كيف نصدق دعوى المهدوية؟

لقد كثر في زماننا كما هو الحال في الأزمان السابقة ادعاء المهدوية، ونرى جماعة من الناس في كل زمان تسير خلفهم وتصدق مدعاهم بلا أدنى تأمل أو تفكير، فقد اعتمدت تلك الحركات على الخداع والكذب والتضليل والسحر والشعوذة، واستخدام الجهلاء والبسطاء في ترويج مدعاهم، فينبغي علينا إيضاح طريقة تصديق الادعاء، حتى لا نكون ضحية لإحدى تلك الدعوات المنتحلة الباطلة الكاذبة، ونؤمن بالدعوى الحقيقية الحقة الصادقة.

قبل بيان الطريقة أو الضابطة لتصديق الادعاء نبين مقدمة في أمور:

 

الأمر الأول: إن من الواضح والمسلمات - لدى جميع العقلاء على اختلاف نحلهم ومللهم ومعتقداتهم - في جميع مجالات الحياة عدم إمكانية تحديد ذوي الخبرة في مجالهم المعين إلا من خلال أمثالهم ممن ثبتت خبرتهم في المجال ذاته، أو ممن لديهم القدرة على تشخيص ذوي الخبرة وفق ضوابط عقلائية معينة، أو يُثبت ذلك بنفسه من خلال القدرة على فعل الأمر بمستوى أمثاله أو أفضل، والشواهد على ذلك كثيرة، فمنها: الهندسة المعمارية فلا تستطيع القول بأن فلان خبير فيها إلا أذا شهد له مهندس معماري قد ثبت له ذلك، أو يبين أعماله التي قام بإنجازها التي تشير إلى خبرته، أو يشهد له بعض الثقات بأنه فعلاً هكذا، وكذلك الطبيب وذوي المهن الصحية وغيرها من مجالات الحياة المختلفة.

الأمر الثاني: أن المجال الديني كذلك، فلا يمكن اثبات اجتهاد المرجع إلا وفق طرق عقلائية وشرعية لمعرفة المجتهد أو المرجع الديني التي ذكرها العلماء في كتبهم وأبحاثهم الفقهية ورسائلهم العملية، فقد ذكر السيد كاظم اليزدي - قدس سره - في رسالته العملية التي أصبحت مداراً للبحث الفقهي لدى علماء الشيعة المعاصرين: "يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني، كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص، وكذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد، وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم وكذا الأعلمية تعرف بالعلم أو البينة الغير المعارضة أو الشياع المفيد للعلم ."[1]

بل أكثر من ذلك في إثبات العدالة التي يرى البعض عدم أهميتها إلا أنها لا تثبت في المنظار الشرعي إلا وفق ضوابط معينة، فقد ذكر أستاذ الفقهاء السيد الخوئي -قدس سره- : "تثبت عدالة المرجع في التقليد بأمور : الاول: العلم الحاصل بالاختبار أو بغيره. الثاني: شهادة عادلين بها، ولا يبعد ثبوتها بشهادة العدل الواحد بل بشهادة مطلق الثقة أيضا، الثالث : حسن الظاهر ، والمراد به حسن المعاشرة والسلوك الديني بحيث لو سُئل غيره عن حاله لقال لم نر منه إلا خيرا."[2]

الأمر الثالث: إن عدم قبول الدعوى بلا ضوابط تجري حتى في اثبات وجود الخالق عز وجل –ولا يخفى المسامحة في التعبير فإن المراد هنا بالإثبات العلمي او البحثي- بل إن نفس الخالق أرشدنا إلى الإيمان به من خلال عقولنا لا مجرد الادعاء، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت/53]، (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة/164]، (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس/24]، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل/44]، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)[الروم/8].

والمُطلع على أبحاث علم الكلام لدى الامامية يرى جلياً قولهم القاطع في استحالة اثبات وجود الخالق إلا بالدليل العلمي العقلي القطعي.

ويشيرإلى مجال العقل ودوره في المعرفة الآلهية قول الإمام الصادق -عليه السلام- : (إنّ أوّل الأُمور ومبدأها وقوّتها وعمارتها، التي لا ينتفع شيء إلاّ به: العقل، الذي جعله الله زينةً لخلقه، ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنّهم مخلوقون، وأنّه المدبّر لهم، وأنّهم المدبّرون، وأنّه الباقي وهم الفانون، واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه، من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره، وبأنّ لهم خالقاً ومدبّراً لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأنّ الظلمة في الجهل، وأنّ النور في العلم، فهذا ما دلّهم عليه العقل)[3].

ولرُب سائل يقول: كيف توجه ما ذكر في دعاء كميل بن زياد (يا من دلّ على ذاته بذاته)؟.. فنجيب: يمكن أنه تكون هذه الدلالة من وجوه:

الأول: أن الله سبحانه وتعالى دل عقولنا عليه من خلال ظهور آياته وعظيم صنعها.

الثاني: أي أنه سبحانه وتعالى أرسل رسلاً أرشدتنا إليه، كما يوضح ذلك قول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة : (فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ).[4]

الثالث: يمكن أن يُقصد بهذه الدلالة المعرفة التفصيلية، أي إن عقولنا تدرك أصل المعرفة، لكنها لا تدرك تفصيلها إلا من خلال الأنبياء والأوصياء الذين لديهم علم رباني يوضح لنا المعرفة التفصيلية.

والحق أن جميعها صحيحة في بيان معنى (يا من دلّ على ذاته بذاته).

الأمر الرابع: كذلك في اثبات دعوى النبوة لابد من وجود دليل على ادعائها يثبت صدقها، وهي تثبت إما بنص نبي سابق عليه، أو ظهور المعجزة على يديه وعلى أن تكون خارقة للعادة وموافقة لمدعاه.

أما في إثبات الإمامة فهي أيضاً خلافة ربانية تثبت بالنص من قبل النبي أو الإمام الذي قبله المنصوص عليه، خلافاً لبعض المذاهب الإسلامية التي تقول أن الإمامة تثبت باختيار المسلمين للإمام، وليس المحل هنا مناقشة قولهم، إلا إننا نكتفي بآية قرآنية واحدة تثبت أن الإمامة جعل آلهي، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة/124] ففي هذه الآية بيان واضح لذوي العقول على أن الإمامة جعل آلهي لا ترشيح وانتخاب من قبل المسلمين، وللبحث تفصيل وشواهد وأدلة ليس محلها في هذا البحث المختصر.

فخلاصة المقدمة: أنه في مجالات الحياة التي تتوقف على أن يكون الشخص خبير في مجاله المعين أو في ما يخص القيادة الدينية أو في ما يخص معرفة الخالق أو الأنبياء أو الأئمة، كلها لا تثبت بمجرد الادعاء، بل لابد من وجود أمر آخر غير الادعاء يؤيد كلامه ويكون دليلاً وشاهداً على صدقه.

 

دعوى المهدوية

الذي يهمنا في زماننا هذا في مجال المعرفة الآلهية هو معرفة إمام زماننا، فقد ثبت لدى الشيعة الإمامية بالدليل القاطع المتواتر ولادة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته وأنه سوف يظهر في آخر الزمان، فمعرفته عليه السلام على قسمين، معرفة نظرية وأخرى شخصية، فالمعرفة النظرية واضحة وقد بينها العلماء على مر عصور الغيبة، ولكن الأمر الذي سقط فيه الكثيرين هو المعرفة الشخصية، أي معرفة شخص الإمام المهدي عليه السلام، فالسؤال المهم هنا هو..

 كيف يمكن أن نشخص الإمام المهدي عليه السلام إذا ظهر؟

فهل يكفي مجرد الادعاء أم لابد أن تكون هنالك ضوابط علمية عقلائية وشرعية لتصديق الدعوى؟ فالإمام المهدي عليه السلام ثابت عندنا اسم وعقيدة - أي معرفة نظرية - ولكنه لم يثبت لدينا شخصاً ظاهراً – أي لم نحدد شخصه من بين الناس أنه هذا هو الإمام المهدي المنتظر فهو مستور عنا-، فعليه كيف يمكننا تحديد شخصه وتصديق دعواه إذا ظهر؟

والجواب على ذلك: يتضح مما تقدم سابقاً ان مجرد الدعوى لا يمكن أن تثبت حقانية المدعي، وإلا إذا كانت مجرد الدعوى كافية لزم علينا تصديق دعوى كل من ادعى أنه الإمام المهدي، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة، فالعشرات ادعوا المهدوية قبل ولادة الإمام المهدي عليه السلام وبعد ولادته ايضاً، فلا يكاد زمان يخلو من ادعاء المهدوية منذ ولادة الإمام الحسين صلوات الله عليه وإلى زماننا هذا.

أما السابقين فواضح بطلان دعواهم؛ لأن المهدي عليه السلام حين ظهوره يملئ الأرض قسطاً بعدما ملئت ظلماً وجورا، فإذا بطل التالي فالمقدم مثله.

أما من سيدعي المهدوية لاحقاً يلزم أن ينظر في دعواه، ومن ثم ينظر في صدقها وفق ضوابط عقلائية وشرعية، ومن تلك الضوابط[5] التي يمكن أن تكون دليلاً على صدق مدعاه:

الضابطة الأولى: أن يكون مدعي المهدوية بيناً ظاهراً للجميع لا مستوراً ويعيش في الخفاء ويقول أنا الإمام المهدي وقد ظهرت، لأن دعوى ظهور المهدي واضحة من منطوقها (ظهور) أي لا خفاء فيها لا حين بدء الدعوة ولا بعدها.

الضابطة الثانية: أن يقترن ادعاء المهدوية بآية بينة تبطل كل ما أتى به المدعون، ويعجز غيره عن الاتيان بها، كما ورد في علائم الظهور الإعجازية، وقلنا يعجز غيره عن الإتيان بها، دفعاً لما يقوم به السحرة، لأن السحر يعتمد على الخيال والخديعة للنظر، والسحر خاص لا يكون مورداً عام، والسحر يبطله السحر وتبطله المعجزة، أما المعجزة لا يبطلها شيء.

الضابطة الثالثة: أن يعرض مدعي المهدوية الدعوى على العلماء والفضلاء وذوي العقول، لا على الجهال والبسطاء والسذج، الذين لا دراية لهم، فالجاهل يمكن أن ينخدع بالبراهين المزيفة والأكاذيب، فإذا عرض دعواه على العلماء وذوي العقول وصدق بها جماعة كبيرة منهم، حينها يمكن القول بصدق مدعاه، كما هو الحال في ادعاء الأنبياء عليهم السلام، فحين إرسالهم عليهم السلام أول ما عرضوا رسالتهم على العلماء، فقد كان السحر في زمان موسى عليه السلام هو العلم الرائج حينها فجاء وعرض رسالته عليهم وحاجهم فيما هم فيه يعلمون، وكذلك النبي عيسى عليه السلام عندما كان علم الطب هو السائد في زمانه، وأيضاً نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله عرض رسالته على أئمة اللغة والبلاغة الذين كان علمهم هو المهيمن في زمانه، فحاجهم فيه فعجزوا عن الإتيان بمثله، وأذعنوا لرسالته الخالدة.

الضابطة الرابعة: أن ينظر في ملكاته وعلمه وتدينه وسلوكه الواردة في صفات الأنبياء والأئمة عليهم السلام الثابتة والمسلم بها.

فإذا توفرت تلك الأمور في شخص من أدعى أنه الإمام المهدي يمكن التصديق به؛ لأن القضية المهدوية هي مشروع رباني يلخص جميع الرسالات السماوية ويحقق أهدافها وغايتها.

 

وأهم ما يتلخص مما تقدم:

أن الادعاء لا يكون دليلاً على صدق دعوى؛ بل لا بد من دليل يؤيدها. أن معرفة الإمام المهدي عليه السلام على نحوين، نظرية وشخصية. أن معرفة الإمام المهدي عليه السلام الشخصية لا يمكن قبول الدعوى فيها مطلقاً إلا وفق ضوابط عقلائية وشرعية.

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين ع للإعلام الرقمي

_____________________________

1 - العروة الوثقى: (المسالة 20).

2 - منهاج الصالحين للسيد الخوئي : (المسالة 20).

3 - الكافي للشيخ الكليني: ج ١ ص ٢٩.

4 - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) – خطبته في اختيار الانبياء: ج ١ ص ٢٣.

5 - هذه الضوابط مستوحاة من بحث أستاذنا الدكتور الشيخ فاضل الصفار في شعبان 1440 هـ.

المرفقات