المعالجات اللونية في الخزف الإسلامي..

لقد تمكن الفنان والمعمار المسلم من إتقان أنواع الفنون واخراجها بأبهى الصور والاشكال.. وعمد الى تفعيل الجانب الجمالي معززاً به الجانب الوظيفي لأعماله الابداعية من خلال تنوع عناصر هندسة العمائر والابنية الاسلامية والتي تعد القباب والمآذن من ابرزها بهياتها ورمزيتها  المشيرة الى السماء، والتي انشأت بقوام من الآجر والطابوق المكسو بالواح رقيقة من الآجر المزجج والمزخرف بأنواع من الزخارف النباتية والهندسية والخطية الرائعة لترنو نحوها الأبصار وتميل اليها القلوب بمزيج من الأمل والحب والإجلال.

لم يبتكر الفنان المسلم فن الخزف والمعالجات اللونية بقدر ما يكون قد ورثها من الاجيال والحضارات السابقة ، فقد كان الخزف وطرائق المعالجة اللونية موجودة قبل الإسلام عند الفراعنة والعراقيين القدماء، وأفضل مثال تتجلى فيه المعالجة اللونية الآجر المزجج في بوابة عشتار في بابل والتي ترجع إلى القرن السادس  ق . م والمعالجة بعدة  ألوان ، كما انه قلد بعض أنواع الخزف المستخدم في العصور السالفة لعصر الإسلام من البلدان المجاورة التي فتحها المسلمون.

وكان للعراق في العصر الإسلامي النصيب الأوفر في تطوير وتحسين شتى الفنون وبالخصوص فن الخزف، إذ ارتقى به إلى أقصى درجات الجمال والابتكار وظهرت أنواع مختلفة من الفخار والخزف لم يسبق لها مثيل في جودة الصناعة وجمال الزخارف والمعالجات اللونية .

فمثلاً الخزف في العصر الأموي كانت نتاجاته قليلة وغير كافية إذا ما قورنت بإنجازات فن العمارة التي تعد إحدى الفنون الكبرى التي أولاها الأمويون جل اهتمامهم، ولكن تطور هذا اللون من الفن في عصر الدولة العباسية حيث عد مرحلة مهمة للانطلاقات الفنية الإبداعية التعبيرية، فقد شكلت النتاجات الفنية نقلة نوعية نتيجة الاحتكاك والتقارب مع الشعوب وارث الحضارات الأخرى وبالتالي حصول التأثير والتأثر المتبادل بينهم لتشهد سامراء ومن قبلها بغداد الثورة الحقيقية في صناعة الخزف.. حتى استطاع الفنان المسلم أن يحقق إبداعاً كبيراً بابتكار الخزف المعالج لونياً بتقنية البريق المعدني خلال القرن الثالث الهجري ليستمر الفنان المسلم بتطوير هذا النوع من الفن وابداع اشكال وتقنيات جديدة تمتد تزاد جمالا حتى يومنا الحاضر.

تتجلى أهمية الخزف الإسلامي محلياً وعالمياً في عصرنا الحديث، من حيث أن الفنان الأوربي الحديث لم يتخذ من الخزف الغربي قاعدة رصينة يعتمد عليها في ابداعه أو كنقطة انطلاق يستمد منها الوحي والمعرفة في صناعة الخزف وتزيين سطوحه الصقيلة، لكنهم اتخذوا من الخزف الإسلامي في بلاد الأندلس قاعدة لهم ونقلوا عن خزافي بلاد الأندلس الذين  تتلمذوا على يد خزافي مدرسة بغداد للخزف أسرار الصناعة الخزفية فابدعوا بها لتكون منها نتاجات مذهلة زينوا بها كنائسهم ودور العبادة الخاصة بهم.

أن الخزاف العراقي في العصر الإسلامي برع في معرفة مواد الخزف وتراكيبه الكيمياوية وانواع المواد الاولية وكيفية توظيفها والانطلاق بها إلى ذروة الرقي والتقدم، من خلال دراسة المواد والالوان والمعالجة الخاصة بها، فكان ابرز ما أبدعه هو الخزف ذو البريق المعدني، الذي أصبح الأسلوب الأول الذي تبناه الخزاف المسلم واستخدمه في تزيين العمائر في كل أنحاء العالم الإسلامي.. فهذه المعالجات اللونية من شانها اظهار العلاقة المتبادلة بين المادة والشكل.. وصولاً إلى مستوى التعبير الذي يعد السمة الكامنة في العمل ذاته،  والذي يكشف الأفكار والانفعالات التي يكتنفها الخزاف المسلم وفق ما هو منتمي إلى معتقداته الروحية والفكرية بما ينسجم مع ما يعتقد من الفكر الإسلامي وتعاليمه ضمن مجال الإبداع في الشكل ومعالجته لونياً

لقد استمدت المعالجة اللونية في الخزف الإسلامي تعبيراتها وصيغها الفنية والجمالية من الأصول الرئيسية لدلالات الالوان التي تحمل معان عميقة وراسخة مرتبطة بشخصية الفنان المسلم وموروثه الروحي والمادي والمستمدة اغلبها من الوصف الواد في القران الكريم، ليكون للون وظيفة انفعالية إلى جانب وظائفه الجمالية المعروفة.. فهو يزيد من فعل التنميق وقد استعمله الفنان المسلم لذاته ، ودليل ذلك انه يعزل إضافة بعضها عن بعض ، وكذلك ينزله منزلة الغاية بأن يقيمه مقام الضوء كما هو حاضر اليوم في الوان القباب الاضرحة المقدسة ومشاهد الاولياء الصالحين ونقوشها المختلفة ، اضافة الى ان اللون يجري مجرى أداة التأويل، فهو جوهر النصوص الفنية إلى المشاهد عن طريق الإحساس الصرف كما في النقوش المزينة للأبواب والشبابيك في دور العبادة و المشاهد المقدسة.

وهنا لابد من الاشارة إلى أن المواد الخام والألوان التي استخدمها الخزاف المسلم في معالجاته الفنية للسطوح والالوان متطورة عن أسلافه، من خلال انتقائه الدقيق للمواد الاولية الداخلة في صناعة السطوح وتطويره للأفران الحرارية التي تعالج فيها مواده الاولية، فضلاً عن تطوره العلمي في استخدام الاكاسيد الاحادية  واشراكها الالوان الخام في تلوين وتزيين السطوح مثل اوكسيد النحاس و اوكسيد الحديد  لينتج منها درجات لونية مختلفة من الوان الازرق والاصفر الذهبي والنحاسي وبدرجات لونية متفاوتة، لينفرد بإنتاج انواع من الخزف الإسلامي استثنائية من حيث المعالجات اللونية والتقنية والفنية ليصبح مثالاً شاخصاً للفرادة والتحولات الفنية الجمالية على مستوى العالم

اعداد : سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات