الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) واثره في تعريب النقود الإسلامية

يمكن القول ان عظمة أية دولة من الدول يرتبط ارتباطاً  وثيقا بالحياة الاقتصادية لتلك الدولة وقدرتها على الإنفاق، بتعبير أدق أي يعتمد انفاقها على قوة نقدها، وعليه تؤكد النصوص التاريخية ان الدولة الإسلامية في عصر الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) كانت تتعامل بالعملات الأجنبية منها على سبيل المثال لا الحصر الفارسية والرومية، وبفعل ذلك يعطينا انطباعاً عن تبعية اقتصادية لهذه الدول، مما يضعف دور الدولة العربية الإسلامية بسبب عدم استقلاليتها عن اقتصاديات تلك الدول. من هذا المنطلق، كان الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) مفخرة  ونابغة نادرة وعموداً حقيقياً للمجتمع الإسلامي آنذاك، كان له اثراً كبيراً في وضع الحلول للازمة الاقتصادية وتحرير الاقتصاد الدولة الاسلامية من التبعية الاجنبية، حيث اشار على السلطة الحاكمة تعريب النقد الإسلامي وفك التعامل بالعملات الأجنبية، وهذا مما يضيف للدولة هيبة وسطوة واستقراراً اقتصادياً أكثر. وفي ضوء ذلك، يؤكد المؤرخ كمال الدين محمد بن موسى الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" دخل أبو الحسن الكسائي على هارون  العباسي ذات يوم وهو في ايوانه وبين يديه مالا كثير... فأمر بتفريقه في خدمة الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله فقال: "هل علمت أول من سن هذه الكتابة بالذهب والفضة!" قلت : "سيدي هو عبد الملك بن مروان"، قال : "فما كان السبب في ذلك؟" ، قلت : "لا اعلم غير انه أول من أحدث هذه الكتابة"، فقال : "سأخبرك" : كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانياً على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية وكان طرازها "أباً وابناً وروحاً" ، فلم يزل كذلك صدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى ان عبد الملك بن مروان فتنبه له ، وكان فطناً فبينما هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر في طرازه فأمر ان يترجم بالعربية ففعل ذلك فانكره ، وقال : "ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام ، ان يكون طراز القراطيس وهي تحمل في الأواني والثياب وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الأفاق والبلاد ، وقد طرزت بسطر مثبت عليها"، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان ، وكان عامله بمصر بأبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وان يأمر صناع القراطيس ان يطرزوها بصورة التوحيد (شهد الله ان لا اله الا هو) وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الأفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل ، فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد ، وحمل إلى بلاد الروم ومنها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم ، وترجم ذلك الطراز فانكره وغلظ عليه واستشاط غيظاً فكتب إلى عبد الملك ان عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى ان أبطلته ، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وان كنت قد أصبت فقد اخطأوا ، فاختر من هاتين الحالتين ايهما شئت وأحببت وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك ، وأحببت ان تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الإغلاق حاجة أشكرك عليها ، وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول واعلمه انه لا جواب له ورد الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه اضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك ، وقال إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي ، فأضعفت الهدية واني ارغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه من رد الطراز إلى ما كان عليه أولاً ، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية ، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول انك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها ، فجريت على سبيلك الأول ، وقد أضعفتها ثالثةً ، وأنا احلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فانك تعلم انه لا ينقش شيء منها الا ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها شتم نبيك ، فإذا قرأته ارفض جبينك عرقاً ، فأحب ان تقبل هديتي وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها ونبقى على الحال بيني وبينك . فلما قرأ عبد الملك الكتاب صعب عليه الأمر . بعبارة أكثر صراحة ووضوحاً، كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند احد منهم رأياً يعمل به ، فقال له روح بن زنباع : "انك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه" ، فقال : ويحك من، فقال : "عليك بالباقر من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)" قال : صدقت ، ولكنه ارتج علي الرأي فيه ، فكتب إلى عامله بالمدينة ان اشخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرماً ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأرح عليه في جهازه من يخرج معه من أصحابه ، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي ، فلما وافاه اخبره الخبر ، فقال له الإمام محمد بن علي (عليه السلام) : "لا يعظم هذا عليك فانه بشيء من جهتين ، أحداهما ان الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والأخر وجود الحيلة فيه ، قال : "وما هي" ، قال : تدعوا في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً بالدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها صورة التوحيد ، وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحداهما في وجه الدراهم والدنانير ، والأخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدراهم والدنانير ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل ، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل ، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون اوزانها جميعاً إحدى وعشرين مثقالاً ، فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجاب من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة ، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل" . وتشير الروايات ان الدراهم كانت في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية  ، ففعل ذلك عبد الملك وأمره الامام محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ان يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام وان يتقدم إلى الناس في التعامل بها ومعاقبة من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وان تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك، ورد رسول ملك الروم إليه بذلك يقول : "ان الله عز وجل مانعك مما قد أردت ان تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا بإبطال السكك والطروز الرومية"، فقيل لملك الروم : "افعل ما كنت تهددت به ملك العرب" ، فقال : "إنما أردت ان أغيظه بما كتبت إليه ، لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم ، فأما الآن فلا افعل لان ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام" ، وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به الامام محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) إلى اليوم ، ثم رمى الرشيد بالدرهم إلى بعض الخدم . نستنتج من ذلك بالرغم مما عاناه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) من الظلم والاضطهاد والقتل والتنكيل على يد الأمويين ، نجدهم لا يتأخرون في أوقات الشدائد من الإقدام وإبداء النصح والإرشاد والتوجيه لهؤلاء الحكام لما فيه خير مصلحة الأمة الاسلامية، وهذا ان دل على شيء إنما يدل على حرص الأئمة (عليهم السلام) على الإسلام والعمل على تدعيم أركانه، واستطاع الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) بعمله هذا يكون قد أسدى خدمة جليلة للأمة الاسلامية فأسهم في تدعيم اقتصاد البلاد مما يساعد على رفاهية المجتمع ويساعد كذلك على حرية اتخاذ القرارات ومنها السياسية.

جعفر رمضان  ___________________________________

[1]قيل البغلية نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل ، فجمع الخفيف والثقيل وجعلا درهمين متساويين فجاء كل درهم ستة دوانيق . للمزيد من التفاصيل ينظر: فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين تحقيق: احمد الحسيني، (قم: مؤسسة نشر الثقافة الإسلامية،  1408هـ)، ج2 ، ص29.

[1] كمال الدين محمد بن موسى الدميري، حياة الحيوان الكبرى ،( القاهرة :مطبعة الاستقامة،1954) ، ج1 ، ص 62 – 64 .

المرفقات