أم المؤمنين أم سلمة .. ترتل آيات الولاء

نذرت هذه المرأة الطاهرة نفسها وزوجها وولدها لله والإسلام والرسول (ص), وبذلت جهدها في نصرة أهل البيت (عليهم السلام) والدفاع عن الحق ومقارعة الباطل, فكانت أول مهاجرة من أزواج الرسول وأفضلهن بعد السيدة خديجة (عليها السلام), وأشدّهن تمسّكاً بسنته الشريفة وأكثرهن طاعة لأوامره.

وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله عن أفضل زوجات النبي: وأفضلهن خديجة بنت خويلد، ثم أم سلمة، ثم ميمونة بنت الحارث. (1)

فكانت (رضوان الله عليها) حاملة وصايا الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما في حديث الإمام الباقر (عليه السلام):

(لمّا توجه الحسين عليه السلام إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبي، الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك، فلمّا قتل الحسين عليه السلام أتى عليّ بن الحسين عليه السلام أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسين عليه السلام). (2) وقد نالت هذه الكرامة بفضل إيمانها العميق بالله وطاعتها لأوليائه

رافقت هذه السيدة الفاضلة النبي في حياته الحافلة بالأحداث, فكانت مثالاً يُحتذى به في الحكمة والفضيلة والدين والصدق والإخلاص, فجسّدت أروع مثال للمرأة المؤمنة.. آمنت بالدعوة المباركة، وجاهدت وهاجرت في سبيلها وتشرّفت بالزواج من سيد الأنبياء محمد (ص).

وبعد أن خلفها (ص) في من خلف من أمّهات المؤمنين بعد أن لحق بالرفيق الأعلى لم تشط عن النهج الذي اختطه الرسول لأزواجه وأمته, ولم تتخط الوصية التي فرضها الله ورسوله في كتابه المجيد لأمهات المؤمنين بالخصوص، فنصحت ما استطاعت النصح وأرشدت ما وسعها الإرشاد, وأنذرت في مواقع الإنذار, فكانت مثلاً سامياً للمرأة الصالحة.

إنها السيدة أم سلمة أم المؤمنين التي اقتبست من آثار التعاليم الإلهية ونهلت من فيوض الرسالة المحمدية فنالت درجات رفيعة في الإيمان والتفقّه في الدين وحفظ الحديث الشريف.

بنت زاد الراكب

هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرة بن مخزوم, من أشرف النساء حسباً ونسباً, أبوها كان يسمى بـ (زاد الراكب) لجوده وكرمه.

كانت أم سلمة من المسلمات الأوائل, أسلمت مع زوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن المغيرة المخزومي ابن عمة رسول الله برّة بنت عبد المطلب, وأخوه من الرضاع، فتحمّلا كثيراً من أذى المشركين في جنب الله، وحينما أذن الرسول للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة كان في طليعتهم أبو سلمة وزوجته فخاضا رحلة مليئة بالمصاعب والمشاق وتحملا الكثير من الآلام في سبيل الله ونصرة الإسلام.

كان أبو سلمة من أبطال المسلمين اشترك في بدر وأصيب يوم أحد بسهم فجرحه جرحاً بليغاً وتقيّح الجرح, حتى فاضت روحه بين يدي زوجته أم سلمة.

وبعد وفاة أبي سلمة خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته أيضاً, ثمّ وجدت أم سلمة من يواسيها في محنتها ويخفف عنها كربتها ويعزّيها عن مصيبتها فتزوجت من رسول الله (ص).

في بيت النبوة

عاشت أم سلمة في البيت النبوي الذي أكسبها من أخلاق النبوة وخصائص الرسالة ما جعلها امرأة نادرة المثال, راسخة الإيمان, ثابتة اليقين في وقت تملّكت النوازع النفسية الأنانية بعض أزواج النبي في كثير من الحالات وتأثرن بالعوامل والظروف وأدخلن أنفسهن في أمور لا ترضي الله ورسوله.

كانت أم سلمة تنظر إلى الحوادث بعين البصيرة, مجرّدة من هوى النفس, وأبى عليها عقلها الكبير وبصيرتها النافذة أن تدخل فيما دخلن فيه بعض رفيقاتها من خصومة وتنافر ومكايدة, فقد سلكت إلى الحقيقة طريقها الصحيح، فأحبت من يحبه الله ورسوله, وأبغضت من يبغضه الله ورسوله, واستيقنت أن النبي يحب علياً فأحبته, ووالته وناصرته, ورأته يوصي إلى علي فشايعته, ووكدت نفسها على طاعته.

روايتها للحديث

سمعت أم سلمة من حديث رسول الله (ص), وحفظت ما فيه الهداية إلى الصراط المستقيم بالتمسك بأهل البيت (ع)، وكانت حريصة على أن لا يفوتها شيء من حديث النبي (ص)، حيث روي إن أحاديثها بلغت (378) حديثاً, وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين (3).

ومن جملة ما روته أم سلمة حديث الكساء المشهور (4) كما روت جملة من أحاديث الرسول (ص) في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

ومنها قوله (ص) لعلي (ع): يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. (5)

وقوله (ص): علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. (6)

وقوله (ص): علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. (7)

وقوله (ص): علي بن أبي طالب والأئمة من ولده بعدي قادة أهل الأرض وقادة الغرّ المحجلين يوم القيامة. (8)

وقوله (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. (9)

وقوله (ص): علي مع القرآن والقرآن مع علي. (10)

وقوله (ص): الحق بعدي مع علي يدور معه حيث دار. (11)

كما يظهر هذا الدعم فيما رواه محمد باقر المجلسي في "بحار الأنوار"، عندما يذكر أن رجلاً من قبيلة بني عامر قد أتى إليها وقت الفتنة ليسألها عما يفعل، فلما عرفت أنه قد بايع علياً، قالت له "فارجع فلا تزل عن صفه، فوالله ما ضل وما ضل به، : يا امه فهل أنت محدثتني في علي بحديث سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالت: اللهم نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: علي آية الحق وراية الهدى، علي سيف الله يسلّه على الكفار والمنافقين، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فبغضي أبغضه، ألا ومن أبغضني أو أبغض علياً لقي الله عز وجل ولا حجة له".وغيرها من الأحاديث في فضل أمير المؤمنين (ع).

كما كانت تحاجج بهذه الأحاديث أعداء أمير المؤمنين (ع), من ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري عن عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة في المدينة فقالت لي: أيُسبْ رسول الله (ص) فيكم ؟ فقلت: معاذ الله، قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: من سبّ علياً فقد سبّني (12).

وروى عمر كحالة في أعلام النساء: إن أم سلمة كتبت إلى معاوية: إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ؟ وذلك إنكم تلعنون علي بن ابي طالب (ع) ومن أحبه وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله. (13)

وقفة الحق

ترسّمت أم سلمة خطوات زوجها العظيم وسارت على النهج الذي رسمه لها ولم تحد عنه طرفة عين فتمسكت بعترة النبي (ص) واهتدت بهداهم فوقفت إلى جانب الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) حين طالبت بفدك.

فبعد أن خطبت الزهراء (ع) خطبتها التاريخية العظيمة في ذلك اليوم وأبى القوم إلاّ أن يمنعوها إرثها ويردّوا شهادتها بحجة (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)، أطلّت أم سلمة لتلقي كلمتها التي سجّلها التاريخ في موقف عظيم دون أن تحسب لغضب أحدٍ حساباً سوى الله وقالت كلمة الحق فخاطبت القوم قائلة:

ألمثل فاطمة يُقال هذا ؟ وهي والله الحوراء بين الإنس، والأنس للنفس رُبيت في حجور الأنبياء, وتناولتها أيدي الملائكة, ونمت في المغارس الطاهرات، نشأت خير منشأ، وربيت خير مربّى.

أتزعمون أن رسول الله (ص) حرّم عليها ميراثه ولم يُعلمها ؟ وقد قال الله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين ؟ فأنذرها وجاءت تطلبه، وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبّان، وعديلة ابنة عمران، وحليلة ليث الأقران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ فيوسّدها يمينه ويدثرها شماله ! رويداً فرسول الله (ص) بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون فواها لكم وسوف تعلمون. (14)

ما أروعك أيتها السيدة العظيمة الجليلة وأنت تصدحين بالحق ولا تخافين في الله لومة لائم ؟

وما أجلّك وأنت تزدادين تمسّكاً بالإسلام بالتزام نصرة أهل البيت (ع) رغم كثرة القوم وقلة الناصر ؟..

وكما تحمّلت أم سلمة الأذى من قريش في بدء الدعوة فقد عاداها القوم كرة أخرى فكان جزاؤها على نطقها بكلمة الحق منعها من العطاء سنة كاملة. (15)

نصرتها لأمير المؤمنين (ع) ومنزلتها عند أهل البيت (ع)

كان لأم سلمة مقام كبير في نصرة أمير المؤمنين (ع) والدفاع عنه، وقد بذلت جهدها لصدِّ عائشة عن سفرها إلى البصرة لقتال أمير المؤمنين وذكّرتها بأحاديث الرسول (ص) في حق علي وجرت بينهما محاورات طويلة يطول شرحها، وبعد أن يئست من إرجاعها عن عزمها في الخروج أرسلت ابنها عمر بن أبي سلمة ليكون جندياً في جيش أمير المؤمنين وأرسلت معه كتاب تقول في خاتمته:

ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج وأمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك والنصرة لك ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوصِ به يا أمير المؤمنين خيراً. (16)

وقد شهد عمر بن أبي سلمة حروب الإمام أمير المؤمنين كلها وأبلى بلاءً عظيماً في جهاده مع إمامه (ع)

وبالمقابل فقد تبوّأت أم سلمة منزلة كبيرة عند أهل البيت (ع) فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) قوله: أن علياً (ع) حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية، فلما رجع الحسن عليه السلام دفعتها إليه. (17)

وفي هذا الحديث وحده دلالة على مكانتها عندهم (ع) كما استأمنها الإمام الحسين (ع) الكتب والوصية عندما سار إلى العراق فلما رجع علي بن الحسين (ع) دفعتها إليه.

ولجلالة قدرها عند أهل البيت فقد كان كل من أراد الخروج من المدينة منهم يزورها لوداعها فزارها أمير المؤمنين في سفره إلى العراق, كما زارها الإمام الحسين (ع) عند خروجه من المدينة.

وفاتها

امتد العمر بهذه السيدة الجليلة لتكون آخر من مات من أمهات المؤمنين، وقد تسالم الرواة إنه لما أراد الإمام الحسين (ع) الخروج إلى العراق أتته أم سلمة فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك (ص) يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء... الى آخر خبر القارورة المشهور.

توفيت أم سلمة بعد مقتل الحسين، ومن المعروف إن واقعة كربلاء كانت عام (61هـ)، وأما إن طال بها العمر بعد مقتل الحسين (ع) فأمر غير محقق, لكن الروايات تدل على عكس ذلك فلم تلبث بعد هذه الواقعة الأليمة سوى مدة يسيرة.

فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمتها قوله: السيدة المحجّبة الطاهرة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة ، المخزومية ... وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين عُمّرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد فوجمت لذلك وغُشي عليها وحزنت عليه كثيراً ولم تلبث بعده إلّا يسيراً وانتقلت إلى الله، ولها أولاد صحابيون: عمر، وسلمة، وزينب, (18)

كما تدل رواية القارورة على أنها بقيت بعد مقتل الحسين (19) وروي إنها عندما بلغها مقتل الحسين قالت: قتلوه، قتلهم الله (20), وروى ابن أبي خيثمة: إنها توفيت سنة (62هـ) (21) وبناءً على هذا يكون عمرها الشريف (82 سنة) ودفنت بالبقيع.

محمد طاهر الصفار

الهوامش

..................................................................

1 ــ الخصال / الشيخ الصدوق ص 419 , مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 172 , بحار الأنوار ج 46 ص 18 , إعلام الورى ص 152

2 ــ إثبات الهداة / الحر العاملي ج 5 ص 214 , الغيبة / الطوسي ص 118

3 ــ الثقات ــ ابن حبان ج 3 ص 439 / الكاشف ــ الذهبي ج 2 ص 519

4 ــ تفسير الطبري ج 22 / 6 / تاريخ دمشق لابن عساكر ج 13 ص 203 – 204  

5 ــ مسند احمد بن حنبل ــ فضائل الصحابة ج 2 ص 648

6 ــ المستدرك على الصحيحين / حديث رقم  4628

7 ــ أمالي الصدوق ص 678 

8 ــ مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ج ٢ - الصفحة ٢٢٩

9 ــ ينابيع المودة لذوي القربى / القندوزي الحنفي ج 1 ص 269 

10 ــ أمالي الطوسي ص 305

11 ــ أمالي الطوسي 305

12 ــ المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ١٢١

13 ــ أعلام النساء ج 3 ص 261  

14 ــ دلائل الامامة - محمد بن جرير الطبري ص ١٢٤

15 ــ دلائل الإمامة ــ الطبري ج 1، ص 39.

16 ــ شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد  ج ٦ ص ٢١٩

17 ــ الكافي ج ١ ص ٢٩٨

18 ــ سير اعلام النبلاء ج 2 ص 202

19 ــ وردت رواية القارورة في كثير من مصادر الفريقين وبألفاظ مختلفة ومضمون واحد من هذه المصادر: المعجم الكبير للطبراني ج 23 ص 289 / العقد الفريد ج 4 ص 383 / الإرشاد للمفيد ص 130

20 ــ شواهد التنزيل ــ الحسكاني ج 2 ص 73 / بحار الأنوار ج 45 ص 199

21 ــ التاريخ الكبير ص 93

 

 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار