ابن هانئ الأندلسي .. وثمن الهوية الشيعية

عندما يحمل الشاعر قضية فإنه يعيشها ويصوّرها ويجسّدها في شعره بأشكال مختلفة حتى تصبح هذه القضية، المحور الذي يدور عليه شعره وتتخلل أفكاره وآراءه وهواجسه، كما تتخلل قطرات المطر مسامات التراب، فحينها تتعانق إنسانية الشاعر وقضيته فيسخّر لها جميع إمكانياته الإبداعية ليكون نشيداً لقضيته من جهة، وكلمة ورسالة لقضية الشعر من جهة أخرى.

ويجد المتتبع لحياة الشاعر ابن هانئ الأندلسي هذه الخاصية، وقد تجسّدت في أقواله وأفعاله, وكانت قضية أهل البيت (ع) ومظلوميتهم تملأ جوانح هذا الشاعر فصدح بها غير آبهٍ بما يتهدّده من خطرٍ حتى قال فيه القائل:

إن تكن فــارساً فكن كعليٍ   ***   أو تكن شاعراً فكُن كابنِ هاني

كل من يدَّعي بما ليس فيه   ***   كذّبــــــــــــته شواهدُ الامتحانِ

متنبي المغرب

ولد أبو القاسم محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي بقرية (سكون) من قرى إشبيلية سنة (320هـ) وقد أجمعت المصادر على أن نسبه يتصل بالمهلب بن أبي صفرة، ولكنها اختلفت في سلسلة نسبه فقيل هو من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي وقيل من ولد أخيه روح بن حاتم.

كان أبوه (هانئ) من إحدى قرى المهدية (تونس حالياً) وكان شاعراً معروفاً فيها، فانتقل إلى الأندلس فولد له ابنه هناك, نشأ ابن هانئ على حفظ وافر من الشعر والأدب ومهر فيهما وأبدع, وكان حافظاً لأشعار العرب وأخبارهم، فخلفت قصائده الكثير من الإشارات إلى وقائع العرب وذكر شعرائهم وساداتهم وأجوادهم والأماكن التي ذكرها الشعراء الأقدمون, وكان ملازماً لدار العلم بقرطبة فبرع في الكثير من العلوم إضافة إلى الشعر كعلم الهيئة وغيرها, ثم استوطن (ألبيرة) فعرف بالشاعر الألبيري.

يقول عنه ابن خلكان: (ليس في المغاربة من هو أفصح منه لا مقدميهم ولا متأخريهم, بل هو أشعرهم على الإطلاق وهو عند المغاربة كالمتنبي عند المشارقة).

ويقول لسان الدين بن الخطيب: (كان ابن هانئ من فحول الشعراء وأمثال النظم وبرهان البلاغة لا يدرك شأوه ولا يشق غباره مع المشاركة في العلوم والنفوذ في فكِّ المعمّى وجرى ذكره في تلخيص الذهب من تأليفنا بما نصه: العقاب الكاسرة والصمصامة الباترة والشوارد التي تهادتها الآفاق والغايات التي عجز عنها السبّاق).

ويقول الذهبي: (ليس يلحقه أحد في الشعر من أهل الأندلس وهو نظير المتنبي).

وقد ترجم المستشرق فان كريمر بعض أشعاره إلى الألمانية وقال عنه: (قوة البيان وكثرة التمثيلات وجودة الألفاظ التي لا يكاد يقدر عليها من الشعراء إلا القليل هي الأوصاف التي نشرت صيته ورفعت ذكره فلذلك سمّته المغاربة متنبي الغرب فلا شبهة في كونه مستحقاً لذلك اللقب).

وقد شبهه ابن الأبار القضاعي بأبي تمام فقال: (هو وأبو عمرو بن دراج القسطلي نظيران لحبيب والمتنبي).

وقال الفتح بن خاقان: (هو علق خطير وروض أدب مطير غاص في طلب الغريب حتى أخرج دره المكنون وبهرج بافتتانه فيه كل الفنون وله نظم تتمنى الثريا ان تتوج به وتقلّد ويود البدر أن يكتب فيه ما اخترع وولّد).

ويقول السيد الأمين في أعيان الشيعة: (وكان مع مهارته في الشعر عارفاً بعلوم أخرى لا سيما علم الهيأة كما يظهر من قصيدته الفائية، وكان له حذق ثاقب في فك المعمى)

ويقال: إن المتنبي كان يريد الذهاب إلى المغرب فلما سمع قول ابن هانئ:

تقدم خطى أو تأخر خطى   ***   فإن الشباب مشى القهقرى

رجع وقال: سدَّ علينا ابن هانئ طريق المغرب.

وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح لكنها في الحالين تدل على شاعرية كبيرة تضاهي شاعرية المتنبي.

ثمن الهوية الشيعية

كان ابن هانئ معروفاً بتشيّعه مجاهراً فيه وهو القائل:

لي صارمٌ وهوَ شيعيٌّ كحاملِهِ   ***   يكادُ يسبقُ كرّاتي إلى البطلِ

وكان من الطبيعي أن يلتفت ملك إشبيلية إلى مواهب ابن هانئ فقربه من بلاطه فأعزه وأكرمه لكنه سرعان ما عصفت ريح الحسد والحقد بهذه العلاقة لأن الناس عرفوا تشيّع ابن هانئ فاتهموه بالكفر والإلحاد وهموا بقتله وأساؤوا القول في مَلِكهم بسببه، فأشار عليه الملك بالرحيل ريثما ينسى الناس أمره فرحل إلى البلاد المغربية وعمره (27) عاماً ووصل خبره إلى المعز الفاطمي فطلبه.

وكان الأمويون في الأندلس قد شددوا من قبضتهم على الشيعة وحاربوا كل ما يمت إلى التشيع بصلة يقول محمود علي مكي في كتابه التشيع في الأندلس: (إن الأمويين لم يقفوا مكتوفي الأيدي من الدعوات الشيعية التي ظلت تلح على الأندلس إلحاحاً شديداً فوقفوا منذ اللحظة الأولى موقفاً عدائياً صارماً وواصلوا في الأندلس السياسة التي رسمها لهم أسلافهم في المشرق والقضاء على كل نزعة تمت إلى التشيع بصلة)

ويقول الدكتور كاظم الخفاجي: (إن الدولة الأموية في الأندلس ــ كجزء من سياستها في مواجهة التشيع ــ فتحت أبواب الأندلس لكل من يحمل عداءً للتشيّع والدولة الفاطمية في مصر)

وفد ابن هانئ على المعز في المنصورية بقرب القيروان ومدحه، ولما توجّه المعز إلى مصر بعد أن فتحها جوهر الصقلّي شيّعه ابن هانئ ورجع إلى المغرب وتجهّز ثم التحق به حاملاً معه عياله ولما وصل إلى برقة وكان ذلك عام (362هـ)، كانت المنية تنتظره إذ وجد مخنوقاً فيها ولما وصل خبر وفاته للمعز وهو بمصر تأسّف عليه وقال:

(هذا الرجل، كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدَّر علينا ذلك)، وكان عُمر ابن هانئ يوم قتل 36 سنة.

عُرِف ابن هانئ بنفسه الشعري الطويل فقليل من قصائده تجاوزت السبعين أو الثمانين بيتاً أما جُل قصائده فقد أربت على المائة ومنها ما بلغ المائتين ولكن هذا الاكثار لم ينقص من قوة القصيدة ولا حطّ من متانتها وسبكها وقوة نسجها

الشاعرية والشجاعة

عقد أغلب المؤرخين والنقاد قديماً وحديثاً مقارنة بين ابن هانئ والمتنبي, يقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه (في الأدب والفن) عن ابن هانئ: (إن ابن هانئ شاعر ذو قريحة شاعرية مزيجية من شجاعة المتنبي ونفسية وتعبير أبي تمام ومعاني البحتري وفلسفة المعري, فهو شاعر غربي أندلسي حذا حذو شعراء الشرق، لذا فهو شاعر عبقري متوقّد الذاكرة متفلسف بارع في صياغة الشعر وبلاغة الكلام تجد في شعره المدح والهجاء والرثاء وإنه خاض غمار جل الفنون الشعرية وقصائد المدح عنده شبيهة بمدح المتنبي من حيث بناء القصيدة وقوة العبارة وغلبة روح الشجاعة فيها فقد اختار الألفاظ الصحراوية البدوية في بيئة رياضية جميلة).

التشيّع في شعره

طفح شعر ابن هانئ بمدح أهل البيت (ع) ورثائهم يقول في إحدى قصائده مادحاً أمير المؤمنين (ع):

أبني لؤيًّ أيـنَ فضـــــلُ قديمكم ؟  ***   بل أين حلمٌ كالجبالِ رصـينُ ؟

نازعتـــــــمُ حقَّ الوصيَّ و دونه   ***   حرمٌ وبْرٌ مــــــــانعٌ وحـجونُ

ناضلتمـــــوهُ على الخلافة بالتي   ***   ردَّت وفيكم حدُّهــــا المسنونُ

حرَّفتموها عن أبي السبطينِ عن   ***   زمعٍ وليـسَ من الهجانِ هجينُ

لو تتقونَ اللهَ لــــــــــم يطمحْ لها   ***   طرفٌ ولم يشمخْ لها عـرنيــنُ

لكنكمْ كنتمْ كأهلِ الـــــــــعجلِ لم   ***   يحفظ لمـــــوسى فيهمُ هارونُ

لو تسألونَ القبرَ يوم فرحـــــــتمُ   ***   لأجابَ أن مُــــــحمّداً محزونُ

ما ذا تريدُ من الكتــابِ نواصبٌ   ***   وله ظهورٌ دونـهــــــا وبطونُ

هي بغيةٌ أظللتـموهــــا فارجعوا   ***   في آلِ ياسينٍ ثـوتْ يــــــاسينُ

ردّوا عليهم حــكمهـــــــمْ فعليهمُ   ***   نزل البيــــــــانُ وفيهم التبيينُ

البيتُ بيــــــــــتُ اللهِ وهو معظّمٌ   ***   والنورُ نورُ اللهِ وهــــــو مبينُ

والسترُ سترُ الغيبِ وهوَ مُحجّبٌ   ***   والسرُّ سرُّ اللهِ وهوَ مــــصونُ 

ومن أروع قصائده وأطولها والتي جمع فيها بين الإطالة وغاية الجودة ميميته التي فيها أوضح الدلالات على تشيعه وهي تقع في مائتي بيت يقول منها يذكر الإمام الحسين (ع) وما جرى على أهل بيته:

فلا حملتْ فرسانُ حــــربٍ جيـادَها   ***   إذا لم تزرهمْ مــن كميتٍ وأدهمِ

ولا عذِبَ المــاءُ القــــراحُ لشـاربٍ   ***   وفي الأرضِ مــروانيةٌ غيرُ أيّمِ

ألا أن يومــــــــاً هــــاشـمياً أضلّهم   ***   يطيرُ فراشَ الهامِ عن كلِّ مـجثمِ

كيومِ يزيدٍ والسبــــــــــــــايا طريدةٌ   ***   على كلِّ مــــوَّارِ الملاطِ عـثمثمِ

وقد غصَّــــت البيداءُ بالعيسِ فوقها   ***   كرائمُ أبنــــــــــاءِ النبيِّ الـمكرَّمِ

فمــــا في حريمٍ بعدهـــا من تـحرُّجٍ   ***   ولا هتكُ ستـــــــرٍ بعدها بمحرَّمِ

فإن يتخرَّم خيــــــــرُ سبطي محمّـدٍ   ***   فإن وليَّ الثـــــــــــــأرِ لم يتخرَّمِ

أ لا سائلوا عـــنه البـتـول فتخبــروا   ***    أكـــــــانت له إماً وكان لها ابنمِ

وأولى بيــــومٍ من أميـــــــــــة كلها   ***   وإن جـــــلَّ أمرٌ عن سلامٍ ولرَّمِ

أناسٌ هم الداءُ الدفينُ الــــذي سرى   ***   إلى رمـــمٍ بالــطفِّ منكمْ وأعظمِ

همُ قدحوا تــــلك الزنادَ الــتي ورتْ   ***   ولو لم تشــــــبُّ النارُ لم تتضرمِ

وهم رشــــحوا تيماً لأرثِ نبيِّـــــهم   ***   وما كان تيميٌّ إليــــــــــه بمنتمي

عـــــلى أيِّ حكمِ اللهِ إذ يأفـــــــكونه   ***   أحلَّ لهم تقديــــــــــمَ غير المقدمِ

وفي أيِّ دينِ الوحي والمصطفى له   ***   سقوا آله مــــــمزوجَ صابٍ بعلقمِ

ولكنَّ أمراً كــــــــــــــان أبرمَ بينهم   ***   وإن قالَ قومٌ فــــــــلتة غير مُبرمِ

بأسيـــــــــافِ ذاكَ البـغي أوّل سلّها   ***   أصيبَ عليٌّ لا بسيـــفِ ابنِ ملجمِ

وبالحقدِ حقد الجــــــــــــــــاهلية إنه   ***   إلى الآنَ لـــــم يظعن ولم يتصرَّمِ

وبالثأرِ في بـــــــدرٍ أريقـتْ دماؤكمْ   ***   وقيد إليكم كــــــــــل أجردَ صلدمِ

ويأبى لـــــــكم من أن يطـل نجيعها   ***   فتو غضابٍ من كــــــــميٍّ ومعلمِ

قليل لقاءِ البيضِ إلّا من الـــــــــظبا   ***   قليل شــــرابِ الكأسِ إلا من الدمِ

سبقتمْ إلى المجدِ القـديـــــــــمِ بأسرِهِ   ***   وبؤتم بعــــــادي على الدهرِ أقدمِ

إذا ما بناءٌ شــــــــــــــاده الله وحـده   ***   تهدَّمت الدنــــــــــــــــيا ولم يتهدمِ

بكمْ عــــــــزّ ما بين البقيـعِ ويثـربٍ   ***   ونُسِّــــــكَ ما بين الحطيمِ وزمزمِ

فلا برحتْ تترى عليكم مـن الـورى   ***   صلاةُ مصـــــــــلٍّ أو سلامُ مسلمِ

وتبرز في قصائده حجم المخاطر التي خاضها في سبيل التخلص من بني أمية الذين منعوه من الوصول إلى المعز وحالوا دون ذلك لكنه استطاع الوصول إليه يقول في ذلك:

دعـاني لكــمْ ودٌّ فلبّـت عزائمي   ***   وعنسي وليلي والنجومُ الشوابكُ

ولو علـــــــــقته مـن أمية أحبلٌ   ***   لجبَّ سنامٌ مـن بني الشعرِ تامكُ

ولما التــقت أسيـــافُها ورماحُها   ***   شراعاً وقد سـدّت عليَّ المسالكُ

أجــزتُ عليها عـــابراً وتركتها   ***   كأن المنايا تحــــتَ جنبيْ أرائكُ

وما نقموا إلا قـديــــــــمَ تشيّعي   ***   فنجى هزبـــــــراً شدّه المتداركُ

بني هـاشم قد أنـجز الله وعــــدَه   ***   وأطلع فيـكـم شمسَـه وهي دالكُ

ونادتْ بثاراتِ الحسـيـنِ كـتائبٌ   ***   تمطّى شراعاً في قناها المعارك

ولكربلاء حزن لا ينتهي في صدر ابن هانئ فهو يستذكرها في حروب المعز وفي صليل السيوف وقعقعة الرماح وصهيل الجياد:

وله بآي شـهــــــابِ حـربٍ واقـدٍ   ***   صحبَ ابن ذي يزنٍ وأدركَ تُبَّعا

في كفِّ يحيى منه أبيضُ مرهفٍ   ***   عرفَ الـمعزُّ حقيـــقـة فتشيَّعــــا

وجرى الفرندُ بصفحتيــــهِ كأنمـا   ***   ذكــرَ الـقتـيلَ بكــــربـلاءَ فدمَّـعـا

يكفيكَ ممَّـا شئتَ في الهيـجاءِ أن   ***   تلقـــى العدى فتسـلُّ مـنـه إصبعا

شرفٌ بنتـه لنا البتـولُ وبعـــــلُها   ***   وابناهـــما حــــتى رسا و تـمنَّعـا

واستودعوهُ بعـــــــــدهـم أبناءهمْ   ***   فبنوا علـــيه وشيَّدوا المستــودعا

..........................................................

سمّــــاه جدُّك ذا الفقار وإنما   ***   سمّاهُ مـن عاديتَ عزرائيلا

وكأنْ به لم يبقَ وتراً ضائعاً   ***   في كربلاءَ ولا دماً مطلولا

..........................................................

هو السيفُ سيفُ الصدقِ أمّا غرارُه   ***   فعضـبٌ وأما متنه فصقيلُ

يشيعُ له الإفـــــــــــــرند دمعاً كأنما   ***   تذكّر يومَ الطفِّ فهوَ يسيلُ

..........................................................

فكأنَّ جدَّكَ في فــــــــــوارسِ هاشمٍ   ***   منهم بحيث يرى الحسين ذبيحا

مقتله

قتل ابن هانئ مخنوقا في برقة وتشير أصابع الإتهام في مقتله إلى الأمويين يقول شارح ديوانه الدكتور زاهد علي الهندي: إن بني أمية كانوا من أعدائه وأنهم بذلوا ما في وسعهم واستفرغوا مجهودهم في منعهم إياه عن الوصول إلى المعز فلا يبعد أن يكون بعضهم قد استعمل الحيلة في قتله بإنزاله معه ضيفاً وفتكه به.

ويعزو السيد محسن الأمين سبب قتله إلى تشيعه ويذكر بعض أبياته في ذلك فيقول: إنه ودع المعز ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به فتجهز وتبعه فقتل ببرقة في مسيره إلى المعز يدل على ذلك عنفوان بعض قصائده وهو هكذا في جميع النسخ تصريحه بالتشيع في شعره

محمد طاهر الصفار

 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار