وراثة الأرض ... بين القرآن و التوراة والإنجيل

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)[1]، وتؤكد هذه الآية القرآنية وآيات أخرى في القرآن الكريم على حقيقة ثابتة وهي أنّ الله (عز وجل) سيجعل الصالحين المستضعفين الوارثين لهذه الأرض والمستخلفين عليها والمقيمين لحكم الله فيها والأئمة الهداة للمؤمنين (وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ)[2] (وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَني‏ لا يُشْرِكُونَ بي‏ شَيْئاً).[3]

وإنّ هؤلاء المستخلفين لا تقتصر وراثتهم على الأرض وإقامة دين الله وحكمه فيها، بل تمتد وراثتهم ليرثوا الجنة من بعد الأرض خالدين فيها، للصفات التي اتصفوا بها من رعايتهم وحفظهم للأمانات والعهود وإقامتهم الصلاة والتي تذكرها الآية الكريمة (وَالَّذينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ*وَالَّذينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ*أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ*الَّذينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيها خالِدُونَ) .[4]

وإنّ هذه الوراثة هي من سنخ الجعل الإلهي والإرادة الإلهية التي لا تتخلف عن المراد (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)[5]، فهؤلاء الأئمة الذين نصبهم الله وجعلهم الوارثين للأرض، لا يحق لكائن من يكون أنْ يتقدمهم أو أنْ يحل محلهم أو ينحّيهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، ومن يفعل ذلك فعذابه عظيم.

وعند الرجوع إلى الآية الكريمة في صدر البحث نجد أن الله (عز وجل) يؤكد هذه الحقيقة في الزبور والذكر، فما هو الزبور وما هو الذكر؟

بيّن المفسرون أنّ الزبور هو كتب الأنبياء، والذكر هو اللوح المحفوظ، ومنهم من قال إنّ الزبور هو الكتب المنزلة بعد موسى (عليه السلام)، والذكر التوراة، وهناك رأي ثالث هو أن الزبور هو زبور داوود، والذكر هو التوراة.

وزبور داود هو ما يعرف بسفر المزامير في العهد القديم، أمّا التوراة فهي أسفار موسى الخمسة، وعند الرجوع إلى هذه الكتب وغيرها من كتب العهد القديم نجد هذه الحقيقة واضحة وجلية بين ثناياها وتؤكد على أنّ الله سينتصر بالمؤمنين الصابرين على الطغاة والجبارين ويجعلهم يرثون الأرض ويملكونها، وهذا ما نقرأه واضحا في كثير من أسفار العهد القديم ومنها ما جاء في سفر المزامير ٣٧ : ٩ - ١١.

"لأن عاملي الشر يقطعون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشرير. تطلع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة".

وفي نفس المزمور الآية ٢٢ يقول: "المباركون من الرب يرثون الأرض والملعونون منه يقطعون"، وكذلك في الآية ٢٨-٢٩ من نفس المزمور: "الرب يحب الحق ولا يتخلّى عن أتقيائه. إلى الأبد يحفظون. أمّا نسل الأشرار فينقطع. الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد".

ففي سفر المزامير (زبور داود) تجد هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس في النهار وهي أنّ أولياء الله الصالحين والمتقين الذين باركهم الله هم الذين يعمر الله بهم الأرض ويورثها لهم ويجعلهم مستخلفين فيها، أمّا الأشرار فيدمرهم الله ويقطع دابرهم ولا يبقي لهم في الأرض ديّارا.

وهذه الحقيقة لا تقتصر على الزبور، بل هي موجودة ومكتوبة في الكتب الأخرى من العهد القديم (الذكر).

ففي سفر دانيال ٢٧:٧ يقول :"والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطى لشعب قديسي العلي. ملكوتهم ملكوت أبدي وجميع السلاطين إيّاهم يعبدون ويطيعون إلى هنا نهاية الأمر".

وكذلك في سفر ملاخى٩:٣ يقول:" هو ذا يأتي اليوم المتّقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود فلا يبقي لهم أصلا ولا فرعا ولكم أيّها المتقون لاسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها فتخرجون وتسرحون كالعجول المعلوفة. وتدوسون الأشرار لأنّهم يكونون رمادا تحت بطون أقدامكم يوم أفعل هذا قال رب الجنود".

ولم يكتف العهد القديم على ذكر هذه الحقيقة بل ذكرها العهد الجديد أيضاً. فقد جاء في سفر (رؤيا يوحنا) يقول: "من يغلب يرث كل شيء وأكون له إلها وهو يكون لي ابنا. وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني".

وهناك نصوص أخرى كثيرة تصبّ في نفس المصبّ كما في سفر الأمثال وسفر الجامعة ومن أحبّ فليستزيد، وخلاصة الكلام أنّ الله (عز وجل) وضع تخطيطا ومشروعا واقعيا لجعل الأرض تحكم بالعدل والحق ويزال منها حكم الطواغيت والجبابرة ومثل هذه الأطروحة لا يصحّ أنْ يقال عنها بأنّها مثالية وغير قابلة للتطبيق (لأنّ البشرية اعتادت على حياة الغالب والمغلوب والظالم والمظلوم والمتخوم والمحروم) ونحن نعلم أنّ القوانين الوضعية التي سنها بنو البشر وبعنوان حقوق الإنسان والقضاء على الظلم كانت هي الكفيلة بإنجاب الظلمة والمستبدين وإنّ الإنسانية يوما بعد يوما تزداد بؤسا وألما، فكلّما تطورت الصناعة والتكنولوجيا والطب والفلك نجد هناك تخلفا حضاريا في أساليب الحكم فتتطور معها أساليب الاستبداد والقتل والاتجار بالشعوب وسحق الطبقات الفقيرة والحروب وما شئت فعبر، لكنّ الإرادة الإلهية التي اقتضت جعل المؤمنين الصالحين هم الذين يرثون هذه الأرض والمستخلفين عليها هي التي ستنتصر في النهاية، وهي الأطروحة التي خلق الله من اجلها الأرض وجعل آدم وولده مستخلفين عليها وأخبر ملائكته بأنّهم لا يعلمون ما يعلمه الله، وكما رأينا فقد تظافرت الآيات والروايات وأخبار الديانات الأخرى على حتمية مجيء مثل هذا اليوم الموعود الذي تملا الأرض فيه قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

فيقول الله تعالى (هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[6]، ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) :"أبشّركم المهدي يبعث في أمتي على افتراق من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا ويرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء يقسم المال صحاحا ويملأ قلوب أمة محمد غنى ويسعهم عدله"[7].

ويقول الإمام الباقر (عليه السلام):"ولا يبقى في الأرض خراب إلاّ وقد عمر ولا يبقى معبود من دون الله تعالى من صنم ووثن أو غيره إلاّ وقعت فيه نار فاحترق"[8].

 

 

[1]  سورة الانبياء ، الآية 105.

[2] سورة القصص، الآية 5.

[3] سورة النور ، الآية 55.

[4] سورة المؤمنين ، الآية8-11.

[5] سورة السجدة، الآية 24.

[6]  سورة التوبة، الآية 33 .

[7]  عبدالحق الإشبيلي،  الأحكام الشرعية الكبرى، ج4، ص532.

[8] علي الكوراني العاملي، عصر الظهور ، ص ٣٢٢ .

المرفقات