لا غرابة في أن يحتل فن الخط العربي مركز الصدارة ضمن قائمة الفنون السائدة في المجتمعات الإسلامية.. وخصوصاً حين أخذ هذا الفن الرصين مادته من كلمات الله التامات في القرآن الكريم، فقد استطاع الخط العربي ومن بعده فن الزخرفة أن ينقل البيئة الأساسية للفهم المنطقي للأشياء إلى مادة فنية تصويرية، ومنها الى بيئة فنية يصبح من خلالها الوعي الجمالي اصيلاً قائما بذاته لا بغيره، فالخطاط المبدع يعمد على صياغة حروفه بما يعطي للوحة المرسومة او المنقوشة او التحفة المرصعة جمالية ما بعدها جمالية.
لقد استخدم هذا الفن الراقي في اغلب العمائر والأضرحة الاسلامية في العراق.. وقد تميز مرقد الامام الحسين عليه السلام في كربلاء عن باقي الاضرحة المقدسة في العراق بلحاظ الحضور الواسع للخط العربي المزين لمرافق المرقد الشريف.. حتى لم يكد الزائر ان يتطلع على أي فن معماري إسلامي في الحرم المقدس إلا ويجد الخطوط قد تعانقت مع البنى المجاورة المتمثلة بتفاصيل عمارته الرائعة ونقوشها النباتية والهندسية والتي تجاوزتها حتى أصبحت جزءاً منها، فيكثر في هذا المشهد المشرف استعمال خط الثلث دوناً عن غيره من انواع الخطوط كونه يعد خطاً مركبا متراكبا ومتداخلا يستوعب الكم الاكبر من الكلمات وعلى مساحات محدودة، ونجد ايضاً حضوراً لبعض الخطوط الاخرى مثل خط النسخ والخط الكوفي الذي يمتلك من الزوايا القائمة ما يساعد على تشكيل كثير من النقوش ذات الطابع الهندسي في الحرم المقدس، ولابد هنا من ذكر ان اول مخطوطة سجلت لمرقد الامام الحسين عليه السلام في ارض كربلاء كانت عبارة عن كتيبة بخط الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام كتبها بإصبعه ووضعها على قبر أبيه وهي تنص على ان (هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشانا غريبا).
ان الزائر المتأمل لروعة النقوش والخطوط المزينة لحرم الامام الحسين عليه السلام، يلاحظ بروز الزخارف الفنية الى جانب الخط، بوصف ان الزخرفة هي عملية جمالية يأنس لها أي مشاهد، فهي تعد من الفنون التي تعلمها الانسان من البيئة والطبيعة التي يعايشها، وبعد أن استوعبها أخذ يطورها تماشيا مع سنن الحياة التي أخضعت كل شيء الى التطور والتطوير، وفي العمارة الاسلامية تتشكل الزخرفة من النقوش النباتية والهندسية والخط، وتقام على أرضية من الخشب او المعدن او الجص او الكاشي الكربلائي، وغيرها ويبدو ان للروضة الحسينية السبق في استخدام جميع أنواع الزخرفة على السطوح الخشبية والمعدنية.
ولو تتبعنا مصدر الزخارف الاسلامية من خلال الحرف لوجدنا انها عرفت عند بعض الحضارات السالفة، غير ان الفنان المسلم من خلال استعماله للآيات القرآنية كوسيلة تعليمية اوعبادية.. زين بها المشاهد المقدسة والمساجد كونها محطه ارتياد الفرد المسلم بغية التعبد والتقرب من الخالق جل وعلا، و من جانب آخر تزين المساجد والمشاهد الدينية بآيات القرآن حفاظا لها من النسيان و تعويد عيون المسلمين علي النظر اليها و قراءتها باستمرار، فقد ادرك الفنان المسلم ان الخط العربي يتصف بالخصائص التي تجعل منه عنصرا زخرفيا طبيعيا يحقق الاهداف الفنية والروحية، و كثيرا ما استعمل الخط استعمالا زخرفيا بحتا دون الاهتمام بالمضمون المكتوب و قد استعلمت اشرطة الكتابة علي التحف والنفائس المختلفة، و علي العمائر على الجدران وتحت السقوف ومحيط القباب، فالخطاط هو الذي يحدد الفراغات التي يملاها المزين او النقاش بالأشكال او الصور التوضيحية لتزيين سطح ما.
ولو تطرقنا لتأريخ الاهتمام بكتابه المصاحف و زخرفتها من اجل الحفاظ علي آيات القرآن الكريم من الضياع و النسيان، لوجدنا ان المسلمين قد اولوا عناية خاصة بكتابة آيات الذكر الكريم بأنواع الخطوط المختلفة، فكتبوها علي صفائح من الذهب و الفضة و على سطوح من العاج و طرزوا آيات الكتاب بالذهب و الفضة على خامات من الحرير و الديباج، و زينوا بها محافلهم و منازلهم، و نقشوها علي الجدران في المساجد ودور الضيافة و المجالس العامة، ومن المميز في مرقد الامام الحسين في هذا الخصوص ان المصحف الشريف قد خط كاملاً على جدران المشهد الشريف من الداخل والخارج وعلى شكل اشرطة كتابية مختلفة الاحجام واشكال الخطوط ومجملها تشترك بانها خطت على الكاشي الكربلائي المميز باللون الازرق، فضلاً عن بعض المخطوطات المحفورة على الاجر والمرمر وبعض الاشرطة الكتابية المصاغة على المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس والمميزة في نقوش الشباك المعدني للقبر الشريف وبعض المنافذ في القبة والمنائر الذهبية .
لقد سعى الفنان المزخرف والخطاط المسلم جاهداً وراء إيجاد نسق زخرفي روحي يتلاءم مع السكينة النفسية للمتلقي المتوخاة من خلال إبداعات الفنون الإسلامية المزينة للحضرة الحسينية المقدسة وباقي المشاهد الاخرى، فقد حرص الفنّان المسلم في مختلف التقنيات عند اشتغاله، على تطويع مواده بما يتلاءم مع الرؤية العامة للإطار البنيوي لما يبدعه، والمتمثل في العمل على بلورة صور الجمال الظاهري للقطعة لتكون نفق العبور بالمتأمل إلى الإحساس بالجمال الباطني بين ثنايا نفسه حتى تستحوذ عليه مشاعر الجلال الجمالي.. فجماليات التحفة الفنية ضمن هذا المكان المقدس ما هي إلا نتيجة احتدام قوى داخلية في نفس المبدع ظاهرها جمال دنيوي وباطنها اخروي فجمالية عمارة مرقد الامام الحسين عليه السلام كسائر مراقد الائمة الاطهار سلام الله عليهم تحيل إلى الإحساس بالسكينة الروحية، والتأمل في قبابها يدفع المتلقي للتفكير في الملكوت الأعلى والتفكر بعظمة الخالق ومكانة المخلوق .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق