سيد البطحاء ومؤمن قريش... أبو طالب عم النبي الاكرم وكافله

يرجّح مجموعة من المؤرخين ان في العام العاشر من مبعث النبي "صلى الله عليه واله" وفي شهر رمضان المبارك من ذلك العام، شعر أبو طالب بدنو أجله بعد أن تخطى الثمانين من عمره الشريف، وأخذ المرض يفتك به، الا ان ذلك المرض لم يشغله عن النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله"، وبات يفكر فيه، لا بأوجاعه، وأيقن أن زعماء الكفر من قريش سوف تستبيح النبي الاكرم محمد بعد وفاته.

فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دعا بني عبد المطلب وبعض من قريش فقال لهم: "لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم أمره، فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم"[1]. يبدو ان طغيان بعض منهم يمنعهم من ان يسمعوا قوله، ولم يقبلوا نصيحته.

وللأسف ان الأخبار التي ذكرها المؤرخون عن مناصرة ابي طالب "عليه السلام"، والمدة التي قضاها مع النبي الاكرم "صلى الله عليه وآله" في الشعب قليلة للغاية مع أهميتها. يمكن القول ان من ابرز المواقف لابي طالب ومناصرته للنبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله"، كما وردت في أمهات كتب التاريخ، ان أبو طالب افتقد محمداً فلم يجده فاستولى عليه الخوف مما قد سيحدث لابن أخيه فسارع إلى جمع الشباب من بني هاشم، وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارعة، واتبعوني فإذا دخلت المسجد فليجلس كل واحد منكم إلى جانب عظيم من عظمائهم وليقتله، إذا كان محمد قد قتل ففعلوا ما أمرهم به وقبل أن يبدأ بتنفيذ الخطة جاءه زيد بن حارثة فأخبره عن سلامة النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه وآله" وفي الصباح جاء أبو طالب ومعه النبي "صلى الله عليه وآله" فأخذ بيده ووقف قبال زعماء قريش وهم في أنديتهم وحوله فتيان بني هاشم فأخبرهم بما كان يريد أن يفعله لو انهم أصابوا محمد "صلى الله عليه وآله" بسوء وأراهم السلاح الذي أعده لهذه الغاية فانكسر القوم وكان أكثرهم انكساراً أبو جهل[2].  يبدو من ذلك، ان موقف ابو طالب إلى جانب النبي الاكرم "صلى الله عليه وآله" أفشل مخططات قريش للنيل منه، وان موقفه كان له حظوة ومكانة عند القبائل.

واشتد المرض بأبي طالب "عليه السلام"، وبينما النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" كان مشغولا بالدعاء والتسبيح ، وإذا بالناعي قد أقبل إليه يخبره بوفاته، فمضى مسرعاً إلى بيت عمه، فمسح جبينه ثم قال "صلى الله عليه واله": " وصلتك رحم ، وجزيت خيراً يا عم، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني وعن الإسلام خير جزاء العاملين المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم وكلّ ما يملكون"[3]، ثمّ أقبل على الناس وقال "صلى الله عليه واله" : " أما والله لأستغفرن لك، ولأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان [4]".

وكان أبا طالب للنبي الاكرم أباً وعضداً وناصراً حين احتاج إلى الناصر والمعين، ودفع ابو طالب عنه كيد قريش وجميع محاولاتها التي كانت تعدّها لكي تبلغ منه ، ان الرسالة السماوية التي ناصرها أبو طالب بجميع ما يملك، واستطاعت بواسطته أن تتسلق أسوار مكة وهضابها لتشيع وتنتشر بين قبائل شبه الجزيرة العربية.

في تلك اللحظات العصيبة استعاد النبي الاكرم ذاكرته من جميع المواقف التي وقفها أبو طالب منذ كان صبياً، وهو يقدمه على جميع أولاده في صباه، ويوم تعلق بزمام ناقته، وقد أراد أن يذهب في تجارة له إلى بلاد الشام، وهو يقول له يا عم: "إلى من تكلني ولا أب لي ولا أمّ ألجأ إليهما؟ وهو يقول له، والدموع تتقاطر من عينيه: والله لا أكلك إلى غيري". ثم مدّ يده وجذبه إلى صدره يشمه، وأقسم أنه لا يفارقه أبداً.

وفقد النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" عمه الذي رباه ونصره وضرب المثل الأعلى في التضحية والنصرة والرعاية خلال أربعين عاماً ، ولكن النبي الاكرم بالرغم من وطأة تلك النكبة وأثرها العميق في نفسه، مضى في طريقه وتابع سيرته، وجدّت قريش في ايذائه والتنكيل بأصحابه، وكان من أيسر أنواع الأذى الذي أنزلته به بعد أن فقد عمه، أن مر عليه أحد سفهاء قريش، كما جاء في رواية الطبري، فاغترف بكلتا يديه من التراب والأوساخ، وألقاها على وجهه ورأسه، فدخل بيته والتراب قد لطخ وجهه ورأسه، فقامت إليه ابنته فاطمة "عليها السلام"  تغسل التراب عن رأسه وتبكي، وهي حديثة عهد بتلك الفاجعة الأليمة التي تجرع أبوها مرارتها.

وهناك حقيقة تاريخية الا وهي، أن التاريخ ما ظلم احداً كما ظلم أبا طالب "عليه السلام"، وما أساء المسلمون إساءة أفحش وأعظم من إساءتهم إلى النبي الاكرم محمد في عمه أبي طالب "عليه السلام".

ومن أجل أن نوفي أبا طالب "عليه السلام" بعض حقه ، نذكر بعض ما يدل على إيمانه من الروايات التي رويت عن ائمة اهل البيت "عليهم السلام" منها على سبيل المثال لا الحصر:

جاء عن أبان بن محمود أنه قال للإمام علي بن موسى الرضا "عليه السلام" جعلت فداك، إني قد شككت في إسلام أبي طالب، فكتب إليه: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ  وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾[5] ثم قال: "إنَّك إن لم تقر بإيمان أبي طالب، كان مصيرك إلى النار"[6].

وجاء عن الإمام محمد بن عليّ الباقر أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: "لو وضع ايمان ابي طالب في كفة، وايمان هذا الخلق في الكفة الأخرى، لرجح ايمانه"[7].

وجاء عن أبي بكر أنه جاء بأبيه أبي قحافة إلى النبي عام الفتح يقوده وهو شيخ أعمى، وكان قد بقي على شركه لذلك التاريخ، فقال النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله": "أما تركت هذا في مكانه حتى تأتيه؟ فقال له أبو بكر: "أردت يا رسول الله أن يأجره الله. والذي بعثك بالحقّ، لأنا كنت أشدّ فرحاً باسلام عمك ابي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرّة عينك"[8].

تستنتج من ذلك ان الأقلام المأجورة لم ترحم ابو طالب "عليه السلام" حيث نزل أقسى ما في سواد لجتها من الحقد الدفين القديم على ابو طالب، فلم يكن أبو طالب في هذه المسألة إلا وسيلة تبرّر لهم الحط من منزلة الامام علي بن أبي طالب "عليه السلام" والانتقاص منه مستغلّين لذلك الظروف السياسية التي اكتنفت حياة أبي طالب عندما عجزوا أن يجدوا ما يرومون إليه في شخصية علي بن أبي طالب .

جعفر رمضان

 

[1] هاشم معروف الحسني، سيرة المصطفى "نظره جديده" (بيروت: دار المطبوعات) ، ص 201؛ محمد بن سعد بن منيع الزهري، الطبقات الكبرى، تحقيق: علي محمد عمر،(مكتبة الخانجي، 2001) ، ج1، ص78 .

[2] هاشم معروف الحسني، المصدر السابق، ص

[3] عبد الله بن محمد بن إبراهيم أبي شيبة العبسي أبو بكر ، مصنف ابن أبي شيبة ، تحقيق: أسامة بن إبراهيم بن محمد أبو محمد،( بيروت: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر،2008)،ج 8،ص328

[4] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية)، ج35 ص125- 163

[5] سورة النساء، الآية 115

[6] عبد الحسين أحمد الأميني النجفي ، الغدير ،( مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي ، 2009)، ج ٧ ص ٣٨١ - ٣٩٤ 

[7]

[8]   محمد بن سعد بن منيع الزهري ، المصدر السابق، ج5،ص 334 

المرفقات