التكوين الفني من المنجزات الابداعية المعبرة عن الموقف الروحي للفنان العراقي الراحل شاكر حسن ال سعيد، والذي يبدو فيه جلياً للمشاهد انه قد افلح بدمج حياته الروحية مع موروثه المحلي وما اكتسبه من خبرات وثقافات غربية عبر مسيرته في مجال الفن التشكيلي.. فاخرج اللوحة لتكون سطحاً مستوياً يحمل العديد من النقاط أو الخطوط البعيدة والاشارات المجهولة التي شكلت بمجملها تكوينا لونيا نفذ بشكل تجريدي غير واضح المعالم بعيداً عن الواقعية.
صوّر آل سعيد في هذا السطح التصويري حقلاً بصرياً تزدحم فيه الالوان والرموز الخطية بأسلوب تصميمي فني ،قائم على علاقة التنافر و المزاوجة بين الألوان والخطوط، إذ يؤشر التكوين علاقة الفنان مع بنية العمل نفسه، وهي علاقة إذا ما تقصينا حقائقها المعرفية لوجدنا انها تمتد إلى مرحلة الحضارة الرافدينية القديمة، حيث العلاقة الصميمية والعذرية بين الإنسان ونتاجه الفني تكون تحت وطأة سلطة ما، فتكون ذات الفنان ممزوجة بالإرادة الحرة في ممارسة العمل الفني الإبداعي وبحالة من التلقائية القريبة إلى حدٍ بعيد من حالة رسوم الاطفال واللعب الحر، فكلنا يعلم ان الفرق بين الفنان الاول والفنان المعاصر يكمن.. في أن الأول كان يزاول فعل الرسم لغرض الإفصاح عن مكنونات ذاته القلقة حيال الوجود المبهم بالنسبة إليه ، بينما الفنان المعاصر عادة ما ينتابه القلق من الوجود المزدحم المحيط به والذي يشكل عبئاً يثقل كاهله عندما يفكر بمصيره في هذا العالم الذي ترك لديه خزيناً من الانطباعات اللامحدودة والتي دعته القلق الدائم والتأهب لكل ما هو كائن او قد يكون.
لو دقق المشاهد النظر في هذا التكوين الفني لوجد انه جاء كاستجابة ملموسة للتحوّلات المُتسارعة في ميدان الفن العراقي المعاصر منتصف القرن المنصرم ، وانه جاء ايضاً لدعم فكرة إعادة قراءة مفهوم الفن وفق آليات جديدة تعلن الولاء للفكرة الفني الاوربي الضاغط في المجتمع آنذاك.. فالفن العراقي المعاصر ظهر كانعطاف مباشر للتطور العالمي الذي طراء على الساحة الفنية، وهوما ظهر جلياً في كثير من الاعمال الفنية العراقية ومنها التكوين اعلاه، حيث تثير الإشارات البصرية المنبعثة من سطحه إلى وجود تنافر مقصود بين الصورة الفنية والرموز الواقعية، فالصورة الفنية كما يقترحها الفنان هنا هو صورة ناجحة لمقاييس الذات بالدرجة الاساس.. ومن ثم استجابتها لثقافة الفرد ومحاولة كسب تلك الثقافة واستثمارها على نطاق اوسع كأداة جذب وسلطة تملي ضرورتها على ذات الفنان من خلال الترويج لتلك الثقافة بتغذية ذات تأثير جانبي يستطيع الفنان من خلالها الربط بين الماضي والحاضر بسلاسة.. بينما نجد أن الصورة الواقعية التي يحاول لفنان استخلاصها من مجمل مشاهداته الفنية في هذه اللوحة او غيرها من اعماله، هي صورة تقترب في كثير من مفاصلها من المضمون أو الخطاب الذي يحاول العمل الفنان طرحه من خلال اشكاله الفنية المموهة، فالعمل الفني الحالي كان - كما هو حال اغلب نتاجات آل سعيد الفنية - وسيلة لطرح ثقافة الاحتفاء بالذات كشخصية متفردة تحاول خلق حالة من الأنا لذاته والتقديس للماضي والوفاء للحاضر الذي يعيشه الفنان.
إن الفعل الذي يقوم به الفنان في هذه اللوحة ، هو فعل قصدي سعى من خلاله لكشف البنى اللونية والخطية المكونة للاشكال ، وإن فعل المتعة اللونية والخطية يقود الفنان إلى الاتزان العاطفي المؤقت حتى بلوغ مرحلة قلق جديدة تؤسس للوحة اخرى، فمن المؤكد ان الفنان شاكر آل سعيد في هذه اللوحة كما هو حال اقرانه من رواد الفن العراقي المعاصر، يمتلك من العفوية الشيء الكثير للابتعاد عن التكلّف والقصدية، إلاّ في بعض الأجزاء من البنية العامة للوحة، وهذا واضح للمتلقي من خلال المزاوجة بين الاجناس الفنية المختلفة مثل بعض الكتابات واشكال الارقام وطريقة توزيع الالوان والخطوط المتقاطعة من فوقها، وبالوقت نفسه ، فإن الفنان يحاول أن تكون أشكاله حرة دون ممانعة أو عائق على أساس قيمي أو عقائدي أو حتى تقني، فكل ما يخدم جمالية وتكامل العمل الفني هو جائز، ومنه فإن الفنان يعبّر عن عالم فيه من الفوضى والحركة والانفعال ، ما يكفي لأن يكون شيئاً فريداً بأشكاله والوانه، وعليه يكون نتاجه الفني يكتفي بالانفعال وهو محمل برسالة ذات دلالة قصدية معينة فهو وجد للتعبير عن الثقافة الشعبية والثقافة البرجوازية.. وبنفس الوقت يذكّر بالفنون الرافدينية الأولى كونها فنون ضاغطة فكريا على الفنان.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق