حميدة بنت مسلم .. يتيمة الضوء

سحابة تغلف الفصول والقلوب, بل وتحجب الشمس عن النوافذ التي لوثتها آذان الجواسيس.. العصافير لم تعد تطيق الأزقة الداكنة التي سكنتها الأشباح، فالمدينة صبغتها مساحيق الهواجس بالجنون والموت..

لم يكن حديث في الكوفة سوى أصداء الجائزة التي سلخت الناس من آدميتهم...

ـــ (من أتاني بمسلم بن عقيل فله عشرة آلاف درهم، والمنزلة الرفيعة من يزيد بن معاوية، وله في كل يوم حاجة مقضية)...!!

هذه الكلمات حديث الساعة، وصداها ينزو في الأخيلة, والشهوات والمطامع يتطاير شررها من العيون، فالمبلغ كان كافياً لأن يحطم في النفوس كل معنى أنساني مقدس، بل ليسحق كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة!!

وقفت طوعة بباب دارها وهي تنتظر ابنها بعد أن أسدل الليل أعين الفضول والريبة..., كلٌّ دخل إلى بيته حاملاً سلالاً شتى.. الخوف.. الغضب.. الوجوم.. الطمع.. وحتى من كان يقف خلف الكواليس فقد كان ينظر إلى الأفق البعيد وكلما أمعن في التحديق ازدادت الرؤية ضبابية وحوّل عينيه عن المستقبل المجهول...

أما هي فقد التحفت بالصمت ولاكت حسرتها وهي ترى الكوفة غرتها أماني ابن زياد وتطامنت للسيف الذي لم يرفع عنها منذ أن شق رأس أميرها سيف ابن ملجم قبل عشرين عاما ؟ الصراع الخفي بين أنصار مسلم بن عقيل وأنصار الأمويين يتحوّل في داخلها إلى صراع أشد منه..

طال انتظارها لولدها العاق الذي كان يعمل شرطيا وكادت أن تدخل الدار عندما لمحت شبحاً لإنسان وهو يخطو نحوها..!! كانت خطواته ثقيلة تدل على أنه كان تعباً جداً.., لم تدر ما الذي جعلها تقف مكانها وتراقب ذلك الشبح وهو يتقدم نحوها شيئاً فشيئاً ورغم دهشتها عند رؤيته يمشي في هذا الزقاق المظلم وحيداً في تلك الساعة إلا أنها لم يخالجها شعور بالخوف أو القلق منه..,

سلم بأدب جم ثم طلب ماءً..., وبقي جالساً في مكانه!!... تردد قليلا وتلفت قبل أن يبوح بسره ــ اسمه ــ

ـــ أنا مسلم بن عقيل!!!

كانت لحظات أطول عليه من دهر قبل أن تفيق المرأة من صدمتها فتنحّت ليدخل!! جاءت له بالعشاء فوجدته مستغرقاً في الصلاة..., تركت العشاء وخرجت لتجد ابنها قد عاد.

كانت هذه المرة الأولى التي كرهت فيها حضوره إلى البيت وودت لو أنه لو لم يحضر.. أو لا يحضر أبداً .. فما أقبح أن يوجد الثعبان في محراب القديس

سألها بعينيه قبل لسانه وهو يحوّل نظره بينها وبين الباب فدله اضطرابها على وجود شيء ما...

ــ يا بني لا تحدثنَّ أحداً من الناس بما أخبرك به ..

لم تعلم أن خنجر الغدر المسموم يبيته لها ابنها الشرير تحت طيات لسانه وإن فرحتها بإيواء سفير الحسين في بيتها سينغصّها هذا الشيطان المارد.. فما إن لاحت تباشير الفجر الأولى حتى سمع مسلم وطوعة جلبة الخيل وصياح الفرسان عند الباب!!

كانوا سبعين رجلاً طوّقوا بيت المرأة.. لمواجهة ــ جيش في فرد ــ هكذا رأت طوعة مسلما وهي مذهولة تنظر إلى هذا الإنسان الذي لم تجد للموت في قاموسه معنى وانتهت مهمة الرجال السبعين الأشداء بالفشل الذريع أمام رجل واحد!!

كان طلب الإمدادات لخوض معركة مع رجل واحد يدق ناقوس الخطر في قصر ابن زياد الذي جُنّ رعباً وعنّف قائد شرطته, ولكن ابن الأشعث لم يترك لابن زياد قوله (رجل واحد) دون رد ليذكره بأنه لم يرسله إلى رجل عادي, بل بعثه إلى رجل من طراز خاص..

الأمان الغادر والنظرة الشيطانية لم يقللا من صعوبة المهمة التي جاءوا من أجلها كانت طوعة ترى .. ملحمة يرسمها هذا الفارس لتطرز هي أحداثها في مخيلتها إلى الأبد.., كان ينتفض رغم كثرة الجراح والحروق التي أصيب بها جسده كما تنتفض العنقاء من الرماد ليفترس من حوله وهي تنظر إلى التفاصيل واجمة وتبعت مسلم بنظراتها وهو مغطى بالدماء وغابت عنها رؤية كل ما حولها سوى مسلم..

هُيِّئ لها أنها رأت طفلة صغيرة تعانق الفارس المُدمَّى وتمسح بيديها الدماء عن وجهه وتقبله..!! وهُيِّئ لها أنها رأت شفتي الفارس تتمتمان وكأنهما تنحتان الحروف بالدماء ورغم الأصوات العالية حولها إلا أن صوتاً ضعيفاً واحداً أحست أنه انطلق من فم الفارس اخترق سمعها:

ـــ حـ.. ــمـ.. يـ.. ـد.. ة

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار