من المؤكد ان أفراد أي مجتمع يواجهون تغييرات متلاحقة في الحياة المعاصرة.. وهي تحُدث انعكاسات تقض مضجع ارباب الاسر وتثقل مسؤولية المؤسسات التربوية التعليمية وتدفعها نحو بذل جهود استثنائية في محاولة لتمكين الجيل الجديد من مواجهة متطلبات الحاضر والمستقبل وتحدياتهما..
التربية بمفهومها الواسع كما هو معروف انها الأداة الفاعلة في بناء شخصية الفرد بالدرجة الأولى وتأهيله لاكتساب الخبرات التي تساعده في أداء وظائفه المجتمعية، حيث انها تعد الوسيلة المثلى لتغير سلوك الفرد وتنمية شخصيته بما يخدم المجتمع والارتقاء بواقعه.. فالعملية التربوية تتمثل بمحاولة تكييف الفرد للتعايش مع بيئته وما يحيط به من ثقافات وتراث إنساني ومعارف علمية وعملية، ليكتسب مهارات وأنماطا سلوكية تمكنه من ممارسة دوافعه الداخلية.. بما يتلاءم مع الظروف والمواقف المحيطة به والتوافق مع مجتمعه، أي بمعنى ادق انها اكتساب للمهارات وأنماط السلوك التي تمكنه من موازنة دوافعه الداخلية مع الظروف البيئية.
والتربية تهدف بالدرجة الاساس إلى تنمية المتعلم و استعداداته وتوجيهه الوجهة الاجتماعية السليمة حتى يكون فرداً صالحاً في المجتمع الذي يعيش فيه من خلال تنمية مهاراته وتفعيل دورها بما يخدم برفع الجانب الثقافي لديه والمجتمع الذي ينتمي اليه بكل مستوياته الفنية والأدبية والعلمية فضلا عن تنشيط واقعه الاقتصادي.. فاليوم ومع اتساع معارف الحضارة الإنسانية وتطور وسائل الاتصال وازدياد ظاهرة المثاقفة بين شعوب العالم، اصبح لكل مجال من مجالات الحياة وما يرتبط بها علم يختص به بشكل من الأشكال ومن هذه المجالات... والتربية والتعليم من اهم مجالات الحياة التي قامت عليه كل منجزات البشرية واستأثرت باهتمام الإنسان، فمنذ أن وعى ذاته وهو يحاول أن ينقل خبراته من جيل إلى جيل وبشتى الأساليب، فابتداء بالتعلم عن طريق المحاولة والخطأ ومرورا بالمحاكاة والتقليد وجاء بزوغ شمس حضارات الرافدين ليضيء تاريخ البشرية وينقلها إلى العصور التاريخية من خلال اعظم إنجاز على الإطلاق إلا وهو الكتابة التي اصبحت وسيلةً للتدوين ومن ثم تجاوز حاجز الزمن من تنشيط الاتصال ونقل الثقافات والعلوم المختلفة الى الاجيال اللاحقة، حيث اقترن التعليم بالمكان كما في المعابد السومرية التي وجد معها الشكل البدائي للبرامج التعليمية وأول نظام تعليمي على مستوى التأريخ من خلال تكرار كتابة ما يتعلموه من رموز واشكال ومن ثم استنساخها بشكل متكرر بهدف حفظ رموز الكلمات وإتقان كتابتها.
يعد التعليم من المشاريع الإنسانية الهادفة الى مساعدة الأفراد على التعلم، وهو بذلك يكون نشاط تواصلي الغرض منه إثارة دافعية المتعلم وتسهيل التعلم بوساطة مجموعة من النشاطات والقرارات التي يتخذها المعلم او الطالب في الموقف التعليمي من خلال الاهتمام بطرائق التدريس وتقنياته وتنظيم هيكل الموقف التعليمي الذي يتفاعل معه المتعلمون.. وذلك من اجل تحقيق الأهداف المتوخاة من هذه العملية، ويتم ذلك من خلال تصميم مقصود أو تنظيم الخبرات التعليمية ضمن البيئة التعليمية بطريقة ما وأساليب معدة بحيث يؤدي إلى تحقيق التعلم لدى المتعلمين وبمتابعة من قبل القائم بالعملية التعليمية التعلمية.
