تلخيص القصة
تتحدث هذه القصة، عن حفنةٍ من كبار اليهود الذين نقضوا عهود الله (كما هو دأبُهم طوال التاريخ)، فانقتم الله منهم، بأن سلط عليهم جبابرة شردوهم من ديارهم، وسبوا ذراريهم، واذلوهم كل الاذلال.
هذه الحنفة من كبار اليهود ـ نتيجة لا ستذلال الجبابرة لطائفتهم ـ طلبوا من (نبي) بعثه الله في زمان أعقب وفاة موسى عليه السلام،... طلبوا من هذا النبيّ أن يبعث الله لهم قائداً عسكرياً ينتشلهم من الحياة المهينة التي يحيونها.
وقد اجابت السماء دعوة النبيّ المذكور، تفضّلاً منها ومنّةً... وكان القائد هو (طالوت).
غير أن السماء (وهي اعرف بواقع هذه النفوس الذليلة) بعثت اليهم ـ على نحو الاختبار ـ القائد المذكور، وفق خصائص معينة تتطلبها طبيعة المعركة التي سيخوضها،.. لكنها لا تتفق مع التطلّعات والاحلام المريضة لليهود.
لقد اعترض الاسرائيليون على النبي المذكور، في أنتقاء هذا القائد، محتجين: بانّه لم ينحدر من اسرةٍ عسكريةٍ أو أسرةٍ دينية: علماً بأنّ القيادة العسكرية والدينية كانت عهدئذٍ منحصرةً في بيتين من بيوتاتهم، بينما جاء القائد العسكري الجديد من بيتٍ ثالث… ومن هنا جاء اعتراضهم على الشخصية المذكورة.
مضافاً لذلك: تقدّم اليهود باعتراض آخر على القائد العسكري، محتجين على ذلك بأنه: شخصية فقيرة لا تملك أموالاً ضخمة... وطبيعي، انّ مثل هذه الاعتراضات تحملنا على الاقتناع بانّ هؤلاء الاذلاء، لا يستحقون أية عنايةٍ تذكر: ما داموا حائمين علىنفس التطلعات والاحلام المريضة التي غلفت شخصّياتهم منذ ان دبّوا علىهذه الأرض.
ومع ذلك، فإن نبيّهم أبدى مرونةً ملحوظةً حيال هذا الاعتراض. وقال لهم: انّ الله عوّض عن فقر القائد وعدم انتسابه للأسر التي توارثت قيادة الجيش،... عوّضه عن ذلك، بسعةٍ في العلم، وبطولة في الجسم... وهما من ابزر مميّزات القائد العسكري. وخضع اليهود للأمر الواقع.
لكنهم مع ذلك، بدأوا يشككون في الأمر،... فطلبوا من نبيهم آية أودليلاً حسياً على صدق ادعاءه باختيار طالوت.
وحينئذٍ اجابهم النبيّ بانّ دليل ذلك: هو (التابوت) الذي كان الله قد أنزله على أم موسى عليه السلام، فوضعت إبنها فيه. ولما توفي موسى، وضع فيه الألواح، والدرع، وجملة من آثار النبوة.
وكان التابوت المذكور ـ نقلاً عن النصوص المفسّرة ـ يستفتح اليهود به على عدّوهم. وحين أمعن اليهود في سلوكهم المتمرد، أنُنتزع التابوت منهم. ثم، اعيد إليهم مع (طالوت)، حتى يكون دليلاً على صدق ادعاء النبي لهم: في اختيار هذا القائد العسكري.
ولما رأى الاسرائيليون هذه الآية أو الدليل حسّياً، اقتنعوا بذلك، وانقادوا لطالوت: القائد العسكري الجديد الذي طلبوه، حتى يحررهم من أسر العبودية، والتشريد، والسبي.
لكن اليهود، للمرة الثالثة، امعنوا في الغواية، حينما تمردوا على طالوت ذاته. وذلك:
عندما جهّز جيشاً لمقاتلة (جالوت) ـ وهو:الشخصية التي استعبدت اليهود واذلتهم ـ.
وكان طالوت: قد أمرهم بناء على أوامر السماء ألا يشربوا من نهرٍ معيّن خلال عملية زحف الجيش، إلا تناول الماء غرفةً واحدةً... وذلك: لمصلحة إرتأتها السماء. وهدفها هو: اختبار اليهود في مدى التزامهم أو تمردهم.
لكن الغالبية منهم ـ في ضوء هذه التجربة ـ تمردت على أوامر طالوت، إلا فئة قليلة. وكان ذلك، عندما وصلوا الى النهر، حيث قال المتمردون: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده. اما الفئة القليلة، فقالت: ان النصر من عند الله. وبالفعل: بدأ القتال،... وانتهى بالنصر، حيث قُتل جالوت.
وقد تم قتل جالوت على يد (داود) الذي اختير لهذه المهمة، حينما ألبسه طالوت ـ نقلاً عن النصوص المفسرة ـ درع موسى: على تفصيلات نذكرها في حينه.
هذا هو ملخص القصة التي نحن في صددها.
ويعنينا من هذا التلخيص، أن نقف على الخطوط العامة للاحداث والشخصيات والمواقف،... حتى نتبين مفصلاً طبيعة الصياغة الفنية لها...، فضلاً عما انطوت عليه من دلالات فكرية، تستهدفها القصة: عبر سردها لهذه الوقائع.
القيم الفنية في القصة:
إنّ القصة الفنية بنحو عام هي: إنتقاء مجموعةٍ من الاحداث والشخصيات والمواقف،... تنتخب بشكلٍ يتسق مع طبيعة (الأفكار) المستهدفة فيها.
فحين يستهدف النص مثلا: توضيح عناد اليهود وإمعانهم في الغواية،... نجده يبرز من الوقائع ما له صلة مباشرة بالعناد والتمرد.
وحين يستهدف التركيز على (الجهاد) في سبيل الله،... نجده ينتقي من الوقائع، ما يبرز هذا الجانب بوضوح.
وهكذا في سائر الدلالات التي يستهدفها.
والآن: حين نعود الى قصة طالوت،... نجد انّ هذه القصة قد تعمدت ترك كثيرٍ من التفصيلات، وأبرزت بعض عناصر الحركة فيها على نحو تتساند فيه كل من: الإستنتاج الفردي الصرف، والنصوص المفسرة، ونصوص القصة... تتساند فيه كل هذه العناصر الثلاثة، في عملية فهم القصة وتذوقها وإدراك دلالاتها.
إن ما نحاوله الآن هو: أنْ نتابع كلاً من عناصر(السرد)، وعناصر (الاختزال)، أي: أن نتبين ماهو مذكور فيها من الحركة، وما هو محذوف منها.
لكننا قبل ذلك، ينبغي ان نقرأ القصة نفسها، حتى يُمكن إدراك اسرارها الفنية المتصلة بعلمية السرد والاختزال.
لقد بدأت القصة على هذا النحو:
(ألم تر إلى الملأ من بني اسرائيل، من بعد موسى.
(إذ قالوا لنبيّ لهم: ابعث لنا ملكاً، نقاتل في سبيل الله.
(قال: هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال، ألا تقالتوا؟
(قالوا: ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله!! وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا!!.
(فلما كتب عليهم القتال: تولّوا، إلا قليلاً منهم. والله عليمٌ بالظالمين)
هذا هو القسم الاول من القصة.
هناك ملأ، أو وجهاء من الاسرائيليين، عاشوا من بعد موسى عليه السلام. قالوا ذات يومٍ لنبيٍ لهم: ابعث لنا رجلاً عسكرياً نقاتل معه في سبيل الله.
لكن نبيهم شكك في صدق دعواهم، فتساءل: أصحيحٌ أنكم ستقاتلون فعلاً، عندما تحين الساعة الحاسمة؟؟
وعند ذلك أجابه اليهود، قائلين: كيف لا نُقاتل في سبيل الله؟ ونحن قومٌ مستضعفون: قد أخرجنا من أوطننا وسبيت ذرارينا؟ لكن الذي حدث هو: انه عندما واجهوا الامر الواقع، تخلّفوا عن القتال، الا فئة قلية منهم... والسؤال هو: ماهي العناصر التي سردها النص؟ وما هي العناصر التي اختزلها؟ وما هو السر الفني في ذلك؟؟
يُلاحظ في الطلب الذي تقدم به اليهود، أنّه مرتبط بشخصية نبوية مبهمة. تقول القصة: (إذ قالوا لنبيٍ لهم).
ترى: من هذا النبي الذي لم تذكر القصةُ إسمه؟؟... بل لم ترسم لنا حتى بعض ملامح شخصيته.
من الزاوية الفنية، ينبغي أن نشير الى أن السبب في ذلك، عائدٌ الى انّ القصة ليست في صدد التعريف بشخصية النبي الاسرائيلي، حنى تذكر إسمه أو تحدّد هويّته الشخصية،... بل في صدد التعريف بسلوك هذه الشرذمة الاسرائيلية التي اذلّها الله على يد طواغيت من امثالها... إنّ اقصة في صدد الكشف عن الكذب والتردّد الذي يطبع سلوك اليهود في: إدعائهم القائل بانهم مستعدون للقتال في سبيل الله.
ولكي تكشف القصة مثل هذا الادعاء،... كان لابدّ من وجود شخصية كبيرة مرتبطة بالسماء، بحيث تُصبح واسطة بين اليهود وبين السماء في تحقيق طلبهم: بإرسال والتوجيه... إلخ.
من هنا كان لا بدّ من وجود شخصية عسكرية اخرى، ذات كفاءة في القتال المباشر، بل ذات سمات بطوليةٍ خاصة، حتى يمكنها أن تقطع راس الفساد (جالوت).
وجاء داود هو البطل المهيا لهذه المهمة.
وحين نعود الى النصوص المفسرة، نجدها تُلقي ضوءً كبيراً على شخصية داود وطريقة انتقاءه لهذه المهمة، مما يعزز التفسير الفني الذي اخترناه في هذا الصدد.
تقول النصوص المفسرة بما مؤداه:
ان السماء أوحت لطالوت بانّ قتل جالوت يتّم على يد بطلٍ يستوي عليه درع موسى ـ عليه السلام ـ [لا يغب عن بالنا، انّ الدرع المذكور وآثاراً أخرى، كان ترافق ظاهرة (التابوت) ومحتوياته]...
وهنا، كان لا بد لطالوت أن يبحث عن مثل هذه الشخصية، وعندها احضر طالوتُ (إيشا) أحد رعاة الأغنام، وكان له عدة أولاد، فألبسهم الدرع واحداً واحداً، حتى استوى على البطل دواد،...
وتقول النصوص المفسرة، ان داود جلب (مقلاعاً) و (مخلاة) وضع فيها احجاراً ثلاثة تناولها في الطريق، قبل وصوله إلى طالوت... كما ترسم النصوص شيئاً من ملامحه الفيزيائية المتصلة التي لا تتوفر عند الرجل العادي...
كل ذلك، يفسر لنا: ان دواد لم يختر عبثاً،... كما انّ سماته البطولية ـ لم تكن غير عاديةٍ فحسب ـ بل كانت ذات نمطٍ معجزٍ فيما يبدو، ما دام (الدرع) ـ وهو ظاهرة اعجازية ـ قد ارتبطت باستوائه على داود، فضلاً عن ان السماء هي التي أوحت بذلك لداود...
إذن. نحن الآن أمام بطلٍ متفرد، يتناسب تفرده مع المهمة العسكرية الملقاة على عاتقه.
إنبثاق مثل هذا البطل، إدانةٌ جديدة لليهود الذين تخاذلوا عن نصرة طالوت...
لقد انهزم ثمانون ألفاً من اليهود، وجمدت عروقهم قبل مباشرة القتال... لكن البطل طالوت (ومعه فئة قليلة من المؤمنين)، اقتحموا ساحة القتال... وكان (داود) هو البطل المختار لتحقيق النصر... وكان لا بدّ أن يكون ذات سمات متفردة، متميزة، مشفوعة بإعجاز من السماء، وذلك لسببٍٍ فنّي واضح في حركة القصة، هو: انّ المؤمنين ما داموا فئة قليلة لا يتجاوز عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، حينئذ لابدّ أن يقترن ذلك، بوجود ظاهرة إعجازية تكشف عن دعم السماء وإسنادها لهؤلاء الأبطال المؤمنين... وكان داود هو الظاهرة المذكورة، بسماتها المتميزة التي شرحتها نصوص التفسير.
مضافاً لذلك، ان داود [كما ستوضحه القصة، قد آتاه العلم، والحكمة، وعلمه مما يشاء] بعد مهمته المذكورة،.. مما بفصح ذلك عن أسرارٍ فنية جديدة، نستكشفها في هذا الصدد، بحيث يمكن القول ان اختيار مثل هذه الشخصية، سينعكس على مستقبلها الذي ستكون فيه (نبياً) ذا رسالة عصرئذٍ.
وبكلمة جديدة: ان السمات المتميزة لداود جاءت تعبيراً عن جملة من الأسباب الفنية، منها: ان وجود داود بطلاً جديداً في المعركة، سيهيء الأذهان إلى تقبل شخصية جديدة تحمل وظيفة (النبوة) فيما بعد.
وبالفعل ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ أنّ الناس قد اتجهوا إليه بعد سماعهم ببطولته التي مسحت جالوت، وألغته من الحساب،
ثم كانت: قضية نبوته على نحوما نعرفه في هذا الحقل.
لكننا، خارجاً عن ذلك، لم نتحدث عن طريقة قتل هذا البطل لجالوت... تقول النصوص المفسرة، ان دواد قد استخدم الأحجار الثلاثة في هذه العلمية... حيث رمى واحداً عن يمين جالوت، وثانياً عن شماله، فانهزم جنود جالوت، ورمى بالثالث جبهة جالوت فاخترقها إلى دماغه..
وتضيف هذه النصوص، خالعةً بعض الأوصاف الخارجية على شخصية جالوت، من ركوبه للفيل مثلا، وترصيع جبهته بياقوته تلمع: تعبيراً عن زهوه العسكرية... الخ.
ومما لا شك فيه، ان القصة ذاتها ما دامت قد نسجت الصمت حيال هذه الملامح الخارجية لكلٍ من شخصيتي داود وجالوت،... فإنّ هذا يعني ان مثل هذه الملامح تشكل أهمية ثانوية بالقياس إلى الأهمية الرئيسية لعملية النصر، متمثّلة في أنّ بطلاً واحداً من مجموعة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، قد حقق النصر، قبال جيش منظّم أعدته دولة...
لكننا مع ذلك، نجد ان اضطلاع النصوص المفسرة برسم الملامح الخارجية لكلٍ من دواد وجالوت... له تجانسه أيضاً مع الدلالة المذكورة.. فركوب الفيل مثلاً، وترصيع الجبهة بالياقوت قبال شخصية لا تحمل إلاّ أحجاراً عادية،.. إنما يدلّنا على مدى الفارقية بين شخصية مزهوة بملامحها عسكرياً.. وبين شخصية لا تعرف للزهو معنى، بل على العكس: تظل الأحجار تعبيراً عن أدنى درجات التحرك العسكري... فكم هو الفارق ـ إذن ـ بين زهوٍ ينتسب إلى الأرض، وبين بطولةٍ تنتسب إلى السماء، بحيث تمسح كل معالم الزهو الأرضي بمجرد إلقاء أحجار ثلاثة...
وأخيراً... تظل هذه النهاية، وحركة القصة بشكل عام، تظل: إدانةً كبيرة لليهود في كل أنماط سلوكهم: بل انها تفسّر لنا كلّ المسوّغات التي تجعلهم طوال التاريخ أذلاء بالرغم من فترات السيطرة التي يمارسون من خلالها أعتى أشكال القسوة: بمثابة رد فعل للجبن وللذل اللذين يطبعان شخصية اليهودي... لقد استعبدوا، فطلبوا منقذاً،... وجاء المنقذ فاعترضوا عليه،... ثم اضطروا إلى تقبّله بعد أن واجهتهم معجزة التابوت.. ثم تمردوا على أوامره، وهم في الطريق بعد.. ثم جبنوا عن مواجهة القتال في اللحظات الأولى، وانسحبوا بشكل مهين... لكنّ السماء، حسمت كل شيء، حينما أوضحت ـ من خلال هذه القصة ـ كيف إنّ الثقة بالله تصنع المعجز،... والى انّ الجبن والتشكيك وركوب الذات، لا يعود إلاّ بالخسران في الدنيا قبل الآخرة...
درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني
اترك تعليق