تتضمن سورة (الكهف) أربع قصص أو حكايات: يستقل كلٌ منها عن الآخر من جانبٍ، كا تتداخل هذه القصص بعضها بالآخر من جانبٍ ثان. أو لنقل ـ من جانب ثالثٍ ـ انها تحوم على ما أفرزته مقدمة السورة من (أفكار) تتمثل بخاصة في الآيتين التاليتين اللتين سبقتا قصة أهل الكهف.
(إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها، لنبلوهم ايّهم أحسن عملاً.
(وانّا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزاً).
ففي هذه المقدمة يحدثنا النص عن وظيفة الكائن الآدمي على الأرض، واخضاعه للأختبار (أيّهم أحسن عملاً): مع ملاحظة ان النص رسم للأرض طابعاً خاصاً هو (الزينة)، أي: ان الدنيا أو الأرض تظل مجرّد زينةٍ أو حليةٍ أو متاع عابر صاغته السماء بمثابة منبّهات أو مثيرات لها صلة بدوافع الشخصية، لتختبر السماء من خلالها نمط الاستجابة التي ستصدر الشخصية عنها، وهل انها إستجابةٌ سويةٌ ملتئمة مع مباديء السماء التي أمرتنا بالالتزام بها، أو أنها إستجابةٌ مريضةٌ تتمركز حول الذات وإشباعها بلا قيد.
وقد عقّبت السماء ـ في الآية الثانية ـ على هذا المتاع أو الزينة، حينما ألغته أساساً، وجعلته صعيداً أجرد (وانا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزاً).
ونحن ينبغي ألاّ نقف عند هذه الصورة [صعيداً جُرُز] أو صورة [الأرض الجرداء]، اقول: ينبغي إلاّ نقف على الصورة المتقدمة وكأنها مجرّد صورة فنّية أو تعبير جمالي، بقدر ما ينبغي أن ننظر الى هذه الصورة أو الرمز إلى انها صورة فنية بالغة الجمال، تنطوي على دلالة بالغة المدى أيضاً. فالمتاع أو الزينة تظل مجرد حلية خارجية على الأرض ثم تتلاشى هذه الزينة حتى تصبح الأرض جرداء ملساء لا أثر لها من الزينة المذكورة وحيال هذا، تحسّسنا الصورة الفنية المتقدمة، إلى اننا إزاء (إختبار) أو (إمتحان) ينبغي أن نجتازه بنجاح مادامت الزينة أو المتاع مجرّد لباس أو نبتٍ مصيره إلى الزوال التام: أيّ، انه متاع فاقد للقيمة أساساً، فيما ينبغي ألاّ نقيم له أيّ وزن على الإطلاق.
ولكي يجسّد النص القرآني الكريم، هذا المفهوم في أذهاننا، يتقدمّ إلينا بنصٍ قصصي يجسّد عملياً مفهوم هذه الزينة على الأرض، وكيفية سحقها ونبذها تماماً: حيث يتمّ ذلك من خلال قصة أصحاب الكهف الذين نبذوا زينة الحياة الدنيا تماماً، واتجهوا إلى (كهف) يعزلهم تماماً عن الأرض وزينتها.
إذن: المقدّمة أو التمهيد الذي استُهلت سورة الكهف به، ينطوي على مهمّة فنيةٍ تلقي باضوائها على محتويات السورة...
ومحتويات السورة توسلت بعنصرٍ قصصي، يُجلي خطوطها بوضوح: ما دامت القصة ـ أساساً ـ تُوظّف في النص القرآني الكريم، لإنارة الحقائق بوسيلة فنية تكون اشدّ من غيرها في إحداث التأثير على المتلّقي..
مرة جديدة، يتعيّن علينا قبل أن نتابع قصص سورة الكهف، أن نُذكّر المتلّقي بأننا حيال مقدّمة أو تمهيدٍ تصدّر سورة الكهف، وإلى انّ القصص التي تتضمّنها السورة، ستحوم على المفهوم الذي أفرزنه المقدّمة، وما يتفرع عليها من مفهومات، سنقف عليها في حينه.
ومثلما قلنا، فان أول قصة تواجهنا بها سورة الكهف هي: قصة أصحاب الكهف، فيما يمثلّون تجسيداً حيّاً لمفهوم الزهد بمتاع الحياة.
والآن: كيف تمت صياغة هذه القصة، من حيث قيمها الفنية والفكرية؟
أول ما ينبغي أن نقف عنده في دراسة هذه القصة، هو: شكلها الفنّي من حيث بناء الحدث فيها.
لقد بدأت القصة من وسط الحدث وارتدت الى البداية. ثم واصلت تسلسلها الزمني إلى نهاية الحدث.
لقد بدأت القصة، هكذا:
(إذ آوى الفتية إلى الكهف.
(فقالوا:
(ربنا آتنا من لدنك رحمةً. وهيء لنا من أمرنا رشداً.
(فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً.
(ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً).
ففي هذه البداية القصصية يبدأ الحدث بدخول الفتية الى الكهف، وطلبهم من الله أن يهديهم سبيل الرشاد. ثم يوضّح النص القصصي في سرد مجمل الى انّ هؤلاء الفتية قد أنامهم الله عدداً من السنين إجابةً لدُعائهم. كما يوضح بالمستوى نفسه من الإجمال، إلى أن الله بعثهم بعد ذلك ليُعلم أي الفريقين: المؤمن والكافر أحصى لما لبثوا فيه من السنين.
بعد هذه البداية القصصية المجملة التي سرد الحدث فيها من الوسط، يعود النص الى بداية الحدث من حيث تسلسله الزمني، فيحدثنا عن هؤلاء الفتية الذين طلبوا من الله أن يهديهم سبيل الرشاد، مبيناً سبب ذلك. موضحاً أنّ السبب في ذلك عائدٌ الى انّهم كانوا من الشخوص المؤمنة التي ضاقت ذرعاً بمناخ الكفر: يقول النص القصصي في هذا الصدد، على لسان الأبطال المذكورين:
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهةً...).
وتبعاً لذلك، اقترح أحدهم الدخول إلى الكهف:
(فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربّكم عن رحمته…).
وبهذا النحو من تقطيع الحدث، يعود النص القصصي إلى وسط القصة التي بدأ بها، أي: الدخول الى الكهف. ثم يتابع الأحداث والمواقف التي رافقت دخولهم إلى الكهف، حتى نهاية القصة التي سنقف عليها، فيما أجملها النص في بداية القصة، على نحو ما ذكرناه.
والآن: بعد أن أوضحنا بناء القصة من حيث الزمن النفسي والموضوعي فيها... يحسن بنا أن نوضح السبب الفنّي وراء بداية القصة من وسطها بدلاً من أوّلها. أي: لماذا لم تبدأ القصة: حيث كانت الفقرة الاخيرة من حوار البطل (يهيّء لكم من أمركم مرفقاً)..
هذه الفقرة، لها موقعها الهندسي الكبير من البناء القصصي: كما قلنا، حيث انها تشكّل همزة وصلٍ بين القسم الثاني والثالث من القصة.
فالبطل الذي رسمه النص واثقاً بالله، من انّ الله سيهيء لهم في حياة الكهف، تكيفاً جديداً، أو إنقاذاً من كلّ صعوبة محتملة... هذه الثقة بالله، ستجدُ لها صدىً كبيراً في الجزء اللاحق من القصة، حيث ستكون السماء عند حسن ظن البطل... وستحقق له ولجماعته كل وسائل الحياة التي تتطلبها طبيعة الكهف.
إنّ القارئ أو المستمع، سيلفه غموض تام حيال هذا الكهف الذي توجه الفتية إليه.
انه يتساءل: ماذا سيصنع الفتية في الكهف؟
ما هو زادهم.. من مأكلٍ أو مشرب؟
هل انّهم يستسلمون للموت: ما دامت حياة الكهف خاليةً من الزاد الذي يمدهم بالحياة؟
هل انهم يتوقعون ان تمدهم السماء بوسائل جديدة من التكيف؟
هذه الأسئلة يطرحها المتلقي دون أدنى شك... ولسوف نجدها لها جواباً عندما نتابع الجزء الجديد من القصة.
غير ان ما نعتزم لفت الانتباه إليه الآن، هو: الموقع الهندسي لحوار البطل من حيث بناء القصة.
فالقصة، سرعان ما تقدم لنا جواباً على فقرة البطل الذي كان واثقاً من انّ السماء، ستهيء له ولجماعته، خلاصاً في حياة الكهف.
وها هو الجواب، يقدمه النص القصصي في الفصل الثالث من القصة:
(وترى الشمس إذا طلعت تزاورُ عن كهفهم، ذات اليمين. وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال. وهم في فجوة منه...).
(وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ. ونقلبهم ذاتَ اليمين وذات الشمال. وكلبهم باسطٌ ذراعية بالوصيد. لو الطلعت عليهم، لوليت منهم فراراً، ولملئت منهم رعباً).
إنّ هذا الفصل القصصي، يظل ـ من جانبٍ ـ متصلا بالحوار الذي لحظناه في الفصل السابق من القصة: حيث يجيء في سياق البناء الفني تطوراً عضوياً لذلك الحوار الذي أوكل ثقته بالله: إذ يقدم النص جواباً لتلك الثقة، والظن الحسن بالسماء. حتى كأنّه يقول لنا:
أنعموا ايها الأبطال بهذا الظن الحسن، وبتلك الثقة العظيمة... فلقد قلّبنا ـ من أجلكم موازين الكون: حيث الشمس تخرق قانونها الطبيعي، وحيث النوم يخرق قانونه الحيوي، وحيث الحياة والموت أساساً سيكون لهما ـ من خلال الأبطال ـ مسارٌ آخر، يلفه المعجز والمدهش والمثير.
إذن: كيّفت السماء لهولاء الأبطال حياة جديدة، جاءت متوافقةً تماماً مع حسن ظن الأبطال بالله.... مع تلك الثقة العظيمة بالله... تلك الثقة التي جسّدها حوار أحدُ الأبطال حينما قال: (يهيّء لكم ـ أي الله ـ من أمركم مرفقاً). تلك الثقة التي قلنا: انّ الحوار من خلالها ـ يجسد موقعاً فنياً من القصة، بحيث يسهم في تطوير المبنى العضوي لها، فضلاً عن الوظائف الفنية التي لحظناها في عنصر الحوار المذكور.. مما يكسب النص القصصي مزيداً من الجمالية التي نحرص على تحديد معالمها في هذا النص الذي ندرسه.
بيئة الكهف
في هذا الفصل من قصة أصحاب الكهف، يبدأ الرسم القصصي يأخذ منحى إعجازياً، في وصف (البيئة) التي يتحرك من خلالها أصحاب الكهف.
فهؤلاء الأبطال، قد صمموا على التوجه الى الكهف. وكانت ثقتهم بالله ـ سلفاًَ, أنّ السماء ستهيء لهم وسائل التكيّف مع البيئة الجديدة.
والان: ما هي معالم هذه البيئة؟؟
من حيث المكان
يقول النص القصصي، انّ المكان الذي انتظمه الكهف، هو: (في فجوةٍ منه)، أي: كان فناءً متسعاً من الكهف، ربض الأبطال فيه. هذا المكان، لم تكن الشمس لتدخل فيه.
فعند طلوع الشمس، تميل الشمس عن الكهف إلى جهة اليمين. وعند غروب المشس تميل عنهم نحو الشمال. وهذا يعني، انّ الكهف يظل بمنأىً عن الشمس في الأزمنة جميعاً.
وتقول النصوص المفسرة، أنّ ذلك قدتم تكيفه، حتى لا يؤذي الأبطال حر الشمس، وحتى لا تغيّر الشمس من ألوانهم، وحتى لا تبلي ثيابهم.
ويلاحظ: انّ النص لم يرسم لنا من المكان إلاّ ما تقدم. كما يلاحظ، انه لم يرسم من عمليات التكيف معه إلاّ ظاهرة الشمس من حيث انحرافها عن الكهف.
ويلاحظ ثالثاً ان النص رسمهم رقوداً يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.
وعدا اولئك، لم يحدثنا النص القصصي عن أي ملمحٍ من ملامح التكيف مع حياة الكهف: خلال فترة الرقاد.
انّ ما نعتزم طرحه ـ في ضوء (البيئة) القصصية المذكورة ـ هو:
1ـ الطابع (المعجز) لها.
2ـ البناء الجمالي في الرسم.
3ـ المفردات التي اكتنفتها.
1 ـ الطابع (المعجز) للبيئة
منذ البداية، يظل الطابع المعجز سمةً ملحوضةً ترافق كلّ معالم البيئة التي تحرّك الأبطال من خلالها.
فلو عدنا إلى النصوص المفسرة للحظنا انّ بعضها يُشير إلى أنّ الأبطال ما أن صمموا على اللجوء إلى الكهف، والتوجه فعلاً إليه... حتى واجهوا منذ البداية عنايةً خاصة تظلّهم، حيث وجدوا بإزاء الكهف ينبوعاً وأشجاراً مثمرةً: وعندها تناولوا من الطعام والشراب ما سدّ حاجتهم من ذلك.
يكشفان لنا بطريقة فنية بالغة المدى عن عقلية كلٍ من الفريقين المتنازعين، ومدى نظافة الفريق المؤمن، مقابلاً لوساخة الفريق غير المؤمن.
فمن الواضح ـ من خلال منطق الفن القصصي ـ أن رسم المظاهر المادية للبيئة ـ في أي نص قصصي ـ إنّما يكتسب خطورته الفنية بقدر ما يحقّق تلاحماً بين الشكل والمضمون: أي، ينبغي ان يكون رسم مشهدٍ أو مراىً طبيعي أو مصنوع مثل [الجدار والمسجد]، غير مقتصر على كونه مجرد مشهدٍ أو مراىً يشبع احاسيسنا الجمالية، ويمدنا بمجرد التسلية والمتعة،... بل ينبغي ـ وهذا شأن الأعمال الفنية الكبيرة ـ أن يُعبّر المشهد أو المرأى عن دلالة وراء رسمه.
وهنا، في حقل الاقتراح الذي يطالب ببناء الجدار، والاقترح الذي يطالب ببناء المسجد، نلحظ ان كلا من (الجدار) و(المسجد) ينطويان على دلالة نستكشف من خلالها: الموقف العقائدي لكلٍ من الفريقين وطريقة تعاملهما مع الحقائق التي تكشّفت تماماً أمام الجمهور، عندما شاهد ـ من خلال منطق التجربة ـ ان السماء قادرة على ان تميت وتحيّ، وان تفعل ما تشاء: تماماً كما صنعت بهؤلاء الفتية الذين أنامتهم طوال هذه المسافة الزمنية، ثم أيقظتهم قبل النشور.
اقول: بالرغم من هذا المنطق التجريبي الذي دمغ القوم غير المؤمنين ... فان عنصر التشكيك قد لف عقولهم، بحيث اقترحوا إقامة الجدار عليهم، معقبين على ذلك (ربهم اعلم بهم) فان هذه الفقرة تفصح عن انهم لم يبلغوا مرتبة اليقين بهذا المعجز كما هو واضح.
وعلى العكس من ذلك، فإن المؤمنين تقدموا باقتراح بناء مسجدٍ على الكهف، ليكون شاهداً حيّاً على المعجز،... مفصحاً في الآن ذاته عن إيمانهم بالقضية المذكورة.
وهذا كله، في حالة تذوقنا الفني الصرف ـ نحن المتلقين ـ.
لكننا حينما ننساق مع تفاوت النصوص المفسرة من جانب، ونخضع التذوق الفني لاستخلاصات غير ما تقدم... حينئذٍ سنواجه دلالات أخرى يحسن الوقوف عندها أيضاً.
درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني
اترك تعليق