محمد بن علي الجواد ... الإمام المعجزة

لا نبالغ اذا قلنا ان الامام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) قد انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث كانت امامته مثاراً للجدل والحوار بسبب صغر سنه، فهو اول إمام يبلغ الامامة في طفولته، اذ عاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) مسؤوليّة الإمامة، والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن في سنِّ الصِّبا ان يتحمل مسؤولية ومهمة امامة المسلمين؟ وهل حصل ذلك في الامم السابقة؟. ان الجواب على هذا السؤال يكون كالاتي .

لا يوجد مانع من الله ان يجعل مرحلة النضج تحدث في بعض عباده قبل موعدها المقرر لمصلحة ما. وقد ورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) انه سُئِلَ عن قوله تعالى ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾[1] قال :" خَلقُ من خلق الله عزَّ وجلَّ أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله يخبره ويسدَّده وهو مع الائَّمة من بعده" . يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على يحيى بن زكريا(عليهم السلام) في نبوّته، اذ اشار القران الكريم ان النبي يحيى انه بعث وهو صبي ﴿ يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[2] اذ اكد بعض المفسرين ان كلمة الحكم في الآية بالفهم والعقل وقال بعض اخر أن المراد منها هو النبوة. بين القرآن الكريم ان النبي عيسى (عليه السلام) تكلم وهو في المهد ودافع عن أمه اذ قال ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾[3]. بحكم هذه الحقائق، كان هناك رجال الهيون آخرون تمتعوا بهذه النعمة قبل أئمة اهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ليس مختصاً بالأئمة فقط.

لذلك اجتمع كبار العلماء المسلمين من فقهاء بغداد والامصار وقصدوا المدينة ليشاهدوا الامام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، واجروا لقاءات معه وطرحوا عليه اسئلة لاختباره والتأكد من أنه يتمتع بعلم الامامة. وقد استطاع(عليه السلام) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها[4]. حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته، وبفعل ذلك يمكن أن نسمّيه بـ"الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعده في سنِّ الصِّبا.  

تؤكد المصادر التاريخية ان الامام (عليه السلام) نهض بأعباء الإمامة بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا،  وقد مارس دور التوعية والتبليغ الديني بمقدار ما سنحت به الظروف حيث كان معلمًا ومدافعًا ومربيًا عن شرائع الإسلام الاصيل، ومتصديًا لمعالجة ما يثار من شبهات وقد كان يمارس كل ذلك من خلال خطاباته ومكاتباته وإجاباته عن الأسئلة ومناظراته التي كانت تُعقد في محافل العلماء.

ثمة حقيقة تاريخية ان الامام محمد بن علي الجواد قد ساهم طيلة مدة امامته في اغناء مدرسة بيت النبوة العلمية وحفظ تراثها، وامتازت بالاعتماد على النص والرواية عن النبي الاكرم محمد(صلى الله عليه واله) وعلى الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، فضلا عن اهتمامه بالعلوم والمعارف العقلية واعتمد الامام الجواد في منهجه العلمي على عدة اساليب منها على سبيل المثال لا الحصر :-

تبين الروايات ان الامام اعتمد اسلوب التدريس وتعليم التلاميذ والعلماء وحثهم على الكتابة والتدوين وحفظ ما يصدر عن أئمة أهل البيت، فضلا عن ذلك امرهم بالتأليف والتصنيف ومنهم على سبيل المثال صفوان بن يحيى الذي صنف العديد من الكتب منها الوضوء والصلاة والحج ، الزكاة والنكاح والوصايا، البشارات والنوادر والطلاق، والشراء والبيع الفرائض.  يجب ان نشير هنا ان الرواة في عهد الامام (عليه السلام)، قد بلغ مائة وعشرة ومن ابرزهم علي بن مهزيار، وزكريا بن ادم، والحسين بن سعيد الأحوازي، واحمد بن أبي عبد الله البراقي، صفوان بن يحيى ، وكان كل واحد منهم عالماً بذاته في مختلف العلوم، ولم يكن رواة الامام الجواد من مدرسة اهل البيت فقط وانما كان هناك من السنة منهم الخطيب البغدادي الذي روى عن الامام محمد بن علي الجواد أحاديث بسنده الخاص[5].  تشير المصادر ان الامام (عليه السلام) اقام نظاماً للوكالة في غاية التنظيم والدقة، تابع فيه وكلائه، وتسليمهم الأموال اليه، ووكالتهم في الصغيرة والكبيرة ، فكان الامام (عليه السلام) يقف على سلوك الوكلاء في حياتهم ويتابع الشخصيات التي تقوم مقامهم في الوكالة بعد وفاتهم كقوله في رسالة لأحد وكلائه:" ذكرت ما جرى من قضاء الله به في الرجل المتوفي رحمه الله يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيا، فقد عاش أيام حياته عارفا با الحق، قائلا به صابرا محتسبا للحق، قائما بما يحب الله ورسوله: ومضى رحمه الله غير ناكث ولا مبدل، فجزاه الله أجر نيته وأعطاه خير أمنيته وذكرت الرجل الموصي إليه، ولم تعرف فيه رأينا وعندنا من المعرفة به أكثر مما وصفت" [6]، فضلا عن ذلك اتبع اسلوب تعيين الوكلاء ونشرهم في مختلف انحاء العالم العربي الاسلامي ليكون دعاه الاسلام وتبليغ احكامه ، وقد بعث بهم الى الكثير من المدن منها على سبيل المثال الاحواز، همدان، سيستان، الري، البصرة، واسط، بغداد، الكوفة، وقم. اسلوب المناظرة والحوار والسبب في ذلك لأنّه أوّل من تقلّد الإمامة وهو صغير، وان الامامة لم تثبت لكثير من العلماء المسلمين، وكانوا يطالبون عقد مناظرات وحوارات ليطلعوا على ما يحمل الامام محمد بن علي الجواد من علم الهي،  وقد أثارت مناظرات الإمام الجواد وكلماته ومعالجته للقضايا العلميّة والفقهيّة الكبرى تقدير وإعجاب العلماء والباحثين الإسلاميين، شيعيّهم وسنيّهم، ودفعتهم إلى أن يكنّوا الاحترام له ولمنزلته العلميّة الرّاقية، فراح كلّ منهم يثني عليه .

وعلى سبيل المثال الا الحصر، كتب ابن الجوزي: "كان الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والزّهد والجود"[7]. ابن حجر اكد في كتابه : "كان المأمون زوَّجه ابنته لمّا رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والحلم ما برز به على جميع العلماء" [8] .

وختاما يجدر بنا ان نقول ان على الرغم من الاوضاع السياسية التي عاشها الامام (عليه السلام) الا انه مارس نشاطاً فكريا واسعاً، حيث اعتمد على مجموعة من الوكلاء السريين لنشر توجيهاته السياسية وفتاويه العقائدية والتعريف بمنهجية اهل البيت (عليهم السلام) في مناطق متفرقة من العالم الاسلامي، فكانوا بمثابة دعاة للإمام مارسوا مسؤولياتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية .

فضلا عن ذلك تمكن من نشر ثقافة اهل البيت على الرغم من عمره القصير الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين.  

جعفر رمضان

 

[1] سوره الشورى، الآية 52.

[2] سورة مريم ، الآية 12.

[3] سورة مريم ، الآية 30.

[4] محمد باقر المجلسي، بحار الانوار،(طهران : المكتبة الاسلامية، 1965م)، ج50، ص90؛ ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، أثبات الوصية، (قم: مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر،2003م)، ص210.

[5] محسن الامين العاملي، اعيان الشيعة ، تحقيق: حسن الامين،(بيروت: دار التعارف، 1998)، ج2، ص35.

[6] محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الاختصاص، تحقيق: حسين الاعلمي،( بيروت:1993)، ص87-88.

[7]  سبط ابن الجوزي ، تذكرة بتذكرة خواص الأمة في خصائص الأئمة، تحقيقعامر النجار،( مكتبة الثقافة الدينية، 2008)، ص359

[8] شهاب الدين ابي الفضل احمد بن علي ابن حجر، الصواعق المحرقة،(بيروت: مؤسسة الرسالة،1997)، ص205.

المرفقات