: 29) ، يوجب الطواف مطلقاً، ولكن السنة قيدته بالطهارة . تخصيص عامه: من ذلك أن الله تعالى أمر أن يرث الأولاد الآباء أو الأمهات على نحو ما بينه قوله تعالى : ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ( (النساء: 11) ، فكان الحكم عاماً في كل أصل موروث ، وكل ولد وارث، إلا أن السنة قصرت الولد الوارث على غير القاتل، لقوله r : (لايرث القاتل) ([122]) .

   الثاني: أن تأتي الأحاديث بحكم جديد ليس في الكتاب ، ولذلك أمر الله تعالى بطاعة رسوله ، مع الأمر بطاعته في آيات كثيرة، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  معاذاً أن يرجع إلى السنة، إذا لم يجد الحكم في الكتاب ، ولو لم يكن فيها زيادة على ما في الكتاب ، لما كان هناك فائدة من الرجوع إليها ، وهذا أمرٌ يشمل القسم الأعظم من أحاديثه (صلى الله عليه وآله وسلم)  التعبدية ، التي حوت الكثير من الأحكام والإيضاحات وهي بالأساس غير موجودة في القرآن الكريم بتفصيلاتها المتشعبة ، وإنما وردت في القرآن من باب الإشارة إلى الحكم أو قل من باب تحديد الحكم ، ثم أوكل الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  لتقريرها وتفصيلها على نحو وافٍ .

  الثالث : أن تكون مطابقة للقرآن ، فتكون مؤكدة له ، ويكون الحكم مستمداً من مصدرين هما : القرآن مبيناً له ، والسنة النبوية مؤكدة له ، ومن ذلك الأحاديث الدالة على وجوب الصلاة والصوم والحج... الخ .

    وانطلاقاً من القول بشمولية الحديث النبوي ، فإن الباحث ارتأى أن يختار جانباً مهماً من جوانبه ، ألا وهو الجانب التعبدي ، لدراسته دراسة لغوية شاملة حديثة ، بحسب ما تقتضيه نظرية الحقول الدلالية ، لإظهار عظمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  في هذه الأحاديث ، من جهة استعمال اللفظ العربي، وكيفية ذلك الاستعمال ، وتبيان مدى التطور الدلالي الذي أصاب ألفاظه وتراكيبه المستعملة في أحاديثه التعبدية (صلى الله عليه وآله وسلم)  ، ذلك أن (الحديث النبوي أسهم إسهاماً كبيراً في حفظ هذه اللغة العريضة، ولهجاتها الفصيحة، وفي ذلك فوائد علمية أعانت وتعين الباحثين على معرفة تاريخ العربية ، ومراحل حياتها ، خلال الزمان من جهة ، ومعرفة الدليل القاطع على فصاحة ما جاء به مخالفاً للقواعد اللغوية والنحوية العامة ، من الكلام الوارد ضمن عصور الاحتجاج اللغوي)([123]) ، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  كان (ذا قدرة عجيبة على إبداع الألفاظ كقدرة على إحاطته باللغات العربية) ([124]) ، فكان (يصرّف اللغة تصريفاً ، ويديرها على أوضاعها ، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لايكون إلا القليل منه )([125]) .

  وانطلاقاً من هذه الأهمية جاءت هذه الدراسة تبين براعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  في توليد المعاني الجديدة للألفاظ والتراكيب ، بما يعكس عظمته كنبي مرسل، وبما يعكس الإعجاز الإلهي في شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  .

الدكتور: أحمد عاشور جعاز

 

(١)ينظر: النظم الإسلامية: 5- 6.

(٢) ينظر: نظرة عامة في العبادات: 9.

(٣) ينظر: النظم الإسلامية: 57- 58.

(٤)ينظر: فقه الأخلاق: 1/ 24- 25.

(٥)ينظر: كنز العرفان: 1/ 165، النظم الإسلامية: 57- 58.

(١) ديوانه: 11.

(2) ينظر: الصحاح (عبد)، المفردات: 543، الزهر: 1/ 204، اللسان (عبد)

(٣) المثلث: 2/ 300.

(٤) ديوانه: 27.

(٥) الزاهر: 1/ 204.

(٦) ينظر: اللسان (عبد).

(٧) ينظر: كتاب إعراب ثلاثين سورة: 37- 38.

(٨) الزاهر: 1/ 204، وينظر: كنز العرفان: 1/ 183.

(9) المخصص: 4/ 96.

(١٠) التعريفات: 90.

(١١) المخصص: 4/ 96.

(١)  ينظر: المصطلحات الأربعة في القران: 101.

(٢) المفردات: 542.

(٣) الزاهر: 1/ 205.

(٤) ينظر: التفسير القيم: 88.

(٥) أيها الولد: 68.

(٦) ينظر: مواهب الرحمن في تفسير القران: 1/ 34.

(٧) كنز العرفان: 1/ 183.

(١) ينظر: الألفاظ الإسلامية تطور دلالتها: 161.

(٢) ينظر: المفردات: 543.

(١) بحار الأنوار: 83/290 .

(٢) صحيح مسلم 1/58 .

(٣) معاني الأخبار: 367.

(4) ينظر: الجمهرة: 3/ 107.

(5) ينظر: المفردات: 529- 530.

(6) التعريفات: 39.

(7) الفروق اللغوية: 182.

(1) كشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 914- 915.

(2) أيها الولد: 68.

(3) مواهب الرحمن في تفسير القران: 1/ 34.

(4) فقه الأخلاق: 1/ 29.

(5) نفسه: 1/ 29.

(6) نفسه : 1/34 .

(١) ينظر: اللسان: (نسك).

(٢) العين: 5/ 314 (نسك)، ينظر: الصحاح (نسك).

(٣) ينظر: الدراسات الفقهية: 560.

(4) ينظر: تفسير الجلالين: 38، الدراسات الفقهية : 560 .

(5) الكشاف : 2/64، وينظر: التبيان : 4/235 ، كنز العرفان : 1/227 .

([1])  التبيان: 4/ 335.  

([2])  ينظر: التبيان: 7/ 299، الدراسات الفقهية: 559.  

([3])  ينظر: المصدران انفسهما.  

(4) الألفاظ الإسلامية وتطور دلالتها: 24.

(5) ينظر: المفردات: 802، تفسير الجلالين: 200.

(6) الدراسات الفقهية: 560.

(1) سنن البيهقي الكبرى : 3/125 .

(2) ينظر: كنز العرفان: 1/ 227.

(3) صحيح البخاري: 1/12 .

(4) الخصائص: 1/ 33.

(5) ينظر: بحوث مصطلحية: 124.

(6) الصحابي: 40.

(6) التطور اللغوي التأريخي: 43.

(7) نفسه: 45.

(1) التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن : 53.

(2) ينظر: التطور اللغوي التاريخي :  44.

(3) نفسه : 44

(4) المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي : 122 .

(5) اللسان (صلح).

(6) ينظر: المعجم الوسيط (صلح).

(7) المصطلحات العلمية : 3.

([4])   التعريفات : 28 .

([5])   البستان : 1/1349 .

([6])­   ينظر : بحوث مصطلحية : 9 .

([7]) اللسان (شرع) .

([8])­  المفردات : 450 .

([9])  نفسه : 450 .

([10])  كشاف اصطلاحات الفنون : 2/759 .

([11])  معجم المناهي اللفظية : 49 .

([12])  ينظر: البرهان في أصول الفقه : 1/174 ، ميزان الأصول 1/538 .

([13]) ينظر: دراسة المعنى عند الأصوليين : 101 ، والمشترك اللغوي نظرية وتطبيقاً : 107 .

([14]) روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد : 89 .

([15]) ينظر: أصول الفقه الإسلامي لبدران : 289 .

([16]) ينظر: محاضرات في أصول الفقه على مذاهب أهل السنة والإمامية : 21 ، أصول الفقه الإسلامي ، محمد شلبي : 443 .

([17])  أصول السرخسي : 1/170 .

([18])  ينظر : بحوث مصطلحية : 125 .  

([19])  ينظر : الطراز 1/55 ، بحوث مصطلحية : 125 .  

([20])  ينظر: معجم المصطلحات البلاغية : 2/455 ، البحث اللغوي والنحوي عند الجويني: 32 .

([21])  مجموعة الفتاوى : 7/65 ، وينظر : بحوث مصطلحية : 125 .

([22])  ينظر: التيسير على التحرير : 2/2 ، قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين : 19، مجموعة الفتاوى : 7/67 ، معجم المصطلحات البلاغية : 2/455 .

([23])  ينظر: المزهر : 1/298-299 ، بحوث مصطلحية : 125 .  

([24])  البحث اللغوي والنحوي عند ابن تيمية : 168 .

([25])  نفسه : 168 .

([26])  مجموعة الفتاوى : 7/65 – 66 .

([27])  ينظر : مجموعة الفتاوى : 7/66 ، والبحث اللغوي والنحوي عند ابن تيمية : 169 . 

([28]) ميزان الأصول 1/538 .

([29]) المحصول 1/414 .

([30]) الوجيز في أصول الفقه : 333 .

([31]) ينظر: نهاية السؤل 1/151، الطراز 1/55 ، دلالات النصوص : 253 .

([32]) ينظر: بحوث مصطلحية : 125 . 

([33])  الأوائل : 35-36 ، وينظر : المزهر : 1/295 .

([34])  ينظر : الصاحبي : 78 .

([35])  ينظر: القاري والدرس الدلالي في كتابه مزفاة المفاتيح : 234 .

([36])  الصاحبي : 81 ، وينظر : المزهر 1/296 .

([37])  ينظر : بحوث مصطلحية : 11 .

([38])  الحيوان 1/348 ، وينظر: بحوث مصطلحية : 11 .

([39])  الحيوان 1/348 .

([40])  بحوث مصطلحية : 126 .

([41])  ينظر: أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية: 32، معجم المناهي اللفظية : 49 ، بحوث مصطلحية : 126 .

([42])   ينظر: المستصفى من علم الأصول 1/327 .

([43])  ينظر : أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية: 32 .

([44]) ينظر: القوانين المحكمة 1/10 ، أصول الاستنباط في أصول الفقه وتاريخه : 44 .

([45]) ينظر: المعتمد 1/16 ، شرح اللمع 1/173 ، المنخول : 73 ، الأبهاج 1/278 ، المزهر 1/298.

([46]) ينظر: المستصفى من علم الأصول 1/329 ، أصول الفقه للخضري : 109 . 

([47]) التمهيد : 346 .

([48]) المنخول: 74، وينظر:أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية: 33.

([49])  ينظر: المنخول : 73-74 ، المستصفى 1/327 .

([50])  ينظر: المعتمد 1/23-25 .

([51])  ينظر: الصاحبي : 84، المزهر 1/295 ، ألفاظ العقاب الأخروي في القرآن الكريم: 15 .

([52]) المزهر 1/299 .

([53]) ينظر: منتهى الوصول : 21، المزهر 1/299 ، هداية العقول في شرح كفاية الأول 1/82.

([54])  هداية العقول 1/82 .

([55])  ينظر: الأبهاج في شرح المنهاج 1/277 .

([56])  مبادئ الوصول الى علم الأصول : 71 . 

([57])  المستصفى 1/330 ، وينظر: أثر الدلالة النحوية واللغوية في استباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية: 34 – 35 .

([58])  أصول الفقه للخضري : 111        

([59])  ينظر: نحو وعي لغوي: 121، اللغة العربية مبناها ومعناها : 322 .

([60])  ينظر: التطور اللغوي التأريخي : 61 .

([61]) نفسه : 61 .

([62]) ينظر: المزهر 1/64 . 

([63])  ينظر: المستصفى 1/ 4-5 ، إرشاد الفحول: 6، الوجيز في أصول الفقه : 23، وأصول الفقه (أبو زهرة) : 6، البحث لدلالي عند ابن سينا : 73 .

([64])  اللمع في أصول الفقه : 3 .

([65])  البحث الدلالي عند ابن سينا : 73 .

([66])  ينظر: تهذيب الأصول 1/7 ، كفاية الأصول 1/9 ، اللمع في أصول الفقه: 4 .

([67])  ينظر: تهذيب الأصول 1/7، اللمع في أصول الفقه : 4 .

([68])  ينظر: الأحكام 5/126 .

([69])  الموافقات 5/57 .

([70])  ينظر: تقريب الوصول : 93، علم أصول الفقه : 101 .

([71])  ينظر: المفردات : 853 ، اللسان (وجب) ، القاموس المحيط (وجب) . 

([72])  تقريب الوصول : 93 .

([73])  ينظر: التقريب والإرشاد 1/293 ، وتقريب الوصول : 93 ، التعريفات : 136 .

([74])  تقريب الوصول : 93-94 .

([75])  المفردات : 854 .

([76])  المفردات : 854 . 

([77])  ينظر: تقريب الوصول: 94، المجموع المذهب 1/306.

([78])  تقريب الوصول: 94 .

([79])  الفروق اللغوية : 184-185 .

([80])  المفردات : 630 .

([81])  ينظر: المفردات : 630 ، اللسان (فرض، وجب) ، القاموس المحيط (فرض، وجب).

([82])  المصادر نفسها .

([83])  ينظر: تقريب الوصول: 94، جمع الجوامع1/88، كشف الأسرار2/303، الوجيز في أصول الفقه: 32 .

([84])  ينظر: الوجوه والنظائر: 83 ، نزهة الأعين : 467-469 .

([85])  تقريب الوصول : 94-95 . 

([86])  اللسان (ندب) .

([87])  تقريب الوصول : 93 .

([88])  الإحكام 1/111 .

([89])  تقريب الوصول : 95 .

([90])  المصدر نفسه : 95 .

([91])  ينظر: نفسه : 95 ، الأصول من علم الأصول: 14، الوجيز في أصول الفقه : 39 .

([92])  ينظر: تقريب الوصول : 95، جمع الجوامع 1/89-90 .

([93])  ينظر: الابهاج في شرح المنهاج 1/57 ، كشف الأسرار ، للنسفي 1/457، تقريب الوصول : 95 ، نور الأنوار 1/456 ، الوجيز في أصول الفقه : 39 .

([94])  التعريفات : 127 .

([95])  ينظر: المفردات : 229-230 ، المثلث 1/436-437 ، اللسان (حرم) .

([96])  الألفاظ الإسلامية وتطور دلالاتها : 90 .

([97])  المفردات : 229 .

([98])  تقريب الوصول : 93 ، وينظر : البحر المحيط 1/255 .

([99])  ينظر: تقريب الوصول : 93 ، شرح الورقات في أصول الفقه : 41 .

([100])  ينظر: الوجيز في أصول الفقه : 42 . 

([101])  ينظر: اللسان (بوح) .

([102])  تقريب الوصول : 93 .

([103])  نفسه : 95 .

([104])  ينظر: نفسه : 93 ، نهاية السؤل 1/40 ، شرح تنقيح الفصول : 70 .

([105])  ينظر: المفردات : 431 ، اللسان (كره) .

([106])  المفردات : 707 .

([107])  تقريب الوصول : 93 .

([108])  شرح الكوكب المنير 1/413 .

([109])  تقريب الوصول : 95 ، وينظر: شرح الكوكب المنير 1/413 .

([110])  ينظر: التوضيح 2/125 ، التعريفات : 125 .

([111])  معجم مصطلحات الحديث النبوي الشريف : 120 .

([112])  ينظر: دراسات في التفسير ورجاله : 35- 36 . 

([113])  ينظر: دراسات في التفسير ورجاله : 35 .

([114])  تفسير الطبري 2/282-283 .

([115])  الموافقات 4/12 .

([116])  نفسه 3/142 .

([117])  الجامع لأحكام القرآن 1/ 2 .

([118])  نفسه 1/39 .

([119])  ينظر : دراسات في التفسير ورجاله : 35-36 .

([120])  صحيح ابن حبان : 4/541 .

([121])  سنن البيهقي الكبرى : 3/125 .

([122])  سنن الدارمي 2/478 .

([123])  أثر الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية: 118-119 ، وينظر: دراسات في الحديث والمحدثين:9 .

([124])  الحديث النبوي الشريف وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية  : 15 .

([125])  تاريخ آداب العرب 2/300 . 

المرفقات