بشكل عام يعرف التعليم بانه مجموعة من الأنشطة والفعاليات التي تؤثر في المتعلم.. بصورة تؤدي إلى تيسير عملية التعلم من اجل تحقيق الفائدة الأكثر له، ونتيجة لازدياد المعارف الإنسانية والعلمية وتشعب فروعها ولا سيما مع نهاية القرن التاسع عشر والتي فرضت على المتعلمين في مختلف صنوف العلم والمعرفة متطلبات جديدة وكبيرة لا تستطيع الوسائل التقليدية في التعليم تلبيتها.. فقد وضع القائمون على العملية التعليمية أمام تحد كبير لتجاوز هذه المتطلبات الأخذة بالتفاقم والاتساع، فتمخض عنها محاولات كثيرة قام بها منظري التربية و علماء النفس وفي بلدان العالم المختلفة، ومنها ما جوبه بالفشل ومنها ما ساعد بالنهوض بالعملية التربوية التعليمية من خلال التنظير واشراك الاسرة في العملية التربوية بشكل عام وبالتالي تحديد الاهداف المبتغاة من العملية التربوية ومحاولة تحقيقها من خلال تصميم ممنهج لها.
التصميم التعليمي..
يعد التصميم التعليمي من العلوم الحديثة التي شاع استخدامها من اجل الارتقاء بواقع التعليم والعملية التعليمية وتنظيمها وتقويمها، بما يحقق افضل فائدة للمتعلم اضافة الاقتصاد بالجهد والزمن قدر الإمكان، ويرتبط هذا العلم بكفاءة المعلم بالدرجة الاولى كونه عماد العملية التعليمية والعصب المحرك فيها فمنه وخبراته تقدمت التقنيات التربوية وحُدِّثت، وبالتأكيد فمهما وظفت الفلسفات وترجمت إلى مناهج وطرائق وأساليب واعدت إعداداً علمياً ومهنياً وبمستوى عالٍ من الكفاءة، فهي تبقى عاملاً مساعداً للمعلم تؤهله وتساعده على القيام بالأدوار الملقاة على عاتقه كونه مربياً ومعلماً وموجهاً وقائداً في الوقت ذاته.
ظهرت البدايات الاولى لعلم التصميم التعليمي حينما جمع وبلور العلماء المعرفيون أفكارهم وقدموها بصيغة مؤشرات أساسية عام 1961، ومن ثم شرعوا بتنظيمها وتقديمها على إنها مجموعة من الإجراءات الخاصة بالتصميم التعليمي – التعلمي التي أطلقوا عليها تسمية مستويات ووضعوها تحت عنوان تكنولوجيا التعليم، والتي مثلت مجموعة من القواعد لتحليل عمليات التعلم وبناء تمارين تدريسية ملائمة، وبالفعل فقد اثبتت بعض الدراسات والتجارب صحة هذه القواعد ولاسيما فيما يتعلق بالتصنيف الثلاثي لعمليات التعلم (السلاسل - التميزات - والتعميمات ) التي أثبتت جدواها في المجال التعليمي، حتى شاع مفهوم التصميم التعليمي تربويا في سبعينيات القرن العشرين واستمر في تطوره بما يخدم العملية التربوية – التعليم والتعلم – على المستوى العالمي وحتى يومنا الحاضر.
وضع العديد من منظري العلوم التربوية نظرياتهم المعرفية انطلاقاً من مبدأ ان التعلم هو تجميع وتنظيم واستخدام للمعرفة.. وكلما ازداد مخزون الفرد من المعلومات ازدادت قدرته على مواجهة المشكلات وحلها، وحل المشكلة يعطي مؤشراً واضحاً على أن الفرد قد اكتسب أو تعلم شيئا جديدا.. ولذلك يرى هؤلاء العلماء إن اولى خطوات التعلم هي عملية الإدراك أو التعرف على الأحداث في العالم المحيط بنا وتبدأ معرفة الفرد فيما يحققه من سمع ونظر ولمس وتفسير ما تلتقطه الحواس التي هي وسائل اتصال الإنسان بالبيئة المحيطة به والعالم الذي يقع خارج ذاته، ويرى أصحاب هذا الاتجاه الفكري بإن التعلم هو نتيجة المحاولات الجادة لفهم المحيط من خلال استخدام استراتيجيات التفكير المتاحة، إذ تختلف نوعية المادة المراد تعلمها وكميتها باختلاف الآراء والاعتقادات والتوقعات، فمن الممكن ان يستمع متعلمان لمعلم ما في حصة واحدة ولكن يختلف كل منهما في مدى فهمه وكيفية تفهمه للهدف أو لما تم عرضه في تلك الحصة و ذلك بتأثير من خلفية وطريقة فهم وخزن المعلومات المتعلمة.
