(اَللّـهُمَّ طَهِّرْني فيهِ مِنَ الدَّنَسِ وَالاْقْذارِ، وَصَبِّرْني فيهِ عَلى كائِناتِ الاْقْدارِ، وَوَفِّقْني فيهِ لِلتُّقى وَصُحْبَةِ الاْبْرارِ، بِعَوْنِكَ يا قُرَّةَ عَيْنِ الْمَساكينَ)
الطهارة
لغتاً تعني النظافة والنقاوة، وفي الاصطلاح الفقهي تعني باب من أبواب قسم العبادات الذي يشمل بعض الأفعال العباديةظن منها الوضوء والغسل والتيمم والتطهر من النجاسات، وبعبارة أخرى التطهر من الحدث والخبث، والحدث هو ما ينقض الوضوء أو يوجب الغسل، والخبث هو النجاسات المذكورة في الفقه، قال تعالى : (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر- ٤]، أي طهرها من النجاسات، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)[الفرقان – ٤٨]، ، أي طاهر ومطهر يستمعل في الطهارة من الحدث والخبث، أما الطهارة في العقائد فهي تعد من خصائص العصمة، قال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب -٣٣]، وأما في الأخلاق فهي تشمل طهارة البدن ومتعلقاته وطهارة الروح، قال أمير المؤمنين عليه السلام : (قلوب العباد الطّاهرة مواضع نظر اللّه سبحانه وتعالى فمن طهّر قلبه نظر اللّه اليه)[غرر الحكم ج1 ص501].
الدنس والأقذار
والدنس لغتاً الوسخ ، يقال : دَنَّسَ ثوبَه : وسّخه. ويقال : دَنَّسَ عِرضَه وخُلُقَه : فعل به ما يَشينه، وأيضاً القذارة تعني الوساخة، ولكن إن أطلقت على شخص فيقال رجُلٌ قذر : أي تنفر منه الناس لوساخته أو لا يُخالِطُ الناسَ لِسُوءِ خُلُقِه، فيكون معنى الدنس هو الوسخ أو سوء الخلق، والقذارة هي الوسخ الذي ينفر منه الآخرون أو سوء الخلق الذي ينفر منه الآخرون؛ وفرقنا بين المعنين لأن الكلمتين قد جائتا سوية، وهما كالمسكين والفقير إذا افترقا اجتمعا واذا اجتمعا افترقا.
فيتضح مما تقدم أن معنى الطهارة يحدده الشيء المراد التطهر منه، وقد تبين أن الذي يريد المؤمن أن يتطهر منه هما الدنس والأقذار، ومعناهما الوسخ العيني والوسخ الخلقي، والوسخ العيني المنفر والوسخ الخلقي المنفر، أي طهارة باطنية وظاهرية، عينية وروحية.
فستدخل الطهارة هنا بالمعنى اللغوي، والمعنى الأخلاقي، وبعضٌ من المعنى الفقهي.
والطهارة من المستحبات المؤكدة في الشريعة الإسلامية حتى جعلت أساساً لها وإبتنت عليه في أحكامها ومبادئها، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[ البقرة -222]، أي الذين يطهرون أنفسهم؛ ولكن أكثر التأكيد جاء في الطهارة الباطنية الروحية، لما لها من أثر بالغ على روح النسان ودينه وخلقه.
بعض آثار الطهارة الروحية
قد ذكرت بعض الآيات والروايات الشريفة آثار الطهارة الروحية، نورد أهمها:
حبُ الله للمتطهر : قال تعالى (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة – ١٠٨]. الحصول على الدرجات الرفيعة، قال أمير المؤمنين عليه السلام : (طهّروا أنفسكم من دنس الشّهوات تدركوا رفيع الدّرجات)[غرر الحكم ج1 ص436]. مضاعفة الأجر، قال أمير المؤمنين عليه السلام : (طهّروا أنفسكم من دنس الشّهوات تضاعف لكم الحسنات)[غرر الحكم ج1 ص436]. نيل حلاوة الإيمان، قال أمير المؤمنين عليه السلام : (صابروا أنفسكم على فعل الطّاعات و صونوها عن دنس السّيّئات تجدوا حلاوة الايمان)[غرر الحكم ج1 ص424].وآثار الدنس والقذارة الروحية بعكسها، فيكون غير مشمول بحب الله، ولا ينال رفيع الدرجات، ولا يضاعف له في الأجر، ويسلب حلاوة الإيمان.
(وَصَبِّرْني فيهِ عَلى كائِناتِ الاْقْدارِ)
فضل الصبر
الصبر هو من أفضل الكمالات النفسية والروحية، وله ما له من الفضل، فمن منا لا يريد أن يكون مع الله!! قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة – 153] ، والبشارة من الله : قال تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة – 155]، وأجرٌ بلا حساب : قال تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر – 10]، جنة وحرير : قال تعالى : (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الانسان – 12]، أحسن الأجر : قال تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل – 96]، الفوز عند الله، قال تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)[المؤمنون – 111]، هذه كلها نتائج الصبر.
الصبر على كائنات الأقدار
لأن الإنسان المؤمن لا يعلم ما يخبئ له القدر والدهر، فيطلب من الله عز وجل أن يصبره على ما سوف يكون من أقدار مكتوبة عليه، لينال أجر الصابرين، قال أمير المؤمنين عليه السلام : (من صبر فنفسه وقّر، و بالثّواب ظفر، و للّه سبحانه أطاع)[غرر الحكم ج1 ص 648].
(وَوَفِّقْني فيهِ لِلتُّقى وَصُحْبَةِ الاْبْرارِ)
إن التقى هو امتثال اوامر الله والتورع عن محارمه، وواضح معنى التقى وهو الذي يوصل العبد ويقربه من الدرجات الرفيعة، ولكن ما المقصود بصحبة الأبرار ومَن هم؟ رواية الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه تجيب عن ذلك، قال عليه السلام : (كل ما في كتاب الله عزوجل : إن الأبرار فوالله ما أراد به إلا على بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين، لأنا نحن أبرار بآبائنا وأمهاتنا، وقلوبنا علت بالطاعات والبر وتبرأت من الدنيا وحبها وأطعنا الله في جميع فرائضه، وآمنا بوحدانيته وصدقنا برسوله)[البحار ج24 ص3].
فالأبرار هم النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم، ولكن كيف يطلب المؤمن صحبتهم؟ وهم قد رحلوا عن دار الدنيا سوى بقية الله الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو غائب مستور عنا، فالجواب في قوله تعالى : (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)[آل عمران - 193]، فصحبتهم في الآخرة، ولكن لماذا يتوفون مع الأبرار؟ قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)[المطففين - 18 - 28]، وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قال: قوله عز وجل: (ومزاجه من تسنيم) قال: (هو أشرف شراب في الجنة يشربه محمد وآل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله وعلي بن أبي طالب والأئمة وفاطمة وخديجة صلوات الله عليهم وذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان، يتسنم عليهم من أعالي دورهم) [البحار ج24 ص3].
إستفهام
لماذا طلب الطهارة وبعدها طلب الصبر ومن ثم التقوى وصحبة أهل البيت عليهم السلام؟
الجواب: يظهر أن المقاطع مترابطة، أي أن بعضها متوقف على بعض بحسب الترتيب، فالطهارة الروحية تعتمد على الصبر، والصبر يعتمد على التقوى، والتقوى نتيجتها صحبة أهل البيت عليهم السلام.
(بِعَوْنِكَ يا قُرَّةَ عَيْنِ الْمَساكينَ) تأمل جمال المعنى.
فالخلاصة:
أن الطهارة لها معاني مختلفة، في اللغة والاصطلاح الفقهي والعقائدي والاخلاقي. أن الأوساخ والملوثات على أقسام، باطنية وظاهرية، ومعنوية ومادية. أن أشد الاوساخ هي الروحية، وأشد منها هي التي تنفر الآخرين. أن من أفضل الكمالات الروحية هو الصبر. أن الأبرار هم أهل البيت عليهم السلام. أن صحبة أهل البيت عليهم السلام تتحقق بالتقوى، وهي تعتمد على الصبر، والأخير يعتمد على طهارة الروح.
إبراهيم السنجري
مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي
اترك تعليق