لماذا الصوم؟ وما هي الغاية من الصيام؟

الحدود الشرعيَّة الفقهيَّة للصَّوم أو الصِّيَام في الإسلام هي أن يمتنع الإنسان عن الأكل والشرب وبعض الأفعال الأخرى طيلة يوم كامل، يُبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بانتهاء النَّهار، وقد شُرِّع الصَّوم في الإسلام ليكون أحد مصاديق العبادة التي تُقوَّم وتربط تلك العلاقة القائمة بين العبد ونفسه، بحيث كانت من العبادات التي لها انعكاسات إيجابيَّة على حركة الإنسان الفرديَّة والإجتماعيَّة كما سنوضِّحه في السطور القادمة.

وبالتالي كان هناك شهر رمضان الذي أوجب المولى تعالى صيامه على كلِّ مسلم توفَّرت فيه الشروط اللاَّزمة للصَّوم، وكذلك لم يقتصر المولى تعالى في منظومته التشريعيَّة على جعل الصَّوم مجرّد عبادة يَتَقَرَّب من خلالها العبد إلى ربِّه، بل ولخصوصيَّة فيه جعلها المولى تعالى أحد الأحكام الجزائيَّة العقابيَّة التي تتعلَّق بالفرد بعد ارتكابه ما يوجب العقاب، وكذلك جعله جَزَاءً للأخطاء المتعلّقة بالمسائل العباديَّة، كما هو الحال في عبادة الحجّ، وجعله جَزَاءً في الأخطاء الجنائيَّة، كما الحال في القتل الغير العمد.

ونحن هنا سنحاول بيان أبعاد الصَّوم، التي لأجلها كانت عبادة لها علاقة بحركة الإنسان الفرديَّة والجماعيَّة، وكذلك بسببها خرجت من كونها عبادة محضة، لتكون أيضًا حكمًا جزائيًا عقابيًا في المسائل العباديَّة والجنائيَّة على حدٍّ سواء، ومُنطلقنا في فهم ذلك كلُّه يعود للنَّص القرآني الذي يمثِّل الإعلان الصريح في تشريع الصِّيام كعبادة دوريَّة، وهو قوله تعالى ((يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))(البقرة ـ 183)

فبعد أن ينادي المولى تعالى الذين آمنوا برسالته، يخبرهم أنّ الصِّيام قد تمّ إقراره في حقِّهم ودُوِّن هذا الإقرار أيضًا، كما قُرِّرَ ودُوِّن على الأمم التي سبقتهم، وكذلك يكشف لنا في آخر الآية حقيقة في غاية الأهميَّة لحياة المؤمنين برسالة الإسلام، ألاَ وهي أنَّ إقرار وتدوين الصِّيام ليكون عبادة دوريَّة أو أداة جزائية للمؤمنين، يرجع لغاية وهدف تحقيق قيمة «التَّقوى» في نفوسهم وحركتهم.

ولكي نتمكن من الوصول لفهم الدَّور المهم للصِّيام  في تحقيق قيمة التَّقوى، لا بد لنا من العودة لفهم طبيعة التركيبة التي وُجِد عليها الإنسان في عالم الدُّنيا، فالإنسان وكما هو مُسَلَّم به عند السواد الأعظم من بني الإنسان يتشكَّل من جانب مادي، وآخر معنوي، وعند التأمّل في الجانبين سنلحظ أنّ هناك علاقة تفاعليَّة تحصل بينهما، فكما أنَّ تأثُّر الجانب المادي يؤدِّي بالتَبَع إلى تأثُّر الجانب المعنوي، كذلك وقوع الجانب المعنوي في التأثُّر يؤدي إلى تأثُّر الجانب المادِّي.

ورغم أنّ الجانبين يؤثِّران في بعضهما البعض، إلاَّ أنّ نسبة ونوع تأثير كل منهما في الآخر مختلفة، وممّا يكشفه لنا مع التأمُّل الدقيق أنّ لكل منهما موقع خاص به، يُحدَّد هذا الموقع من خلال دوره في صناعة حركة الإنسان التي هي روح وجوهر ما نسميَّه بـ «الحياة»، فمن خلال اللِّحاظ الأخير يمكن لنا أن ندَّعي واثقين بكون الجانب المعنوي الداخلي للإنسان، هو من يقود ويوجّه حركة الكيان البشري، وكما أنَّه يمثِّل حقيقة وجوهر العنصر البشري، لوضوح أنَّ كلّ جزء مادِّي في الفرد البشري له القابليَّة للتهالك دون أن يتغيّر جوهر الإنسان وحقيقته.

وعليه، فلو أتينا لأجل التّأمُّل في الجانب المعنوي للإنسان، سوف نجد مكوِّنين أساسيين لهما سلطة التَّقرير والتَّوجيه لحركة الفرد، وهما: «العقل» و«النَّفس»، أمَّا الأول فهو يقرّر ويحكم ويوجّه ضمن دائرة ما لديه من قيم ومبادئ سواء تلك التي هي مرتكزة في داخل الإنسان منذ نشأته، أو تلك التي اكتسبها الإنسان من خارجه، أمَّا النَّفس البشريَّة فهي تقرّر وتوجه حركة الإنسان على وفق ما تقتضيه مجموع تلك الغرائز والأهواء التي في داخل الإنسان.

وبين مقرِّرات وتوجيهات العقل والنَّفس المتعارضة والمتضاربة، ترتسم وتُحدَّد ما نسميّه الحياة الإنسانيَّة، وبهذا التعارض والتضارب يتحقَّق ما يطلق عليه بالصراع الداخلي للإنسان، والذي سيؤدي عند احْتِدَامِهِ إلى ثلاث حالات:

الحالة الأولى: هي تغلب العقل على النّفس، بحيث يكون هو الجهة الأساسيّة في إدارة وتوجيه حركة الإنسان والنَّفس معًا، فتصير النَّفس بذلك منصاعة لِمُقَرَّرات العقل وتوجيهاته، وهذا هو النموذج الإنساني المثالي، والذي عملت وتعمل النُّظم الإسلاميَّة على تحقيقه في الإنسان.

الحالة الثانية: هي تغلب النَّفس على العقل، بحيث تكون النَّفس البشرية ومن خلال أهوائها هي الموجَّه الرئيسي لحركة الإنسان، وعند ذلك يصير العقل مجرد أداة خاضعة تحت سلطة النَّفس لتستعمله في تبرير كل أفعالها وخاصة السلبيَّة منها، وهذا هو النموذج الحيواني من الإنسان، الذي لا  منفعة ولا خير يُرجَى منه، وهو مصداق قوله تعالى((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ))(الجاثية ـ 23)، فمن شدَّة خضوعه واتباعه لأهواء نفسه صيَّر هواه وجعله في موقع الإله المُرشد

الحالة الثالثة: أن يبقى الصراع قائما ولا يتغلب أيّ طرف على آخر، وعند احتدام الصراع ليصل لمستويات كبيرة يقع صاحبهما في تلك الحلات المرضيَّة التي يعبّر عنها في علم النَّفس بـ «الأمراض النّفسيَّة»، ويعبر عنها في العرف الشعبي بـ «الجنون» وغیرها من التسمیات.

ولأجل أن يُجَنِّب المولى تعالى عباده عن الحالة المرضيَّة الثالثة وكذلك الحالة الحيوانيَّة الثانيَّة، ولأجل أن يدفع أكبر قدر ممكن من بني الإنسان نحو الحالة الإنسانيَّة الأولى، جاء لنا بتلك المنظومة التشريعيَّة الشاملة لكل نواحي الحياة البشريَّة، ومنها الصوم الذي هو من أهم وأبرز الأدوات العباديَّة التي من خلالها نتمكن من السيطرة على النّفس البشريَّة وكبح أهوائها، وبالتالي توجيهها على وفق ما يحكم به العقل البشري السليم.

فنحن ولكي نتمكن من ترجيح سيطرة العقل على النَّفس، وبالتالي تمكين العقل البشري من قيادة حركة الإنسان، لا بد لنا من اخضاع النَّفس وأهوائها لسلطة العقل وقراراته، وهذا الأمر ليس بذاك العمل الهين السَّهل كما قد يتوهمه الكثير، وخاصة لدى ضعيفي الإرادة ممَّن قضُّوا سنين طويلة من عمرهم خاضعين ومتَّبعين لنفوسهم وأهوائها، فهذا الصَّنف الذي يمثِّل القسم الأكبر من بني الإنسان، هو من سيواجه صعوبة كبيرة في إخضاع أهواء نفسه لتلك القيم والمبادئ التي يرتكز عليها العقل في تقرير السلوك المناسب، وذلك لأجل تلك القوَّة التي تتمتَّع بها نفسه التي بين جنبين، والتي اكتسبتها وتحصَّلت عليها من عنصر نسميَّه اللَّذة.

فاللَّذة التي تتحصَّل عليها النَّفس من «الطَّعام والشرب، النَّوم، اللَّهو، الرَّاحة، ... والنَّشوة التي تَتَأَتَى هي الأخرى من امتلاك الأشياء، التفاخر، الإعتزاز، ....... الخ»، هي التي تمدُّ النَّفس بالطَّاقة والقوَّة الكافية للحفاظ على وجودها وحضورها ونشاطها، وإذا زادت عن حدِّها المطلوب سوف يدفع  ذاك الفائض النَّفْسَ نحو الطغيان والفجور، خاصة إذا كانت تلك الإرادة البشريَّة الخاضعة بالأساس للعقل ضعيفة.

وعليه، فالمولى تعالى الذي أوجَد فينا النَّفس ليمتحننا ويبتلينا من خلالها، وكذلك أرشدنا للزُوم ضبطها وتزكيَّتها من خلال قوله تعالى ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10))(الشمس: 7-10)، يعلم بجزئيَّة أنّه من الأخطاء الكُبرى أن نواجه النّفس وهي في حالة قوَّة وسيطرة كاملة، وذلك لعلمه المُسبق بأنَّ المواجهة لن ينتج عنها حين ذلك إلاَّ الوقوع في الأمراض والمشاكل النَّفسيَّة، والوقوع في هذه المشاكل والأمراض سيدفع بالإنسان  في أقلِّ تقديرٍ نحو معايشة الحالة الثانيَّة الحيوانيَّة، وفي أسوئها سيدفعه نحو الحالة الثالثة المرضيَّة، والنتيجتان ستؤديان لبطلان الغاية التي لأجلها أرسل الله الرُّسل بالرسائل، وهي غاية السَّير نحو اكتساب الكمالات البشريَّة.

ولأجل أن نتجنَّب تلك السلبيات السَّابقة، مدَّنا المولى تعالى وشرَّع لنا ضمن منظومته التشريعيَّة تلك، الطَّريقة والعبادة التي ستساعدنا بشكل غير مباشر على إضعاف النَّفس في داخلنا، وبالتالي تسهل السيطرة عليها ثمَّ ضبطها وتزكيتها، لتتم في الأخير عمليَّة إخضاعها لسلطة العقل وما تقتضيه القيم والمبادئ الإنسانيَّة والدينيَّة، وكذلك ستساعدنا هذه الطَّريقة والعبادة ـ بلحاظ كونها عبادة يُتَقَرَّب بها إلى من بيده مصائر النَّاس في الدنيا والآخرة ـ على تحقيق حالة الرضا الداخلي من تأديَّة التكليف المتعلَّق بالذِّمَّة، وهذا الرضا الداخلي هو الذي سيمدُّ ويعطي الإرادة تلك القوّة اللاَّزمة لإخضاع النَّفس تحت سلطة العقل.

وهذه الطَّريقة والعبادة هي ما نصطلح عليه بـ «الصَّوم»، فالصِّيام الذي قرَّبناه سابقًا، يُمثِّل بعبارة أخرى سدٌّ وإغلاقٌ لأهم وأبرز المنافذ التي عادّةً ما تستعملها النَّفس للوصول إلى عُنصر «اللَّذة»، الذي هو الآخر يمدُّ النَّفس بالطاقة اللاَّزمة لصناعة القوَّة التي ستطغى بها على الإرادة، وبالتالي ومع سيطرة الإنسان على المنافذ التي تقدّم للنَّفس العُنصر المعطي للقوَّة، سوف تضعف حركة النَّفس في داخل صاحبها، ومع المداومة على الصِّيام ستصل حركة النَّفس من الضُّعف الذي يُمكِّن الفرد من السيطرة عليها، ثم ضطبها وتوجيهها للخضوع إلى مجموع تلك المبادئ والقيم الإنسانيَّة والدينيَّة، التي مع الديمومة على الالتزام بها سوف تتحقَّق لنا معايشة حالة التقوى الواردة في آخر الآية السابقة، لذلك كان مضمون الآية السابقة، أنَّ تقرير وتدوين الصيام كفريضة للمؤمنين برسالة النَّبيّ محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعود إلى دفعِكُم نحو معايشة حالة التقوى، التي هي من أهم وأبرز الحالات المُؤَهِلَة للفرد لاكتساب كمالاته الإنسانيَّة.

ولعل السبب في جعل الصِّيام حكمًا جَزائيا حين ارتكاب ما يوجب التكفير أو العقاب، لأجل قدرته على علاج المناشئ الأساسيَّة لوقوع الفرد في تلك الخطايا والجُنح السلبيَّة، فكما يُقرِّر لنا المولى تعالى ويوضح أنَّ النَّفس هي منشأ كل خطيئة وسيئة ممكن أن يقع فيها الإنسان، فقد قال تعالى ((مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا))(النساء ـ 79).

وفي الختام نشير إلى أنّ الحقَّ في المقام، هو أنَّه ليس بالضرورة أن  يتمكن كل فرد من الإستفادة من الصِّيام، بالشكل الذي يمكنه من بلوغ حالة التقوى المطلوبة، بل بعض النَّاس ولجهلهم بغاية الصِّيام التي أوضحناها في هذا المقال، ولعدم تأديته بشروطه التَّامة، وكذلك لاتخاذه كعادة عباديَّة دورية، لن يتمكَّنوا من الإستفادة من الصَّوم كطريق لبلوغ تلك الحالة التقوائيَّة المطلوبة، وستكون النتيجة المتحقِّقة لهم فقط وفقط ذاك الجوع والعطش والتعب الذي يتطلبه الصِّيام.  

حبيب مقدم

المرفقات