مَنْ هُم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ؟

قَرَنَ الباري عز وجل العمل الصالح بالإيمان، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ)﴿57 النساء﴾، وفي ذلك إشارة إلى أن العمل الصالح لا يقبل بلا إيمان، والإيمان المقصود هنا هو الإيمان الحقيقي الواقعي بشرطه وشروطه، فمن لم يؤمن سيشمله قوله تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)(الفرقان 23).

ولقد اختلفت العبارات الواردة في القرآن الكريم في معنى العمل الصالح، ولكن هل اختلاف العبارات هذا تختلف فيه المعاني؟ نعم تختلف لكن ليس في جوهر المعنى، فبعضها جاءت بعبارة (عملوا الصالحات) وهذه تدل على عمل جميع الأعمال الصالحة لأن الألف واللام هنا للشمول؛ ولأن في قبالها ذكرت العبارة الأخرى في القرآن الكريم (عملوا من الصالحات) أي بعض الأعمال الصالحة لأن (من) تدل على التبعيض، والعبارة الأخرى (عمل صالحاً) فهذه مطلقة تشمل من عمل بعض الأعمال الصالحة أو جميعها.

وأما عن عبارة (عملوا الصالحات) فهي ليست من ناحية التركيب النحوي فقط تدل على فعل جميع الصالحات؛ بل لما يأتي من معنى وآثار لا تصح إلا إذا كانت بمعنى الشمول.

 

(الذين عملوا الصالحات) في القرآن الكريم

الذي يطالع القرآن الكريم يرى جلياً التركيز على عبارة (عملوا الصالحات) وما لها من آثار جمة وعظيمة ودلالات معرفية كبيرة، فمنها:

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)﴿٢٥ البقرة﴾، ففي هذه الآية ليس دخول الجنة فقط؛ بل يعطون جنات، أي يملكون، وأصرح من ذلك قوله تعالى في آية أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)﴿٨٢ البقرة) وهذا وصف عظيم جداً؛ فأصحاب جمع صاحب بمعنى مالك، فهم المالكون للجنة. (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)﴿9 الإسراء﴾، هنا ذكر الأجر ولم يحدده، فيدل على أنه عطاء بلا حدود، كما في آية أخرى: (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)﴿9 المائدة﴾. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)﴿9 المائدة﴾، وهنا لم يقل يغفر لهم؛ بل أطلق وقال لهم مغفرة، فيشمل المغفرة لهم وأن يغفروا لغيرهم. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا)﴿96 مريم﴾، الود أي الحب، أي سيجعل لهم محبة في قلوب المؤمنين. (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ)﴿75 طه﴾، أي أعلى الدرجات التي ليس فوقها درجة. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى)﴿55 النور﴾، أي خلفاء الله في الأرض، وهنا إشارة إلى أنهم هم أصحاب الدين الذي ارتضاه الله عز وجل، والدين الذي ارتضاه الله عز وجل هو الإسلام (إن الدين عند الله الاسلام). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ﴿7 البينة﴾.

فصفات الذين عملوا الصالحات هي (1- أصحاب الجنة 2- أجرهم غير محدود3- لهم أن يغفروا لغيرهم 4- قد جعلت لهم المحبة في قلوب الآخرين 5- هم أصحاب أعلى الدرجات 6- خلفاء الله 7- أصحاب الدين الآلهي 8- هم خير البرية)، فحتماً هذه الصفات لا تكون إلا لمن عمل جميع الصالحات.

 

من هم أصحاب تلك الصفات؟

 

حتماً المؤمن والموالي ذو الإطلاع العلمي البسيط لا يحتاج إلى إجابة عن ذلك السؤال لأن اطلاق هذه الصفات على بعض الأشخاص من أوليات عقيدتنا، هذا بغض النظر عن المؤمنين والموالين الذين لهم إطلاع علمي في هذا المجال، ولكن لزيادة التوضيح والتبرك بذكر تلك الشخصيات العظيمة سنجيب في نبوي شريف جاء في بيان الصفة الأخيرة التي ذكرناها الواردة في القرآن الكريم وهي (أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) روى ابن شهر آشوب عن ابن عباس وأبي برزة وابن شراحيل والباقر (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين عليه السلام مبتدئاً:

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية أنت وشيعتك، وميعادي وميعادكم الحوض إذا حشر الناس جئت أنت وشيعتك غراً محجلين)(مناقب ابن شهرآشوب ج2 ص 266)

 

إيضاح

أن لفظ الشيعة عند أهل البيت عليهم السلام دقيق جداً ومعناه في الروايات الشريفة يختلف عن المعنى الذي يطلق في زماننا هذا، فقد روي عن الإمام العسكري عليه السلام : (لما جعل المأمون إلى علي بن موسى الرضا عليهما السلام ولاية العهد دخل عليه آذنه وقال: إن قوماً بالباب يستأذنون عليك يقولون نحن شيعة علي فقال عليه السلام: أنا مشغول فاصرفهم، فصرفهم فلما كان من اليوم الثاني جاؤوا وقالوا كذلك مثلها فصرفهم إلى أن جاؤوا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين ثم أيسوا من الوصول وقالوا للحاجب:

قل لمولانا إنا شيعة أبيك علي بن أبي طالب عليه السلام وقد شمت بنا أعداؤنا في حجابك لنا، ونحن ننصرف هذه الكرة ونهرب من بلدنا خجلا وأنفة مما لحقنا، وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا بشماتة الأعداء!

فقال علي بن موسى الرضا عليه السلام: ائذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه فسلموا عليه فلم يرد عليهم ولم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياماً فقالوا: يا ابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب؟ أي باقية تبقي منا بعد هذا؟

فقال الرضا عليه السلام: اقرؤا (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) ما اقتديت إلا بربي عز وجل فيكم، وبرسول الله وبأمير المؤمنين ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام، عتبوا عليكم فاقتديت بهم، قالوا لماذا يا ابن رسول الله؟ قال: لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ويحكم إنما شيعته الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان والمقداد وعمار و محمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره، ولم يركبوا شيئا من فنون زواجره..

فأما أنتم إذا قلتم إنكم شيعته، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون مقصرون في كثير من الفرائض، متهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا يجب التقية، وتتركون التقية حيث لابد من التقية، فلو قلتم إنكم موالوه ومحبوه، والموالون لأوليائه، والمعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها إن لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم إلا أن تتدارككم رحمه من ربكم.

قالوا: يا ابن رسول الله فانا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا، بل نقول كما عملنا مولانا: نحن محبوكم ومحبوا أوليائكم ومعادوا أعدائكم، قال الرضا عليه السلام:

فمرحبا بكم يا إخواني وأهل ودي ارتفعوا ارتفعوا ارتفعوا فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه، ثم قال لحاجبه: كم مرة حجبتهم؟ قال: ستين مرة فقال لحاجبه: فاختلف إليهم ستين مرة متوالية، فسلم عليهم وأقرئهم سلامي فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم، واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا وموالاتهم، وتفقد أمورهم وأمور عيالاتهم فأوسعهم بنفقات ومبرات وصلات، ورفع معرات)(بحار الأنوار ج65  ص 157).

 

ويتلخص مما تقدم:

 ان العمل الصالح مقرون بالإيمان.  ان عبارة (عملوا الصالحات) في القرآن الكريم تدل على شمول جميع الصالحات من ثلاث جهات، الألف واللام، ومقابلة التبعيض في الآيات الأخرى، والآثار التي ذكرتها الآيات الكريمة.  ان الاثار والصفات التي ذكرت للذين عملوا الصالحات عظيمة جداً لا تنطبق إلا على من أختارهم الله لها.  ان اهل البيت عليهم السلام ومن أصبح منهم هم الذين عملوا الصالحات.  ان لفظ الشيعة في الروايات الشريفة دقيق جداً ومقام عالي لا يناله إلا من كان مثل ما ذكر في رواية الإمام العسكري عن الإمام الرضا عليهما السلام.

 

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

المرفقات