إنّ النظرة الفاحصة في التفاسير التي ألّفت قبل القرن الرابع عشر يعرب عن أنّ الطابعَ العام لها هو تفسير الآيات القرآنية، وتبيين مفرداتها، وتوضيح جملها، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله، من دون أن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أنّ الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم، كما يقول الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ : «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أُخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم».(1)
فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم، فالحقّ انّ القدامى لم يولوا العناية بهذا الجانب من التفسير إلاّ شيئاً يسيراً، وأوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو السيد جمال الدين الأسد آبادي، فقد وجه أنظار المسلمين إلى الجانب الاجتماعي من التفسير، فقال في خطبته المعروفة: "عليكم بذكر اللّه الأعظم، وبرهانه الأقوم، فانّه نوره المشرق، الذي به يخرج من ظلمات الهواجس، ويتخلّص من عتمة الوسواس، وهو مصباح النجاة، من اهتدى بها نجا، ومن تخلّف عنه هلك، وهو صراط اللّه القويم، من سلكه هُدي، ومن أهمله غوى".
وتبعه تلميذه ومن تربى في أحضانه، الإمام الشيخ محمد عبده، فأبدع منهجاً خاصاً للتفسير له ميزاته التالية:
1. التحرر من قيود التقليد وإعمال العقل في الأقوال والآراء المروية في الآيات، وفهم كتاب اللّه من دون نظر إلى مذهب إمام دون إمام على وجه يكون القرآن هو المتبع دون مذهب الإمام.
2. الاهتمام ببيان نظم الاجتماع ومشاكل الأُمّة الإسلامية خاصة، ومشاكل الأُمم عامة، وبيان علاجها بما أرشد إليه القرآن من أُصول وتعاليم.
3. التوفيق بين القرآن والنظريات العلمية على وجه لا يكون القرآن مخالفاً للعلم.
فلنأت لكلّ ميزة بمثال.
أمّا الميزة الأُولى فيكفي الامهال فيما ذكره حول آية الوصية للوالدين.
الوصية للوالدين ليست منسوخة:
يقول سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصيةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلى الْمُتَّقين).(3)
قال الشيخ الطوسي: تصح الوصية للوارث مثل الابن والأبوين وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث.(4)
وقال صاحب المنار: الآية صريحة في جواز الوصية للوالدين ولا وارث أقرب للإنسان من والديه، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصية ثمّ عمّم الموضوع وقال: «والأقربين» ليعم كلّ قريب وارثاً كان أم لا، غير انّ جمهور الفقهاء من أهل السنّة رفضوا الآية وقالوا بأنّ الآية منسوخة بآية المواريث، ولكنّ الإمام عبده خالف رأي الجمهور وقال: لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، فانّ السياق ينافي النسخ، فانّ اللّه تعالى إذا شرع للناس حكماً وعلم انّه مؤقت وانّه سينسخه بعد زمن قريب فانّه لا يؤكّده ولا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيد لمن بدله.(4)
وهذا دليل على أنّ الإمام نظر إلى الآية بعقلية حرة من دون أن يتبع رأي الأئمّة الأربعة وبذلك وجه لوم المتحجرين إلى نفسه كما هو شأن كلّ مصلح.
وأمّا الميزة الثانية فالحقّ انّ تفسير الإمام مشحونة بهذه المباحث ولا يمكن لنا عرض معشار ما جاء في ذلك الكتاب من هذا النوع من المسائل، ولنقتصر بالمورد التالي:
الصبر وأثره البنّاء:
يقول الإمام في تفسير قوله سبحانه: (وَتَواصَوا بِالصَّبْر) والصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضى بما يكره في سبيل الحقّ، وهو خلق يتعلّق به بل يتوقّف عليه كمال كلّ خُلق، و ما أُوتي الناس من شيء مثل ما أُتوا من فقد الصبر أو ضعفه، كلّ أُمّة ضعف الصبر في نفوس أفرادها، ضعف فيها كلّ شيء، وذهبت منها كلّ قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أُمّة من الأُمم كالمسلمين اليوم، إذا دقّقت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإنّ من عرف باباً من أبواب العلم، لا يجد في نفسه صبراً على التوسع فيه، والتعب في تحقيق مسائله، وينام على فراش من التقليد هين لين، لا يكلفه مشقة، ولا يجشمه تعباً، ويسلّي نفسه عن كسله بتعظيم من سبقه، ولو كان عنده احترام حقيقي لسلفه، لاتّخذهم أُسوة له في عمله، فحذا حذوهم، وسلك مسلكهم، وكلّف نفسه بعض ما حمّلوا أنفسهم عليه واعتقد كما كانوا يعتقدون انّهم ليسوا بمعصومين.(5)
وكم للأُستاذ بيانات شافية حول المحرمات كالقمار والزنا، وحول الجهاد وتحريم الربا إلى غير ذلك من الأُسس الاجتماعية في الإسلام.
وأمّا الميزة الثالثة فنقتصر بالمورد التالي:
انشقاق السماء عند اختلال نظامها:
يذكر في تفسير قوله سبحانه: (إِذا السماء انشقت) انشقاق السماء مثل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة (اذا السماء انفطرت) وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد اللّه خراب هذا العالم الذي نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العالم، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره.(6)
وهذه الأمثلة نقلناها من تفسيره المعروف لجزء عمّ، ذلك التفسير الذي ألفه بقلمه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية ليكون مرجعاً لأساتذة مدارس الجمعية في تفهيم التلاميذ معاني ما يحفظونه من سور هذا الجزء، وعاملاً للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم، وقد أتمّ الاستاذ تفسير هذا الجزء سنة 1321 هو ببلاد المغرب.
وأمّا الدروس التي ألقاها الإمام فقد ابتدأ بأوّل القرآن في غرة محرم سنة 1317 هـ، وانتهى عند تفسير قوله تعالى: (وللّهِ ما فِي السَّماواتِ وََما فِي الأَرضِ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيطاً) (7) في منتصف محرم سنة 1321هـ، إذ توفّي ـ رحمه الله ـ لثمان خلون من جمادى الأُولى من السنة نفسها. وقد أملى الأُستاذ هذه الدروس على تلاميذه.
ومع الأسف انّ ما أملاه الإمام لم ينشر على وفق ما أملاه بلا تصرف بزيادة أو نقيصة، فانّ تلميذه السيد محمد رشيد رضا لمّا كتب تفسيره المسمّى بتفسير «المنار» أدخل فيه ما كتبه عن أُستاذه من آراء وأقوال ومزجها بآرائه وأفكاره، ولذلك لا يمكن أن ينسب كلّ ما فيه إلى الإمام إلاّ إذا صرح الكاتب به.
وعلى كلّ حال فقد ابتدأ التلميذ بأوّل القرآن وانتهى عند قوله تعالى من سورة يوسف ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأْويلِ الأَحاديثِ فاطِرَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيّ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحينَ). (8)
ثمّ وافته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن.
موقف المنار من المعاجز والكرامات
قد تعرّفت على المزايا الإيجابية لتفسير المنار، وما فيه من اهتمام بالغ بتفسير القرآن وفق المعايير الاجتماعية السائدة على الحياة.
بيد انّ التفسير المذكور لا يخلو من سلبيات في موارد وأخصّ بالذكر المعاجز والكرامات، فقد حاول في كثير من الآيات المشتملة على هذا النوع من خوارق العادات، أن يخرجها عن طابعها الغيبي ويصبغ عليها الطابعَ المادي.
والذي دفع المصنّف إلى هذا النوع من التفكير هو انبهاره بالحضارة الغربية المادية حينما نفي أوائل القرن الرابع عشر الهجري وألقى رحل الإقامة في منفاه(باريس)، شاهد عن كثب تقدّم العلوم الطبيعية وازدهارها في مختلف المجالات وصار العلم يقين لكلّ ظاهرة علة مادية دون أن ينسبها إلى عوامل غيبية من الجن والملك.
وقد دفع ذلك، الأُستاذ إلى محاولة الجمع بين الدين والعلم من خلال تفسير الخوارق بالأسباب الطبيعية على نحو يخرجها عن كونها أمراً خارقاً للعادة، وقد تأثر بهذا المنهج كثير من تلامذته وهذه المحاولة ـ في الحقيقة ـ إخضاع الوحي للعلوم الطبيعة وتفسير له من هذا المنظار.
وها نحن نذكر في المقام نماذج من هذه التأويلات ونقتصر من أجزاء المنار على الجزء الأوّل، كما نقتصر منه على بعض ما ذكره في تفسير سورة البقرة ونحيل الباقي إلى القارئ الكريم.
1. (وَلَقَد عَلِمتُمُ الّذِينَ اعتَدَوْا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كُونُوا قِرَدةً خاسئِين* فَجَعَلناها نَكالاً لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظةً للمتَّقين)(9).
كتب ما يلي:
«إنّ السلف من المفسّرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله: (كونوا قردة خاسئين) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيّين.
وإنّما نسب هذا المعنى إلى السلف، لأنّه يصطدم بالمنهج الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن، حيث لاتصدقه أنصار الحضارة المادية الّذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة، ولأجل ذلك مال الأُستاذ إلى رأي مجاهد الذي قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثّلوا بالقردة كما مثّلوا بالحمار في قوله تعالى:
(مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراة ثمَّ لَم يَحمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أسفاراً).(10)
ثم أخذ في نقد قول الجمهور ـ إلى أن قال ـ: فما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة.(11)
ولا يخفى أنّه إذا صحّ هذا التأويل، فيصح لكل من ينكر المعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل، وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين.
2 . نقل صاحب المنار عن بعض المفسّرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أنّ هذا النمو في النبات لم يكن إلاّ بروح خاص نفخه اللّه في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنّما قوامه بروح إلهي، سُمِّي في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمّي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لايعرف من عالم الإمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.
وقال الإمام عبده بعد نقل نظير هذه التأويلات: ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق.(12)
ولايخفى أنّ هذا التأويل لو صحّ في بعض الأحاديث لما صحّ في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها، وما هذا التأويل إلاّ للخضوع للمنهج الخاص الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن.
3. يقول سبحانه: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّه جَهْرَة فَأَخَذتكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).(13)
المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ باعتبار أحوال أسلافهم، ولا يفهم أيّ عربي صميم من لفظة (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ)، غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل، أي أنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها.(14)
ولم يكن هذا التفسير من الأُستاذ إلاّ لأجل انّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسي والتجربة، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى، وما أظن انّ الأُستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية في القرآن الكريم.
4. أمر سبحانه بني إسرائيل بذبح البقرة، وقال: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قالُوا أَتَتَّخذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ باللّهِ أَنْ أَكُون مِنَ الجاهلين) إلى أن قال: (وإِذْ قَتَلتُمْ نَفْساً فَادّارءتُمْ فيها وَاللّه مُخرج ما كُنْتُمْ تَكْتُمُون* فَقُلْنا اضْربُوه ببَعضِها كَذلك يحيى اللّه المُوتى ويُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون).(15)
ومجمل القصة هو انّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه، واختفى قتله له، فرغب اليهود في معرفة قاتله، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعض البقرة فانّه يحيى، ويخبر عن قاتله.
وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية، وهو صريح قوله سبحانه:
(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى) .
وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة، فهو بعد ان نقل رأي الجمهور، قال: قالوا: إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة، وقال: قتلني أخي، أو ابن أخي فلان، قال: والآية ليست نصاً في مجمله فكيف بتفصيله؟
ثمّ فسر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله، فالواجب أن تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي، ويقولون: انّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء.
ثمّ قال: وهذا الإحياء على حد قوله تعالى :(وَلَكُمْ فِي القِصاص حَياة) (16) ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس.(17)
وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله (فقُلنا اضرِبُوهُ بِبَعضِها) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة (كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى)، فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق، ضرب المقتول ببعض البقرة؟! هذا أوّلاً.
وأمّا ثانياً: كيف استند الأُستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة، مع أنّ المشهور منه انّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرفة؟!
وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلاّ لأجل ما اتخذه الأُستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات، وخوارق العادة، وغير ذلك ممّا يرجع إلى عالم الغيب.
5. قال اللّه تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَالْمَوت فَقالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا ثُمَّ أَحياهُمْ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْل عَلَى النّاس ولكِنْ أَكْثَر النّاس لا يشكُرون).(18)
ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد فأرسل عليهم الموت، فلمّا رأوا انّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً منه، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابّهم ثمّ أحياهم لمصالح وغايات أشير إليها في الآية.
لكن الأُستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف، فقال لهم اللّه موتوا موت الخزي والجهل، والخزي موت والعلم وإباء الضيم حياة، فهؤلاء ماتوا بالخزي ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في أمرهم.
يلاحظ عليه: أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة «المثل» كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية، مثل قوله :(كَمَثَل الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً) .(19)
وقوله تعالى: (إِنّما مَثَلُ الحَياة الدُّنْيا كَماء أَنْزَلْناهُ). (20)
وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذينَ حمِّلُوا التَّوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسفاراً).(21)
فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية، تفسير بلا شاهد، وتأويل بلا دليل.
وكم للأُستاذ رشيد رضا في تفسيره هذا زلاّت وغفلات أجملنا الكلام فيه ونذكر منها أمرين:
الأوّل: توغّله في التوهّب ودفاعه العنيف عن ابن تيمية وتعريفه بشيخ الإسلام على وجه أصبح من دعاة الوهابية، وناشري أفكارها.
الثاني: تحامله على الشيعة في غير واحد من المواضع على وجه دعا السيد محسن الأمين العاملي على إفراد كتاب أسماه «الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حقّ الشيعة» وقد أغرق فيه نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المناهج التفسيرية في علوم القرآن / تأليف العلامة الفقيه الشيخ جعفر السبحاني
1-نهج البلاغة، الخطبة 158.
2- البقرة:180.
3- الخلاف:2/41، كتاب الوصية، المسألة1.
4- تفسير المنار:2/136ـ 137.
5- تفسير جزء عمّ، تفسير سورة العصر.
6- تفسير جزء عمّ، ص 49.
7- النساء:126.
8- يوسف:101.
9- البقرة: 65 ـ 66.
10- الجمعة: 5.
11- تفسير المنار: 1/343 ـ354.
12- المنار: 1/273.
13- البقرة:55ـ56.
14- تفسير المنار:1/322.
15- البقرة:67ـ 73.
16- البقرة:179.
17- تفسير المنار:1/345ـ 350.
18- البقرة:243.
19- البقرة:17.
20- يونس:24.
21- الجمعة:5.
اترك تعليق