تأمُلٌ في دعاء اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ ارْزُقْني فيهِ طاعةَ الخاشعينَ، وَ اشْرَحْ فيهِ صَدري بِانابَةِ المُخْبِتينَ، بِأمانِكَ ياأمانَ الخائفينَ)

 

الطاعة المطلقة

الطاعة هي الإنقياد إلى الأوامر، ويظن البعض أن الطاعة في المفاهيم الشرعية تعني العبادة، وهذا تصور خاطئ؛ نعم امتثال العبادة هو من أفضل مصاديق الإنقياد للأوامر الآلهية، ولكن مفهوم الطاعة أشمل وأوسع، والطاعة يقابلها المعصية أي مخالفة الأوامر، قال تعالى : (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة – ٢٨5]، أي سمعوا وامتثلوا الأوامر، ويقابله قوله تعالى : (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة - 93]، أي سمعوا وخالفوا الأوامر، هذا من حيث أصل الطاعة، ونقصد بالطاعة هنا هي الطاعة المطلقة، لا الطاعة المقيدة كطاعة الأبوين أو الزوج، أما من حيث متعلق الطاعة المطلقة فلقد حددتها الآيات الشريفة وحصرتها بثلاث، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[ النساء – 59]، فالطاعة حصراً بالله والرسول وأولي الأمر، أما في معنى أولي الأمر فالولاية المطلقة توضحها آية أخرى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة – 55]، وإجماع المسلمين على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام في قضية التصدق بالخاتم أثناء الركوع في صلاته، كما روي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلاَءِ، قَالَ: ذَكَرْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَوْلَنَا فِي الْأَوْصِيَاءِ –أي الأئمة عليهم السلام- : إِنَّ طَاعَتَهُمْ مَفْرُوضَةٌ؟ قَالَ: فَقَال عليه السلام : (نَعَمْ، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا)[ الكافي ج ١ ص ١٨٧]، فالطاعة المطلقة هي لله والرسول والأئمة عليهم السلام حصراً.

 

هل طاعة الرسول والأئمة عليهم السلام هي في قبال طاعة الله عز وجل؟

حاشا والعياذ بالله، فمن قال بذلك فقد كفر؛ بل أن طاعتهم عليهم السلام هي في خط طاعة الله إي إمتداد لطاعة الله وليست في قبالها، والشاهد على ذلك الآيات التي أمرت بالطاعة قرنت طاعة الله بالرسول صلى الله عليه وآله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، وأصرح من ذلك الآية الكريمة : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء -80]، فطاعة الرسول هي طاعة الله وكذلك طاعة الأئمة.

 

نتائج الطاعة

ذكرت الآيات الشريفة نتائجاً للطاعة المطلقة لله وروسوله والأئمة عليهم السلام:

الرحمة : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران – ١٣٢]. الجنة : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[النساء – ١٣]. النعمة : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[النساء – ٦٩]. لا نقصان في ثواب الأعمال : (وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[ الحجرات – 14]. الأجر الحسن : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا)[الفتح – 16]. الفوز العظيم : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب – 71]. الهداية : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور – 54].

 

الخشوع

والخشوع هو الخضوع والاستكانة، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام (لا خير في قلب لا يخشع)[غرر الحكم ج1 ص793]، فالطاعة ما لم تقترن بالخضوع لا يحصل على ثمارها، واطلاق المعنى في هذا الدعاء جميل جداً، أي أن الخضوع  كذلك يكون بالتعامل مع النبي وأهل بيته عليهم السلام وطاعة أوامرهم، بخلاف ما يصور البعض أن الخضوع يعني العبودية، فلو كان كذلك لكان خضوع الولد إلى أبويه عبادة، وخضوع الزوجة إلى زوجها، وكذلك الجنود إلى آمرهم.

 

 

 (اشْرَحْ فيهِ صَدري بِانابَةِ المُخْبِتينَ)

اشرح صدري أي أفرحني وأسعدني، والإنابة أي الرجوع ولزوم الطاعة، والمخبتين جمع إخبات وهو نوع من الخشوع لكن يتضمن التواضع والإطمئنان، فمعنى الدعاء اللهم أسعدني بالرجوع ولزوم طاعة المخبتين، لكن من هم المخبتين؟ روي عن الإمام الكاظم عليه السلام (سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا خَاصَّةً) البرهان في تفسير القرآن ج3 ص884]، أي أنهم عليهم السلام المصداق الأكمل لمعنى المخبتين، أما عدم شمول غيرهم بهذا المعنى في هذا الدعاء لأنه كما ذكرنا أن الطاعة المطلقة هي حصراً لله ورسوله وأهل البيت، فيكون معنى الدعاء بعد معرفة مَن هم المخبتين : اللهم أسعدني بلزوم طاعة النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، فيظهر أن المعنى المراد بالمقطع الأول ليس الطاعة المقترنة بالخشوع، بل الطاعة للخاشعين الذين هم النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم، لما تقدم من معنى في هذا المقطع.

 

 

إشارة

بقي هنا الإشارة إلى أمر مهم يتضمنه معنى الاخبات هنا الذي هو الخشوع مع التواضع والاطمئنان، وهو يشير إلى معنى التسليم المطلق إلى الله والنبي واهل بيته؛ لأن من معنى التسليم هو تقبل الأمر والطاعة وترك الاعتراض بكل خضوع وتواضع واطمئنان قلبي مع قطع العلاقة بالأمور المتعلقة به، والتسليم رتبة عالية جداً من مراتب القرب الآلهي، وهي أعلى رتبة من التوكل؛ لأن التوكل مبني على الاعتماد على الله عز وجل في جميع الأمور مع تعلقه بها. فتأمل.

 

(بِأمانِكَ يا أمانَ الخائفينَ)

 

 

فالخلاصة:

أن الطاعة هي الانقياد للأوامر، والطاعة المطلقة هي حصراً لله ورسوله والأئمة. أن طاعة النبي وأهل بيته هي في طول طاعة الله لا في عرضها، أي امتداد لها لا في قبالها. أن التعامل مع النبي واهل بيته يلزم أن يقترن بالخضوع لأوامرهم. أن المؤمن يطلب طاعة أهل البيت، بل أكثر من ذلك أن يسعده الله بلزوم طاعتهم صلوات الله عليهم أجمعين.

 

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

المرفقات