الظروف الموضوعية لهجرة الامام الحسين (عليه السلام) من مكة المكرمة

حفلت أقامة الامام الحسين(عليه السلام) بمكة بوجوه اجتمعت به، وتحدثت إليه، وعرفت هدفه الذي جاء من أجله والغاية التي أخرجته من المدينة، وهي متجهة به نحو العراق، وكان هؤلاء بين ناصح له ومعترض على أمر لا تعرف نتائجه، ومع قوم كان لوالده تجربه مره معهم، وذاق أخوه بعضا من مرارتها. من هذا كله يتضح مدى إصرار الامام (عليه السلام) على التوجه الى الكوفة دون بقية بقاع العالم الإسلامي، رغم كل هذا النصح والتحذير، ويظهر ان هنالك عوامل عديدة هيأت هذه المنطقة لتصبح منطلق وجهة الامام (عليه السلام) إليها  بهذه السّرعة كان لأسباب منها :-

اولاً:- الاستجابة لجماهير الأمة.

يمكن القول ان العلاقة السيئة بين دمشق والاقاليم التابعة ساعده بشكل مباشر على التهيئة والإعداد للخروج على الدولة الأموية، وخاصة مناطق العراق وكان أهل الكوفة أكثر من أصابهم البلاء بفعل موقف الأمويين منهم، حتى أصبحت الكوفة المسرح الكبير لأحداث دولة بني أمية ومشاكلها، ومن هنا كان تعلق الكوفيين بكل ما من شأنه منازلة الأمويين، وإعلان الحرب عليهم في محاولة للاحتفاظ باستقلالهم عن دمشق.

والى هذا يرجع اغلب المؤرخين سبب مكاتبتهم للإمام (عليه السلام) في القدوم عليهم، ويكفي نظرة فاحصة لبعض تلك الرسائل التي وصلته، وما تضمنته من عبارات لندرك طبيعة الأوضاع في الكوفة والاتجاهات التي سادتها، في محاولتها للتخلص من ارتباطها بدمشق، وكانت أولى تلك الرسائل قوية، شديدة داعية للثورة والتخلص من مظاهر السلطة في الكوفة منها على سبيل المثال لا الحصر رسالة سليمان بن صرد :  " بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي اعتدى على هذه الأمة... إنه ليس علينا أمام فأقدم علينا لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، فأن النعمان بن بشير في قصر الأمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا مخرجك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام والسلام "[1]. ويمكن القول إن هذه الرسائل جاءت موقعة من قبل عدد كبير من الناس، وهذا يعني إن استنفاراً كبير حدث في الكوفة ضد الحكم الأموي وشكل أرضية خصبة للثورة.

ثانيا:- الغدر الأموي والتخطيط لقتل الامام (عليه السلام).

ايقن الامام الحسين نوايا الغدر والحقد الاموي على الاسلام، وانهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتى لو سالمهم،  وذلك فقد صرح لأخية محمد بن الحنفية بان بني امية لا يتركونه بحالٍ من الاحوال " لو دخلت في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني". 

وتشير بعض المصادر التاريخية ان يزيد بن معاوية عزم وصمم على اغتيال الامام الحسين (عليه السلام) بشكل غامض أو صريح، يدل على ذلك رسالة قائلاً فيها: " أما بعد فإذا ورد عليك كتابي هذا، فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم، وليكن مع جوابك اليَّ رأس الحسين بن علي فإذا فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنه الخيل، ولك عندي جائزة "[2]. وكما يؤكد ابن قتيبة أن المؤامرة لاغتياله كانت في الطريق إليه من قبل الأمويين، والى هذا يرجح اسراعه في القدوم إلى مكة ومنها إلى العراق وبذلك فوت الفرصة على الأمويين، للقضاء على دعوته في مهدها، هذا إلى انه كان يخشى أن تنتهك دمشق حرمة المدينتين المقدستين مكة والمدينة.

رابعاً: طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

شكل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة عامة في إعلان الجهاد بعد عجز القلب واللسان. اذ كان غياب فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعددة منها على سبيل المثال لا الحصر "لزوم اطاعة الوالي وحرمة نقض بيعة تمّت حتى لو كانت منحرفة" .

ويمكن القول ان السبب الذي دفع الامام (عليه السلام) للمواجهة مع الدولة الأموية، هو تفشي الفساد، وانحراف السلطة عن نهج الشريعة وقد وصف الامام (عليه السلام) الحالة في قوله :"  ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه؟!، ليرغب المؤمن في لقاء الله"[3] ، لذا  ان الواجب الديني أوجب على الامام (عليه السلام) الخروج على الحاكم الجائر دفاعاً عن الإسلام، معتمدا على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أدلى (عليه السلام) بذلك في وصيّته لأخيه محمد لن الحنفية حين كتب له :"  إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين". ولذلك نستنتج ان التكليف الالهي برفع الظلم والفساد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء .

خامساً: لم يكن أمام الإمام الحسين (عليه السلام) من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأن بقية الاقطار اما انها كانت مؤيدة للأمويين في توجهاتهم وسياساتهم، او خاضعة مقهورة، او انها كانت غير متحضرة وغير مستعدة للاستجابة للنهضة الحسينية. علما ان كثير من شعوب العالم الاسلامي كانت في ذلك الحين اما كافرة او حديثة عهد بالإسلام، او غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها، مما كان سببا لتضييع ثورة الامام وجهوده.

سادسا: يمكن القول ان الكوفة كانت تضم الجماعة الصالحة التي بناها الامام علي والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع اهل البيت ، فاراد الامام الحسين ان لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما اراد ان يعمّق الايمان في النفوس ويجذر الولاء لأهل البيت، حيث كان العراق اخصب ارض تستجيب لذلك.

ولعل هناك اسبابا لا ندركها لاسيما ونحن نرى ان الامام (عليه السلام) كان على بينة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته و طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي قدمها اليه عدد من الشخصيات، فضلا  عن عصمته عن الزلل والاهواء . وبذلك فان اختياره العراق كان منطلقا لثورته عن علم ودراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة امامهم والحاق العار بهم في الدنيا والاخرة .

   جعفر رمضان

 

[1] لوط بن يحيى بن سعد بن مسلم الازدي أبو مخنف، مقتل الحسين،، تحقيق: ميرزا حسن الغفاري(قم: المطبعة العلمية، 1398هـ)، ص15؛ أبو عبد الله بن مسلم الدينوري ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، تحقيق: علي شيري،(قم: منشورات الشريف الرضي، 1413هـ)، ج2، ص7؛ احمد بن يحيى بن جابر البلاذري، أنساب الأشراف،  تحقيق: محمد باقر المحمودي، (بيروت: مؤسسة الاعلمي،1394هـ)، ج3، ص152.

[2] أبو عبد الله بن مسلم الدينوري ابن قتيبة ، المصدر السابق، ج2، ص5؛ أبو محمد احمد بن اعثم الكوفي ابن أعثم، الفتوح، تحقيق: علي شيري، (بيروت: دار الأضواء،1991م) ، ج5، ص18.

[3] أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، تأريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (مصر: دار المعارف، 1961م) ،ج5، ص403.

المرفقات