تعبيرية الاشكال وحداثة الفن الشرقي ..

تفيد اغلب الدراسات الجمالية والفنية على أن كل ما صنعه الإنسان منذ القدم كان وفق ضرورة لإشباع حاجاته الضرورية، وقد جاء ذلك على عكس اعتقاد البعض أنه كان لحاجة جمالية خالصة كونه لا يوجد دليل ملموس على ذلك.

وقد ركز الفنان انتباهه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على ما تحدثه الشمس من انعكاس أشعتها على ألوان الطبيعة والمياه.. ومن تأثير زرقة السماء وخضرة الاشجار وضبابية البحار والانهار على الألوان، والتي شكلت بمجملها انطلاق الشرارة الاولى للاتجاه الانطباعي في الفن في اوروبا، والقت بظلالها على الفن العالمي ليضع الفنان الوانها بالفطرة ويشكل خطوطها بالصدفة كما هو الحال في التجريد فيما بعد فتُشكّل مساحات وأشكال وألوان مستندة الى رؤى فنية ذات أرضية ثابتة من الممارسة الأكاديمية .

وقد أخذ الفنان الشرقي من الفنان الغربي اكثر ما يستطيع من ذلك، من خطوط وألوان وأشكال دون إدراك منه بأنه بعيد كل البعد عن حيز الفنون الاخرى- كونه شرقي - وبالخصوص الفنون الغربية.. فالذوق الغربي مختلف عن الذوق الشرقي لا محال.. وذلك لاختلاف البيئة والموروث الحضاري ومن ثم الثقافة، وان بيئة الغرب بمناخها وضبابها وبحارها تتباين مع بيئة الشرق المتميزة بصحاريها وسهولها الواسعة وشمسها المشرقة وسمائها الزرقاء، والإنسان الشرقي ينقصه البحث والتنقيب والدراسة في الوقت الذي يستهويه الاقتباس والمحاكاة والتقليد التي تأثر بها من فنون الغرب .

ومن الملاحظ ان الفن التشكيلي في الشرق عموما وفي العراق خصوصا لم يكن له وجود اجتماعي مهم في بادئ الامر إلاّ في بيوتات بعض الحكام او أبناء الباشوات والأفندية والعوائل المرموقة وبعض الهواة من محبي فن الرسم في مقتبل القرن العشرين.. وكانت من مميزات رسوم تلك الفترة في العراق بالتحديد.. انها كانت مقلدة لبعض اساليب فنون الغرب من جانب ، ومن جانب آخر كانت مقتصرة على  تصوير مشاهد الطبيعة العراقية الجميلة وتوثيق بعض المشاهد اليومية من الواقع او البيئة العراقية مثل بعض مشاهد غروب الشمس وشروقها او تصوير الريف العراقي، اضافة الى رسم قلة من الصور الشخصية للاعيان او الباشوات آنذاك، فلم يكُن الفنان العراقي مُقلداً مباشراً للفنون الأوربية، ولو كان كذلك لالتفت إلى المواضيع والأساليب التي يفتقر إليها الفنان الأوربي.. ولَصاغ منها طابعاً مميزاً لشخصيته الفنية كما فعل يحيى بن محمود الواسطي باستخدام الإبل والخط العربي في رسومه، وغيرها من المواضيع الشرقية فهي مواضيع لا تنضَب للإلهام ولا تنتهي للإبداع، والتي ظهر جانب منها في رسوم العديد من فناني الغرب مثل ديلاكروا و كاندنسكي و بول كلَي و ماتيس و بيكاسو وغيرهم.

اغلب هؤلاء الفنانين وغيرهم من فناني الغرب قد نهلوا من ينابيع الشرق بعد أن تفاعلوا معها وتأثّروا بها على وفق وَعيهم وإبداعهم الفني، بينما لا نرى لتلك المواضيع مكاناً فـي نِتاج الفنان الشرقي الذي اكتنزَت ثقافته بتراث أصيل وغزيـر، بل باتت عينه مُتطلّعة على الفنون الغربية وروائعها ينهل منها كل جديد فأصبح من الصعب على الفنـان الشرقي أن يُكوّن لـه طابعاً خاصاً ويخلق لنفسه شخصية متميزة ، بقول فيلسوف الجمال سانتيانا في هذا الامر( ان لكل بلد ولكل جنس ولكل عمر جمال خاص به وهو جمال ذو حدود ، ويستعصي عليه الانتقال إلى غير موطنه.. وكلما قَرُب الموضوع من هذا الجمال ازدادت مخارجه لضروب الجمال الأخرى  .

وهنا يلحظ المتابع لمسيرة الفنون الشرقية او الغربية ان هنالك تداخل في الذهنيات بين الشرق والغرب، أدّى إلى خلق مزج واضح بين الحضارات الشرقية والغربية في مجال الفنون المختلفة، حيث استفاد الغرب من الشرق والشرق من الغرب ايضاً، وهذا التداخُل انعكس على ساحة الفن التشكيلي العراقي عندما أتى الفنانون البولنديون إلى بغداد مقتبل القرن العشرين وقد حصل العكس ايضاً، وهذا ما لوحظت آثاره فنلاحظ في اساليب العديد من الفنانين العرب والغربيين على حد سواء ، ولكن الفارق يتضح للمتابع حينما يعلم ان الفنان الغربي يعتمد على المحسوسات في فنه فهو ينظر للطبيعة ويقيس جمالية الاشكال.. وهو بذلك يكون نسبي في تعامله مع حضارته انطلاقاً من ان إنسان الصيد الاول يراقب الطبيعة ويستفيد منها، على العكس من الإنسان الشرقي المتأثر بعصر الزراعة الاول وبمنبع الجمال والذي كان يعتمد على الحَدس في قياس جماليات الاشياء القائمة على المُطلق ومنه قد يتحقق الفن الاصيل .. فالأصالة هي تراث الامم والخادم الامثل لواقعهم.. وهذا لا يتحقق إلاّ في حالة وجود صراع وحوار بين التراث والواقع ومن هذا الصراع  تتكون وتبنى الحضارات.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات