(واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق، إذ قربا قُرباناً فتقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر.
قال:
لأقتلنك...
قال:
إنّما يتقبّل الله من المتقين.
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه.
قال:
ياوليتا أعجزت ان أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي، فأصبح من النادمين).
تلخيص الأقصوصة
تقول النصوص المفسّرة، انّ آدم ـ عليه السلام ـ أمر ولديه قابيل وهابيل ان يقرّبا قرباناً إلى الله لحسم واقعةٍ خاصة بهما. وكان قابيل صاحب زرع فقدّم الردي من زرعه قرباناً. أما هابيل فقد كان صاحب غنم: فقدّم كبشاً من أحسن غنمه قرباناً.
وتُقِبّل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان أخيه الذي قدم الرديء من زرعه.
من هنا دب (الحسد) في أعماق قابيل، وبخاصة أنّه تصوّر أن يكون لهابيل عقب سيفتخرون به على ذريّة هابيل أخيه،... ولذلك قرر قتله تفريجاً له عن الأعماق الحاسدة، وتخليصاً من الذّرية المفتخرة عليه وفعلاً تمت عملية القتل.
وقبلَ هذه العملية، جرى حوارٌ بين القاتل والمقتول، إذ أعلن قابيل بصراحة عزمه على قتل أخيه، مبيناً له سبب إقدامه على هذه العملية، وهو عدم تقبّل قربانه.
وأجابه أخوه هابيل:
ما ذنبي أنا؟؟
إنما يتقبّل الله من المتقين الذين يحملون قلباً زاكياً.
وأضاف هابيل قائلاً:
لئن قررت قتلي، فانني لن افكّر بقتلك أبداً، لانني أخاف الله ربّ العالمين.
ثم أضاف:
انني أريد أن تتحمل مسؤولية عملك الذي تنوي الاقدام عليه، ومسؤولية عملك السابق أيضاً، فتكون من أصحاب النار.
إلا ان قابيل لم يصغ على هذه الحقائق.. فقرر الإقدام على القتل، ونفذ العملية فعلاً...
وتقول النصوص المفسرة، ان القتل قدتمَّ من خلال أخذه رأس أخيه، ووضعه بين حجرين، وشدخه.
ثم، ان القاتل واجه صعوبة ماذا سيصنع بالمقتول. وهنا أقبل غُرابان يقتتلان فيما بينهما حتى قتل أحدُهما صاحبه، فحفر الأرض بمخالبه ودفن فيه الغراب القتيل.
حينئذٍ، تحاور قابيل مع نفسه قائلاً:
(أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب، فاواري سوءة أخي؟؟).
وفعلاً، حفر قابيل حفيرة، ودفن فيها أخاه هابيل.
إن هذا التلخيص لإقصوصة إبني آدم عليه السلام، يدلنا على انّ هذه الحكاية ينتظمها بطلان هما: قابيل وهابيل: كما انّ هناك بطلين ثانويين هما: الغرابان الذان اقتتلا فيما بينهما، ووارى أحدُهما صاحبه بعد القتل.
وهذا يعني، ان (الحادثة) التي تنتظم الأقصوصة هي: حادثة (قتل)، تسبقها حادثة تقديم القربان، وتلحقها حادثة الدفن.
أما الأفكار التي تنطوي الأقصوصة عليها، فتتمثل في جملة من الظواهر، أبرزها: ظاهرة (الحسد) الذي يغلف النفس الإنسانية. ومنها أيضاً:
ظاهرة (الحرص) أو (البخل)، متمثلةً في تقديم الرديء من الزرع في عملية (القربان).
ويهمنا الآن أن نتحدث عن البناء الفني لهذه الأقصوصة؛ بناءُ الحدث في هذه الحكاية أو الأقصوصة، يأخذ تسلسله الزمني: إذ يبدأ بواقعة تقديم القربان، مروراً بواقعة القتل، وانتهاءً بواقعة الدفن.
ويلاحظ أن النص قد اختزل بعض تفصيلات الحدث، وأبرز البعض الآخر منها.
فهو يتحدث عن واقعة تقديم القربان، إلاّ انه لم يحدثنا عن أسباب ذلك، بل يتجه مباشرة إلى إبراز قضية القربان.
كما انه تحدث عن (القتل)، ولكنه لم يحدثنا عن تفصيلاته التي ذكرها المفسرون: وعلى العكس من ذلك، نجد النص قد أبرز عملية المواراة أو الدفن فيما يتصل بالغراب الذي بحث في الأرض، في حين قد اختزل واقعة الاقتتال الذي جرى بين الغرابين. ومن ثم فانه قد اختزل أيضاً واقعة المواراة لجثة هابيل.
إن كلاً من الاختزال أو الرسم لتفصيلات الحدث ينطوي على أسرار فنية ونفسيه ، تظل على صلة بطبيعة (الأفكار) التي يستهدف النص طرحها أما المتلقي.
كما تظل على صلة بطبيعة التلقي: من حيث ان الاختزال لبعض التفصيلات، يدع المتلقي أمام إمكانات متعددة، ليكشف بنفسه ما وراء الأحداث من دلالة ومعنى.
مضافاً إلى ذلك: انّ الامتاع الجمالي ـ وهذا هو الفارق بين النص الفني والنص العادي ـ انما يتضخم حجمه بقدر ما تُفتح أمام القارئ أو المستمع أو المشاهد من ومن الواضح، إنّ جمال النص الأدبي، يكمن في انطوائه على إمكانات تدع القاريء يكتشفها بنفسه حتى يحقّق لذة الامتاع الفني قي قراءته وتذوقه: كما قلنا.
وخارجاً عن جمالية النص، فان ما يستخلصه القارئ يظل هو الهدف الرئيس وراء القصة. والهدف هنا يتمثل في قضية (الحسد) وما ينطوي عليه من مفارقات، حتى انه يستجر الشخصية الى الاقدام على علمية قتل للنفس الانسانية.
من هنا، فان النص القرآني أبرز لنا من الأحداث ما هو خطير، وما ينبغي أن نستخلص العظة منه، في تعديل سلوكنا. أبرز لنا عملية (التقوى)، وأبرز لنا عملية (القتل)، تاركاً إيّانا مفيدين منهما ضرورة أن تتقي الشخصية وتنقي أعماقها من أية شائبة، وأن تُدرك بان (الحسد) يستجر الفرد حيناً إلى الاقدام على أبشع السلوك وهو القتل.
إن (الحسد) ـ ولغة علم النفس المَرَض تدرك مناشئه وأعراضه بوضوح ـ ينجم من بناء نفسي معقّد تختلط فيه الأنانية بالحرص، وتقتاد ـ من ثمّ ـ إلى كراهية الآخرين.
ثم تتضخم هذه الكراهية حتى تستجر إلى أعمال عدوانية خطيرة تصل إلى حد قتل النفس الانسانية.
كما انها ـ أي: ظاهرة (الحسد) ـ تفقد الشخصية كل معالم الاستقرار النفسي، وتدعها نهباً للتوتر والتمزق والصراع، لان همّها منحصر في النظر الى ما يتمتع به الآخرون من النعم والمعطيات.
والمهم هنا، ان النص القرآني لم يشدد على ظاهرة (الحسد) بقدرما شدّد على أبرز نتائجة وهو (القتل)، لكنه ـ في نصوص قرآنية أخرى يُشدد على (الحسد) على نحو يتسق والنطاق الذي ترد فيه النصوص مما نوضحها في حينه.
ويعنينا الآن فقط، أن نذكر المتلقي، بان النص القرآني في سرده لحكاية قابيل وهابيل انما أبرز ظاهرة (القتل) بصفتها واحدة من نتائج الحسد، حيث اتجه النص القرآني بعد هذه القصة إلى الحديث عن الإسرائيليين: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً...) الخ.
إذن: الهدف الفني الذي يمكن ان نستخلصه من بناء الحدث كامن وراء فرز عملية (القتل): حيث حذف النص أية تفصيلات ثانوية، وركز على عملية القتل فحسب، بصفته أولاً نتيجة للحسد، وبصفته ثانياً إنارة لموضوعات أخرى يتناولها القرآن الكريم في سورة (المائدة) بحيث جاءت قصة قابيل وهابيل بمثابة عنصر يُضيء الموضوعات المنتشرة في السورة. ولا يغب عن بالنا، إنّ قصة قابيل وهابيل جاءت مباشرة بعد قصة موسى في صراعه مع الاسرائيليين. ثم جاء الحديث عن الاسرائيليين بعد هذه القصة أيضاً.. وهذا يعني إن عملية القتل التي أبرزها النص إنما صيغت في سياق فني تترابط موضوعاته واحداً بالآخر.
على أية حال، حين نتابع سائر تفصيلات الحدث ـ من حيث اختزال بعضها وذكر البعض الآخر ـ أمكننا أن نلاحظ نفس الخصائص الفنية والفكرية، وراء عملية الاختزال للتفصيلات أو عدمه، ومنها: حادثة الدفن أو مواراة الجثة.
(فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه. قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب...).
فالملاحظ هنا، ان النص لم يذكر قضية الاقتتال بين الغرابين، كما انه لم يذكر عملية دفن قايبل لاخيه هابيل، بل اكتفى بواقعة واحدة هي: حفر الغراب للأرض،... تاركاً للمتلقي أن يستخلص بنفسه أن قابيل قد وارى أخاه في نهاية المطاف بعد أن تعلّم من الغراب كيفية الدفن.
وسبب ذلك عائدٌ، إلى انّه ليس من المهم هنا أن تُسرد قصةٌ مفصلة عن القتال بين طائرين، بل المهم هو: تعلم الدفن، ومواراة الموتى حتى لا تتأذى الأبصار ببشاعة الجسد الميت، ولا تتأذى الأنوف برائحته المنتنة.
إذن: حقق النص القرآني الكريم بهذا النمط من الاختزال أو التفصيل للواقع ،... حقق امتاعاً فنياً للمتلقي بحيث جعله يكتشف بنفسه لذة التعرف على الحقائق، وحقق هدفاً فكرياً هو: عملية التعلم لمواراة الأجساد الميتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني
اترك تعليق