يسعى علم التصميم التعليمي في الواقع الى استخدام نظريات التعلم وعلوم الاتصال بفاعلية وحيوية، وذلك عن طريق تحويل الطروحات النظرية إلى تطبيق عملي علمي مخطط له بأهداف تعليمية وسلوكية واضحة، وبمنهجية مدروسة توزع المادة العلمية أو المعرفية على مراحل وبشكل يراعي خصائص المتعلمين والفروق الفردية بينهم وبما يفي من المتطلبات التي يفترض بهم تحقيقها، وجعل البيئة التعليمية أكثر ثراء و غنى بالشكل والمضمون، وتوظيف ما وفرته التكنولوجيا الحديثة من وسائل تقنية مع اختيار أفضل الطرائق التعليمية وتنويع الأساليب، للانتقال بالمتعلم من الحالة السلبية التي هو عليها في الطريقة التقليدية والمتمثلة في كونه متلقياً فقط إلى حالة إيجابية بجعل المتعلم يتلقى بفعالية فهو يشارك في العملية التعليمية- التعلمية، ولا يقتصر عمل البرنامج على هذا الحد فقط بل هناك مجموعة من الاختبارات المختلفة التي قننت ووضعت بعناية لتقييم العملية وتقويمها وبشكل مستمر، مع الاخذ بنظر الاعتبار محاولة توفير الخدمات الساندة والتغذية الراجعة لتجاوز أي قصور قد يحصل في استيعاب المتعلمين وفي أي مرحلة من مراحل العملية التعليمية وبما يضمن تحقيق الأهداف المتوخاة منها ومن برنامجها التصميمي المسبق وباختزال للجهد والوقت للمتعلم والمعلم وبما يحقق نتائج أفضل، وذلك من خلال الأمثلة التعليمية.. فالعملية التعليمية ماهي الا نظام متكامل مغلق الأطر تخضع جميع عناصره إلى عملية التقويم والتغذية الراجعة، وهذا ما نلاحظه ونلمسه في اغلب النظريات التعليمية الحديثة التي بدأت تفرض سطوتها على مجالات التربية والتعليم منذ العقد السابع من القرن العشرين وحتى اليوم تحت عنوان نظريات التصميم التعليمي التي تعنى بهندسة البيئة التعليمية وفق دراسات مسبقة ومعد لها مسبقاً، حيث بنيت هذه النظريات على أسس علمية رصينة تتمثل بنظريات التعلم و نظريات الاتصال الحديثة و تطبيقاتها التربوية وعلاقتها بنظريات النظم العامة التي تتأطر واقعاً بأسس تكنولوجيا التعليم ومبادئها..
أن عملية التصميم التعليمي تتضمن تهيئة البيئة التعليمية المثالية للمتعلمين والمعلمين.. مع ترتيب النشاطات والفعاليات المرافقة للعملية التربوية وتوظيفها بطريقة معينة تجعلها تأخذ مكانها ضمن هذه البيئة لتسهيل عملية التعليم والتعلم، وهي من ناحية أخرى وصف للإجراءات التي تتعلق باختيار المادة التعليمية المراد تصميمها وتحليلها وتنظيمها، ومن ثم الارتقاء بها وتحسينها من خلال إجراء التقييم لمعرفة مدى تحقيقها للأهداف التي وضعت من اجلها وتقويمها عبر التغذية الراجعة باعتبارها وسيلة تساعد المعلم الذي يستخدم البرنامج أو الأنموذج التعليمي، بغية تجاوز حالة القصور لدى بعض المتعلمين وقت تطبيق التصميم التعليمي أو الأنموذج ومن خلال اتباع افضل الطرائق التعليمية واحدثها، وباختزال للجهد والوقت مع المحافظة على المستوى المطلوب للنتائج المتوقعة من البرنامج أو التصميم التعليمي.
لقد قاد هذا العلم الى رقي العملية التعليمية والتربوية على مستوى التطبيق عالمياً من خلال بناء طرائق جديدة وأساليب حديثة للبرامج و البيئات التعليمية التعلمية وبالخصوص بيئة التعليم الالكترونية الحديثة التي ساعدت بفاعلية على فهم وتحليل العلاقة بين معرفية الإنسان و أدائه حيث اعتماد عملية التركيز على معالجة المعلومات و التفكير والتفكر واحلالها محل الصيغ التقليدية في التعلم، فهي ليست تحويلا للمقرر التعليمي الورقي إلى مقرر رقمي فحسب، بل هي استثمار امثل للتكنولوجيا الحديثة لإعطاء قيمة مضافة للتعليم والتعلم من خلال تسهيل نقل المعرفة واكتساب المهارات مع المحافظة على جودة الموقف التعليمي... لتبدأ المؤسسة التربوية التعليمية بالاشتراك مع الاسرة وعلى ضوء ما صمم مسبقاً من برنامج تعليمي ناجح باختيار الوسائل والمواد و الفعاليات بناءً على تحليل العمليات العقلية و جعل المتعلم ينظر و يسمع و يتفاعل ويلتقط المثيرات المختلفة و المطلوبة بوساطة جاذبات الانتباه المتمثلة بالمنصات الالكترونية التعليمية المختلفة التي تسهم في بناء عملية التعلم وبالتالي ضمان دقة مخرجات العملية التعليمية وجودة مدخلاتها ونجاحها بالمستوى المطلوب.
اعداد: سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق