تتابعت كتب أهل الكوفة إلى الامام الحسين(عليه السلام) وهي تحثه على المسير والقدوم إليهم، وكانت بعض تلك الكتب تحمله المسؤولية إمام الله "عزوجل" والأمة إن تأخر عن إجابتهم، فأختار لسفارته ثقته وكبير أهل بيته، مسلم بن عقيل ابن ابي طالب (عليهم السلام) فكان خروجه من مكة متوجهاً الى الكوفة ليلة النصف من رمضان المبارك سنة 60هـ.
وصل مسلم مدينة الكوفة في الخامس من شهر شوال سنة60 هـ[1]، وقد نزل مسلم بن عقيل فيما ترى بعض المصار في الدار التي تعرف "بدار المختار بن ابي عبيد"[2]، وبعضهم يذكر انه " نزل على رجل يقال له عوسجة"[3]، وقيل انه نزل في "بيت هاني بن عروة"[4].
والمرجح انه نزل في دار المختار بن ابي عبيد الثقفي، و يمكن القول ان سبب اتخاذ دار المختار بن ابي عبيد دون غيرها، هو انه كان صهر للنعمان بن بشير والي الكوفة أي كان زوجاً لابنته ، فلا تمتد يد سوء الى مسلم بن عقيل طالماً هو في بيت صهر والي الكوفة، وأخذت الشيعة تختلف إليه وفشي أمره بالكوفة حتى بلغ ذلك أميرها، الذي خطب في الناس قائلا " لا أقاتل إلا من قاتلني ولا أثب إلا على من وثب علي ولا اخذ بالفرقة والظنة فمن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمهُ في يدي ولو لم أكن إلا وحدي"[5].
واستمر مسلم بن عقيل (عليه السلام) يعبئ الكوفة ويأخذ البيعة حتى تكامل لديه عدد كبير من الجند والأعوان، فقد بلغ عدد من بايعه واستعد لنصرة الامام الحسين (عليه السلام) ثمانية عشر الفاً[6] في حين ذكر المسعودي ان عددهم اثني عشر الف رجل، وقيل ثمانية عشر الفا[7].
وبحكم ذلك، أطمأن مسلم بن عقيل للأوضاع التي تهيأت له فكتب رسالة للإمام الحسين بن علي (عليه السلام) قائلاً: " إما بعد فان الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا فان الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام"[8].
يتبين من رسالة مسلم بن عقيل، عرض حقيقي لأوضاع الكوفة وشرح لمشاعر اهل الكوفة، حيث الجماهير الكوفية قد عانت من الاضطهاد والبطش الاموي، فقد كانت تتوق للخلاص من ذلك الظلم.. ولكن التطويق العسكري للكوفة حال دون مساهمتهم ووصولهم لكربلاء، فضلا عن البطش والصلب والتنكيل والسجن الذي انزله الوالي بالأهالي مما منع بعض من الناس من المشاركة في معركة .
وهناك سؤال يطرح نفسه، لماذا لم يبادر مؤيدو مسلم في الكوفة الى السيطرة على الأوضاع فيها، مع أن فيهم المنعة والعدة لذلك العمل!؟، على ما يبدو في ذلك ان القوم لم تكن لهم قيادة موحدة، يرجعون إليها في أمورهم وقراراتهم، بل مثلهم وجهاء وأشراف متعددين من أهل الكوفة لكل منهم تأثيره في قبيلته، لكنهم لا تصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدة عن تنسيق وتنظيم، والدليل على ذلك هي كثرة الكتب وتعددها التي بلغت اثنا عشر إلف كتاب[9]، وعدم توحدها في مكاتبة الامام الحسين(عليه السلام)، ويبدو ان سبب ذلك يعود الى تعدد مُرسليها وعدم وحدتهم.
ومن الملفت للنظر ان النعمان بن بشير حاول معالجة الموقف بالوسائل السلمية، الا ان سياسة النعمان لم ترق للحزب الاموي بالكوفة، فكتبوا الى يزيد كتاباً صور له الإحداث وأشاروا عليه بتنحية النعمان لأنه رجل ضعيف لا طاقة له بالمواجهة ولا قدرة له بالتصدي[10]، فلما ورد الكتاب على يزيد أمر بعهد فكتب لعبيد الله بن زياد على الكوفة وأمر أن يبادر إليها، فيطلب مسلم بن عقيل طلب الحرزة حتى يظفر به فيقتله او ينفيه عنها[11].
وفي هذه الصدد، أضطر مسلم بن عقيل الى تغيير مقره وأحاط نشاطه السياسي بكثير من السر والكتمان، فالتجأ إلى دار هانئ بن عروه[12]، ويمكن القول ان السبب في تحوله الى دار هاني كون الوالي النعمان بن بشير قد أزيل من الولاية بالإضافة الى ان هاني كان سيد المصر وزعيم مراد وعنده من القوة ما يضمن حماية الثورة.
وللأسباب ذاتها، اعلن الطاغية ابن زياد حالة الطوارئ في انحاء الكوفة جميعها، وقد شدد على مدير شرطته بتنفيذ اوامره وهي اولا : تفتيش الدور والمنازل في الكوفة جميعاً بحثاً عن مسلم بن عقيل ، ثانيا الاعتقالات الواسعة لجميع المؤيدين للثورة فألقى الشرطة القبض على المختار ابن ابي عبيد الثقفي، وعمارة بن صلخب الازدي، وعبد الاعلى بن يزيد الكلبي، وعبد الله بن نوفل بن الحارث ، والاصبغ بن نباته[13].
ومن جانب آخر فان الطاغية ابن زياد قرر إعدام كل من يأوي مسلم بن عقيل وامر بجوائز ثمينة لمن يأتي به، وفعلاً افشى احدهم بمكان وجود مسلم فندب ابن زياد ابن ابي عمرو المخزومي ومحمد بن الاشعث باعتقال مسلم .
يتضح من الروايات ان عملية قتل مسلم بن عقيل بأسلوب انتقامي يدل على حقد الطاغية بن زياد على الاسلام وأهله، اذ قرر الطاغية ان يلقيه من أعلى القصر الى الارض بعد ان يقطع رأسه، فكان مسلم بن عقيل يلهج بتسبيح الله وحمده واستغفاره وشكره على حسن بلائه مصلياً على ملائكته ورسله راضياً بإرادة الله .
فألقوا به من اعلى القصر شهيداً في التاسع من ذي الحجة سنة 60 للهجرة، وبأمر من الوالي قام الشرطة بشد الحبال في ارجل الشهيد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وجرى سحل الشهيدين في السوق والشوارع والازقة.
وعليه نستفيد من هذه الشخصية معاني سمو النفس عن الغدر والترفع عن المكر حتى ولو مع اعدائه فزرع بذرة التضحية والايثار والمصداقية مع الذات وهو في احلك الظروف.
جعفر رمضان
[1] ابي الحسن علي بن الحسن المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر(بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م)، جـ3، ص68.
[2]ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، الأخبار الطوال (قم، منشورات الشريف ارضي، بلا، ت)، ص231؛ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد(النجف، المطبعة الحيدريه، د.ت)، ص226.
[3] ابي الحسن علي بن الحسن المسعودي، المصدر السابق، ج3، ص68
[4] احمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي(بيروت، دار صادر، د. ت)، ج2، ص243.
[5]ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، المصدر السابق ، ص231؛ عبد الحسين العاملي، المجالس الفاخرة في مأتم العترة الطاهرة (بيروت: مؤسسة الوفاء، د. ت) ص61.
[6]أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم(مصر، دار المعارف، 1961م)، ج5، ص357؛ محمد بن محمد بن النعمان المفيد ، المصدر السابق، ص205.
[7]ابي الحسن علي بن الحسن المسعودي، المصدر السابق، ج3 ص68؛ محمود بن محمد الشيخاني، الصراط السوي في مناقب آل النبي( النجف: مكتبة امير المؤمنين العامة، د. ت) ص86.
[8]أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، المصدر السابق ،ج5 ص357؛ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (قم: منشورات مكتبة الداودي، د.ت) ج2، ص348.
[9]رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف(النجف: المطبعة الحيدرية، د.ت) ، ص129.
[10]ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، المصدر السابق ، ص 231؛ المفيد، الإرشاد، ص205
[11]المصدر نفسه، ص 231؛ محمد بن ابي طالب الكركي ، تسلية المجالس، تحقيق: فارس حسون كريم، (قم: منشورات المعارف الإسلامية، د.ت)، ج3، ص180.
[12]ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، المصدر السابق ، ص 213.
[13] إبراهيم الموسوي الزنجاني، وسيلة الدارين في أنصار الحسين(بيروت، مؤسسة الاعلمي، 1975م)، ص122 .
اترك تعليق