تأمل في دعاء اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ قَرِّبْني فيهِ اِلى مَرضاتِكَ ، وَجَنِّبْني فيهِ مِن سَخَطِكَ وَنَقِماتِكَ ، وَ وَفِّقني فيهِ لِقِرائَةِ اياتِكَ ، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرّاحمينَ)

 

قرب الخالق من العبد      

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق-16] ، وفي آية أخرى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة-186] هكذا وصف القرآن القرب بين الخالق والمخلوق، فالخالق هو الأقرب إلى العبد، ولكن علاقة العبد بخالقه ليست كعلاقة بعضنا مع البعض الآخر، فليس القرب من طرف يعني الآخر كذلك قريب، فالقرب من جهة الخالق متحقق في جميع الأزمان والأماكن، فلذا قال (نحن أقرب إليه) و (إني قريب) صرح بالقرب من جهته فقط، فأما قرب العبد فهو غاية ومنزلة عظيمة قد زلقت أقدام الكثير خلال محاولة الوصول إليها، لأنهم أخطأوا الطريق.

ربما تقول هنالك حديث (الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق)، فيرد عليه: أولاً: إن هذا الحديث لم يرد في مدرسة أهل البيت عليهم السلام لا لفظاً ولا مضموناً. ثانياً: إن هذا الحديث يخالف صريح القرآن الكريم (اهدنا الصراط المستقيم) وغيرها قرابة العشرون آية أخرى وردت بلفظ الصراط المستقيم، ولم يقل اهدنا الطرق المستقيمة، والقرآن كتاب رب الحكمة فلا يتصور أنه قد عبر بالصراط المستقيم جزافاً. ثالثاً: أن هذا الحديث قد جيء به لتبرير طرق المتصوفة.

 

طريق قرب العبد من الخالق

الطريق إلى الله عز وجل واحد مستقيم غير قابل للانحراف، ولكن هل جعله الخالق مخفي على خلقه، مما يصعب عليهم معرفته، فلذا تعددت الطرق مضنة تحصيل الطريق المنشود؟!

والحقيقة أن هذا قول بعيد عن الصواب أشد البعد، لأنه يثبت تضليل الخالق لخلقه أو عجزه، وتعالى الله عن كليهما علواً كبيراً.

فلم يبقى لنا إلا القول بأن الطريق إلى الله واحد مستقيم وواضح، وهو قول مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بخلاف المدارس الأخرى التي تضع من عندها طرق استحسنتها عقولهم لتوصلهم للخالق، فكيف يعلم المخلوق بطريق خالقه ما لم يحدده ويوضحه هو لعبده؟!!.

وقد صرح النبي الأعظم صلى عليه وآله مراراً وتكراراً في أنه وأهل بيته عليهم السلام هم الطريق الوحيد إلى الخالق، فقد قال صلى الله عليه وآله في يوم الغدير: (معاشر الناس انا صراط الله المستقيم الذي أمركم باتباعه، ثم علي من بعدي، ثم ولدي من صلبه، ائمة يهدون الى الحق وبه يعدلون، ثم قرأ: الحمد لله رب العالمين الى آخرها، وقال صلى الله عليه وآله: فيّ نزلت وفيهم نزلت)[الاحتجاج ص62].

وأيضاً جاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله يحكم وعلي بين يديه مقابله، ورجل عن يمينـه ورجـل عن شمالـه، فقـال: اليمين والشمـال مضلـة والطـريق المستوي الجادة، ثم أشار صلى الله عليه وآله بيده (وإن هذا صراط علي مستقيم فاتبعوه)[ المناقب ج3 ص74].

ويكفينا دليلاً في المقام حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، قال رسول الله صلى الله عليه وآله (إنِّي قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به، لن تضلُّوا بعدي: الثَّقلَينِ، كتاب الله، حبْلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ألَا وإنهما لن يَفترِقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ).

 

الآن بعد معرفة الطريق الصحيح إلى الخالق، لا يكفي مجرد المعرفة به، بل لابد من السير فيه والأخذ منه، والعمل بتعاليمه، للوصول إلى المنازل الرفيعة وتحقيق القرب المنشود من الخالق، فقد جاء في الزيارة الجامعة الكبيرة "... بِكُمْ يُسْلَكُ اِلَى الرِّضْوانِ ..." فالنبي واهل بيته عليهم السلام هم الطريق للوصول الى رضوان الله عز وجل، فالعبد الذي يريد أن يقربه الله من تحصيل مرضاته، لا بد عليه من السلوك في طريق أهل البيت عليهم السلام للحصول على ذلك القرب الذي بدء به مطلع الدعاء لهذا اليوم:

(اللهم قربني فيه إلى مرضاتك)، فمرضاة الله عز وجل هي النتيجة التي ينتظرها العبد الحقيقي، قال تعالى  (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ)[التوبة-21] ، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة-١١٩] ، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[ النساء-١١٤] ، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ)[ آل عمران-١٦٢].

فيظهر من تلك الآيات الكريمة أن رضوان الله هو منزلة عظيمة وجزاء كبير يسعى إليه العبد الحقيقي.

 

 نتيجة ترك الصراط المستقيم

وأيضاً قد ذكر الدعاء المبارك لهذا اليوم النتيجة المعاكسة للمرضاة وهي: (وَجَنِّبْني فيهِ مِن سَخَطِكَ وَنَقِماتِكَ) كما ذكرت الزيارة الجامعة نتيجة عكس طريق أهل البيت عليهم السلام "... مَنِ اتَّبَعَكُمْ فَالْجَنَّةُ مَأواهُ، وَمَنْ خالَفَكُمْ فَالنّارُ مَثْواهُ، وَمَنْ جَحَدَكُمْ كافِرٌ، وَمَنْ حارَبَكُمْ مُشْرِكٌ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيْكُمْ في اَسْفَلِ دَرْك مِنَ الْجَحيمِ ..." فحتماً من سلك غير طريق الرضوان سيكون ضمن دائرة غضب الباري ونزول نقمته عليه، ويختصر كل كلامنا قول الإمام الباقر عليه السلام: "حبنا إيمان، وبغضنا كفر"[الكافي 1 ص188].

 

المؤمن وتلاوة القرآن

(وَ وَفِّقني فيهِ لِقِرائَةِ آياتِكَ) ففي قراءة القرآن وتعلمه فضل كبير مما لا يخفى على مسلم، فقد جاء عن الإمام العسكري عليه السلام :

«إنّ القرآن يأتي يومَ القيامة بالرّجل الشّاحبِ يقولُ لربّه: يا ربّ، هذا أظمأتُ نهارَه، وأسهرتُ ليلَه، وقوّيت في رحمتك طمعه، وفسحتُ في رحمتك أمله، فكن عند ظنّي فيك وظنّه. يقول الله تعالى: اُعطوه المُلكَ بيمينه والخُلد بِشماله، واقرِنوه بأزواجه من الحور العين، واكسُوا والديه حلّة لا تقوم لها الدّنيا بما فيها، فينظر إليهما الخلائق فيعظّمونهما، وينظران إلى أنفسهما فيعجبان منهما، فيقولان: يا ربّنا، أنّى لنا هذه ولَم تَبلُغْها أعمالُنا ؟! فيقول الله عزّوجلّ: ومع هذا تاج الكرامة، لم يَرَ مثلَه الرّاؤون ولم يسمع بمثله السّامعون، ولا يتفكَّر في مثله المتفكّرون، فيقال: هذا بتعليمكما ولدَكُما القرآن، وبتبصيركما إيّاه بدين الإسلام، وبرياضتكما إيّاه على حُبّ محمّد رسول الله وعليّ وليّ الله صلوات الله عليهما، وتفقيهكما إيّاه بفقههما».[تفسير الإمام العسكري ص22].

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

المرفقات