لغة الفن بين كثافة الالوان وشفافية الوجدان..

من البديهي ان تقاس قيمة اي اثر فني من خلال وفرة مدلولاته ومتانة وحداته ومدى اتساقها،، مما يفسح المجال الرحب لتنوع وجهات النظر الى الفن عبر الزمن وتباين المذاهب في تفسيره وتقييمه وعلى شكل طوائف مختلفة، فهناك من ينظر الى الاثر الفني باعتباره منفذا للوصول الى شخصية مبدعه والوقوف على نزعاته وميوله في نفس الوقت، وهناك من يرى الاثر الفني باعتباره مرآة للعصر الذي عاشه الفنان او صدى لعقلية المجتمع او البيئة المؤثرة عليه، وهناك من يؤثر النظر الى الاثر الفني من حيث كونه موضوعاً قائماً بذاته او من حيث مكانته بالنسبة للتراث الفني السابق له، دون اي اعتبار للعوامل النفسية والاجتماعية التي احاطت بالفنان او العمل الفني.. وان كل من هذه الطوائف تتفرع بدورها الى عدة فروع تبعاً لاختلاف المدارس او التوجهات التي ينتمون اليها، وكل منها له وجهة نظر مختلفة عن الاخرى ولها ما يبررها.. فنحن لا نستطيع نكران العوامل الفردية او الاجتماعية في تعدد النزعات الفنية المختلفة، ولا نستطيع ايضاً ان نرى اثراً فنياً خالٍ من الخصائص الذاتية التي تميزه عن غيره من النشاطات الانسانية الاخرى.

ولكن.. لو تساءلنا عن ماهية العامل الجوهري المشترك بين شتى انواع الفنون ونتاجاتها والطرز الفنية الخاصة بها ، لوجدنا انه مقتصر على - وجدان الانسان - والذي يكون بدوره محكوماً ومتأثرا بالظروف الفردية والمجتمعية والحضارية، والتي تشكلت بمجملها من تراكم التجارب والخبرات التي مر بها الانسان عبر عصور التأريخ المختلفة.. والتي لها الدور الاكبر في نشأته وتكوينه ، والمقصود بالوجدان في هذا الموطن من الدراسات الفنية انه خلاصة ما ترسب ويترسب في اعماق نفس الانسان من صور ومعان نتيجة الادراك بالدرجة الاولى ومن ثم تفاعله مع الثقافات والحضارات التي اطلع  عليها  بالدرجة الثانية .

وبما ان الفن هو تعبير عن هذا الوجدان فلا عجب ان تتسع انفسنا للانفعالات مع فنون نشأت في ظروف وبيئات  مختلفة جذريا عن ظروفنا الاجتماعية والبيئية كما هو حال تأثر فنوننا الاسلامية  والعربية ببعض من اساليب الفن الروماني او الصيني وبعض من الفنون القديمة.. فعندما نقول ان الفن تعبير عن الوجدان فنحن نقصد بذلك الفن بأفضل  صوره الخالية من كل شائبة  وهذا غير موجود قط  في مجال الفن سوى  بعض من مفاصل الفنون الاسلامية المتمثلة بالزخارف والرقوش الاسلامية، فمجمل الاثار الفنية التي خلفها لنا التاريخ كانت زاخرة بعناصر من الجمال والبهاء الا انها لا يمكن ان توصف بانها جاءت تعبيرا عن الوجدان بمعناه المذكور اعلاه فهي قد تكون نتاج وظائفي نفعي بعيدا عن الوجدان كما في فنون الاولين.

اما الزخارف الاسلامية والتي تجسد الجمال بمعناه الشائع فهي واقعاً لا تنتسب الى معنى الوجدان المذكور انفا فهي احد الفنون الروحانية التي تستهوي العين والفؤاد معاً ، فقد جاء بها الفنان المسلم انطلاقاً من موضوعة القيم الدينية التي تعود بمدركاتنا ( حين التعرض لها ) الى فلسفة الاسلام والارتباط بالمطلق الخالق جل وعلا، فمن خلال الزخارف الاسلامية يرجع الفنان الى المصور الاول بحكم اعتماده على لغة الاشكال من خلال تعلق وجدانه بمعاني الالوهية او بالقوى الغير منظورة ( الماورائيات )، غير ان الوازع الاول لإنتاجه الابداعي كان منطلقاً من صور المخلوقات او المرئيات التي استهوت نظره بالدرجة الاساس ومن ثم عاد بها الى خالقها ليصفها بنتاجه الفني بشيء من التحوير الزخرفي والتجريد الشكلي بعيداً عن المعاني الوجدانية الاخرى الدفينة في اعماقه كما هو حال اي فنان آخر.

ولو اردنا التعرض لأحدى اهم مشاكل التعبير الفني الرئيسية التي يواجهها الفنان حين ابداعه الوجداني، لوقفنا امام ( لغة الفن ).. فالوجدان كما ذكر في اغلب الدراسات الفنية ليس لونا او خطا او كلاماً منظوما او صورة ما، بل هو في حقيقته نوع من الذبذبات الاثيرية التي لا ترى ولا تسمع ولا توصف ولم يكن له ان يتحقق في الصور المادية والحسية وجعله مؤثراً في المتلقين.. لولا الابداع  و سحر الفن  الذي من شأنه ان يحيل المادة - السطوح والالوان – الى طاقة مؤثرة  تحاكي نفس المشاهد وتؤثر به، فمعاني الاشكال المرسومة هي اللغة التي تتلخص ظاهرياً امام المشاهد متمثلة بالألوان والخطوط وبعض الرموز المختلفة التي تحيل الاشكال الى نوع من الشفافية يتغلغل الى مدارك الانسان ويؤثر بها بصوره ورمزه التي تدل على معان بعيدة عن معناها الظاهري الشاخص امام المتلقين...

وهذا بعض من لغة الفن.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات