إنّ أيّة نهضة لا تكتسب مشروعيّتها ولا تخرج من دائرة التطرّف ما لم تمتلك المبرّرات الشرعية أو القانونية التي تُسوِّغ لها الخروج السلمي أو المسلّح ضدّ السلطة الحاكمة، والتطرّف والإرهاب معنى يُقابل ذلك تماماً؛ فهو لا يملك المبرّرات الشرعية للخروج.
ومن هنا؛ لا بدّ من دراسة المبرّرات الشرعية للنهضة الحسينية أوّلاً[1].
المبرّر الأوّل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لم يناقش أحدٌ ممّن يُعتدّ بعلمه في هذه الأُمّة من الفريقين صغروياً في وجود المنكر وترك المعروف على عهد يزيد، سواء أكان المنكر متمثّلاً في شخص الحاكم، أم في حكومته، أم في المجتمع بصورة عامة، وإنّما النّقاش عند بعضهم في حرمة الخروج عليه تمسّكاً بالنصوص المانعة من الخروج على الحاكم بعد الاعتراف بجور يزيد وظلمه.
وعليه؛ فإنّ صغرى عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرزة في المقام؛ ومن هنا كان من الواجب كفاية على الأُمّة جميعاً آنذاك على اختلاف بلدانها القيام بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث تُعدّ آثمةً فيما لو تخلّت عنه، إلّا أنّ الملاحظ أنّه لم ينهض بهذا الواجب إلّا شخص واحد وهو الإمام الحسين عليه السلام مع ثلّة من أهل بيته وصحبه، ومن المعلوم أنّه لم يكن فيمن اجتمع مع الحسين عليه السلام كفاية؛ وعلى هذا فقد وقع الإثم على الباقين.
وممّا يؤكِّد ثبوت هذه الصغرى ـ أعني فساد شخص الحاكم وعدم أهليّته للخلافة[2] ـ ما جاء في أقوال الإمام الحسين عليه السلام :
1ـ قال عليه السلام لوالي المدينة عن سبب امتناعه من البيعة: «ويزيد فاسقٌ فاجر، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنّفس المحترمة، مُعلِنٌ بالفسق والفجور»[3].
2ـ وقال عليه السلام : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»[4].
3ـ كما أشار إلى فساد الجهاز الحاكم بقوله: «أَلا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله»[5].
4ـ وقال أيضاً: «أَلا ترونَ أنّ الحق لا يُعمَل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه»[6].
وأمّا الكبرى في هذا البحث، فقد أشار إليها عليه السلام في وصيّته لأخيه ابن الحنفية قبل خروجه من المدينة: «إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب»[7]. وقوله عليه السلام في زيارته الثانية لقبر جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «اللّهمّ، إنّ هذا قبر نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ، إنّي أُحبّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[8].
شُبهات وردود
يمكن أن تثار بخصوص هذا المبرِّر بعض الشبهات التي نشير إليها فيما يلي:
الشُّبهة الأُولى: فقدان شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ممّا يُشكَل به هو عدم توفّر شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نهضة الإمام الحسين عليه السلام ؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأوّل: إنّ من الشروط المعتبرة في الأمر بالمعروف احتمال التأثير في مرتكب المنكر، ومثل هذا الاحتمال غير متحقِّق بالنسبة لشخص يزيد وحكومته.
والجواب عن ذلك:
أوّلاً: إنّ هذه المناقشة مبنائية؛ بمعنى أنّها مبنيّة على التسليم بالشرط المذكور، لكنّ في قباله قولاً يُنكِر هذا الشرط بدليل إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخلوّها من هذا الشرط، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الطوسي وصاحب الجواهر وبعض الفقهاء المعاصرين.
قال صاحب الجواهر: «الكلام فيما ذكره المصنِّف وجماعة، بل ربّما نُسِبَ إلى الأكثر من السقوط أيضاً [أي: سقوط الأمر بالمعروف] بغلبة الظن بعدم التأثير، مع أنّ الأوامر مطلقة ومقتضاها الوجوب على الإطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير، إلّا أنّه للإجماع سقط في خصوصها، أمّا غيرها [غير صورة العلم] فباقٍ على مقتضى الإطلاق من الوجوب... ودعوى انصراف الإطلاق إلى غير ذلك ـ فيبقى أصل البراءة سليماً ـ ممنوعة»[9].
وقال بعض الفقهاء المعاصرين: «مقتضى الأدلّة عدم اشتراط ذلك كما صرَّح به فقيه عصره صاحب الجواهر رحمه الله ، كما أنّ مقتضى الآية الكريمة: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّـهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ)[10]، عدم اشتراط ذلك، كما صرَّح به شيخ الطائفة، قال في الجزء الخامس من التبيان في ذيل الآية: والتقدير: واذكر إذ قالت أُمّة منهم لطائفة: لِمَ تعظون قوماً علمتم أنهم هالكون في الدنيا ويعذّبهم الله عذاباً شديداً في الآخرة؟ فقالوا في جوابهم: وعظناهم إعذاراً إلى الله؛ أي: نعظهم اعتذاراً إلى ربّكم؛ لئلّا يقول لنا: لِـمَ لَـمْ تعظوهم؟ ولعلّهم أيضاً بالوعظ يتّقون ويرجعون. وفي ذلك دليل على أنّه يجب النّهي عن القبيح وإنْ علم الناهي أنّ المنهي لا ينزجر ولا يقبل، وإنّ ذلك هو الحكمة... .
فإن أُورِدَ على ذلك: بأنّه مع العلم بعدم التأثير يكون وجوب الأمر والنهي لغواً لا يصدر من الحكيم.
أجبنا عنه: بأنّ فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما هو حفظ الجامعة الإسلامية ووحدتها، وسوق المجتمع إلى العزّة والصلاح والسعادة، بل هما ينبوع الحياة الاجتماعية، فإذا قام كل فرد من أفراد الأُمّة بنصيحة الآخر استقرّ أمر الخير والمعروف بينهم، وامتنع الشر ولا منكر فيهم، وهذه هي فائدة التناصح أمراً ونهياً؛ ولتلك وجبا على كل فرد من الأفراد، وهي الغرض الأقصى من توجّه التكليف إلى كل فرد»[11].
ثم تنزّل فقال: «فعلى فرض تسليم اعتبار هذا الشرط، والعلم بعدم تأثير الأمر والنهي، فمع ذلك يجب إظهار الحقّ عند ظهور البدعة في الدين، لاحظ النبوي: إذا ظَهَرتْ البدع في أُمَّتي فليُظهِر العالم علمه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة الله. والعلوي: إنّ العالم الكاتم لعلمه يُبعَثُ أنتن أهل القيامة ريحاً، تلعنه كلّ دابة من دوابّ الأرض الصغار. وما رواه ابن عبد الرحمن في حديث رُويناه عن الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا: إذا ظَهَرتْ البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، فإن لم يفعل سُلِبَ نور الإيمان. ونحوها... ولا يشترط في ذلك احتمال التأثير؛ فإنّ المطلوب في هذا المقام إظهار الحقّ، وهذه الفائدة تترتَّب مع العلم بعدم التأثير أيضاً»[12].
وكلامه في هذا التنزّل ينطبق تمام الانطباق عند التأمّل على نهضة الإمام الحسين عليه السلام .
هذا بناءً على رأي الإمامية، وأمّا على رأي العامّة فالأكثر لم يشترط احتمال التأثير كالشافعية والأحناف والحنابلة، ولم يذكره إلّا المالكية[13].
ثانياً: إنّه على فرض التسليم بالشرط السابق، فإنّا تارة نتكلَّم عن التكليف الظاهري للإمام الحسين عليه السلام ، الذي كان يتصرَّف فيه باعتباره واحداً من المكلَّفين في ضوء المعطيات الظاهرية والسياقات العامة للوضع، وأُخرى بناءً على علمه المسبق بما ستأول إليه الأُمور. فعلى الأوّل يمكن القول بوجود احتمال التأثير في هذه الصورة بناء على ما قام به عليه السلام من التمهيد لذلك ضمن مقدّمات: كان أوّلها الخروج من المدينة بأهل بيته، ثمّ الاستقرار بمكّة واللقاء بالناس والوفود واستنهاضهم، وبعث الرسل إلى البلدان كالبصرة والكوفة، وقد بايعه أهل الكوفة؛ الأمر الذي يدلّ على وجود احتمال التأثير قوياً مع سلوك هذه المقدمات وفق المعطيات والمعايير الظاهرية المنظورة؛ بمعنى أنّ هذه المقدّمات تنتج بشكل طبيعي حصول احتمال التأثير إن لم يكن الظن لكلّ مكلَّف؛ ولعل الشاهد على ذلك أنّه لمّا حوصر الإمام عليه السلام من قِبَل جيش الحرّ الرياحي، وكان قد بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل، وعَلِمَ بعدم إفضاء هذه المقدّمات للنتائج المطلوبة والتأثير المتوقَّع، طَلَبَ من الحرّ السّماح له بالرجوع عن مواصلة الطريق إلى الكوفة[14]؛ وذلك لسقوط التكليف بانعدام الناصر والمعين.
وأمّا بناءً على علمه المسبَق بمصيره وأنّه سوف يُستشهد، فهنا قد تتعقَّد الإشكالية ويقال بعدم التأثير قطعاً؛ لأنّه عليه السلام كان عالماً باستشهاده وعدم وصوله إلى مطلوبه من تغيير المنكر حيث بقي المنكر على ما كان عليه.
ولكن الجواب على ذلك يمكن أن يكون بأمرين:
1ـ إنّ التأثير لا ينحصر بالتأثير الفعلي أو المباشر، بل يشمل ما يكون في المستقبل، فالتأثير تأثيران؛ وذلك لأنّ سنخ المنكر الموجود آنذاك كان سنخ منكر يهدف إلى محو الإسلام والقضاء عليه على مدى الأجيال والدهور؛ ممّا يتطلّب إنكاراً يتناسب وحجم ذلك المنكر، بأن تظهر نتائجه ولو في الأجيال اللاحقة، ولا يتوقَّف الأمر على احتمال التأثير الفوري، وهذا ما دعا بعض الفقهاء إلى القول بأنّه في هذه الحالة لا يسقط وجوب النهي عن المنكر، فهو بقوة احتمال التأثير الفعلي ولا فرق بينهما، كما لو احتملنا إن تصدّينا لفضح ومحاربة الفِرَق الضالّة والمؤسسات الفاسدة ونشر معايبها وانحرافاتها على الناس سيؤدّي في المستقبل إلى توعية الناس شيئاً فشيئاً، ثمّ كساد تلك المؤسسات وإفلاسها واندثارها في المجتمع، أو على الأقل يؤدّي إلى الحدّ من اتّساع رقعة نشاطاتها وإضلالها، أو تحصين الناس من الانخداع بأفكارها وبرامجها، ففي هذه الصورة يكفي احتمال التأثير المستقبلي في عدم سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل ينتقض وجود مثل هذا الشرط في حال تعميمه بدعوة أكثر الأنبياء والمصلحين، حيث لم يكن تأثيرهم فعلياً ومباشراً على أُممهم كما هو واضح، ومعلوم أنّ دعواتهم هي من أجلى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع ذلك قاموا بهذه الوظيفة ولم تسقط عنهم بعدم احتمال التأثير الفعلي، وهكذا الأمر في نهضة الحسين عليه السلام .
ولذا؛ يقول بعض الباحثين حول هذه النهضة: «إنّ الحسين انتصر على المدى البعيد، فهو وإن لم يظفر بمراده في معركة حربية ومواجهة عسكرية، إلّا أنّ نيله الشهادة في ذاته كان انتصاراً لله، ثمّ إنّه زرع بذور الحقد والسخيمة في قلوب الناس جميعاً نحو بني أُمية، ولا يخامرني شكّ في أنّ الحسين انتصر على المدى البعيد، وكان استشهاده سبباً مباشراً في زلزلة عرش دولة الأُمويين مع انصباب جام اللعنات والسخطات عليهم من جرَّاء هذه الجريمة البشعة»[15].
2ـ إنّه لو سلّمنا انحصار ذلك بالتأثير الفعلي، فإنّه يمكن أن يقال: إنّا نقيّد عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفعل المعصوم، وهو الحسين عليه السلام ، فيكون العموم ثابتاً في سائر الموارد إلّا فيما أقدم عليه الحسين عليه السلام بخروجه ونهضته فإنّه خارج بالدليل تخصيصاً[16].
ثالثاً: يمكن التفصيل بين موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فثمّة موارد يُشترط فيها احتمال التأثير كما في كثير من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن ثمّة موارد يجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً حتى لو لم نحتمل التأثير بل قطعنا بعدمه؛ كما لو كان الحفاظ على بيضة الدين تتطلَّب الأمر بالمعروف، بل يجب ذلك حتى لو لم يبلغ الخطر على بيضة الدين، كما في بعض الموارد التالية التي ذكرها الفقهاء، وهي:
1ـ لو وقعت بدعة في الإسلام بحيث كان سكوت رؤساء الإسلام موجباً لهتك الإسلام وضعف عقائده.
2 ـ لو كان في سكوت رؤساء الدين خوف صيرورة المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
3 ـ لو كان في سكوت رؤساء الدين تقوية الظالم وتأييد له.
4 ـ لو كان سكوتهم موجباً لجرأة الظلمة على ارتكاب سائر المحرَّمات[17].
وكل هذه الموارد بل وأكثر منها كان في زمن الحسين عليه السلام .
الأمر الثاني: من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم تضرّر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقد تخلّف هذا الشرط في نهضة الإمام الحسين عليه السلام ؛ حيث تعرَّض لأعلى مراتب الخطر وهو القتل، مضافاً لنهب المال وأسر العيال.
والجواب على ذلك:
أوّلاً: إنّه يمكن إدخال المسألة وإدراجها في باب التزاحم؛ فإنّه إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الإسلام ولو بالتضحية بالنفس وبين محو الإسلام مع حفظ النفس فلا شكّ في تقدّم الأوّل لأهمّيته، ومن هذا الباب الجهاد في سبيل الله بقسميه الابتدائي والدفاعي، إذ لا شكّ في بذل النفس المحترمة فيه إذا كان فيه حفظ الإسلام، فإنّ حفظه مقدَّم على حفظ النفوس المحترمة بما فيها نفس المعصوم عليه السلام نبيّاً كان أم وليّاً كما يدلّ عليه حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب. قال السيّد الخميني قدس سره : «لو كان المعروف والمنكر من الأُمور التي يهتمّ بها الشارع الأقدس، كحفظ نفوس قبيلة من المسلمين وهتك نواميسهم، أو محو آثار الإسلام ومحو حجته بما يوجب ضلالة المسلمين، أو إمحاء بعض شعائر الإسلام كبيت الله الحرام بحيث يُمحى آثاره ومحله وأمثال ذلك لا بدّ من ملاحظة الأهمّية، ولا يكون مطلق الضرر ولو النفس أو الحرج موجباً لرفع التكليف، فلو توقّفت إقامة حجج الإسلام بما يرفع بها الضلالة على بذل النفس أو النفوس، فالظاهر وجوبه، فضلاً عن الوقوع في ضرر أو حرج دونها»[18].
وأفاد بعض الفقهاء المعاصرين في تقرير هذه الحجة أيضاً: إنّ اشتراط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمن من الضرر في كل الموارد ليس مسلّماً في كل الموارد، بل يمكن القول: إنّ الثابت شرعاً هو عدم الاشتراط في بعض الموارد، ولا بدّ من الموازنة بين المصالح الموجودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين مقدار الضرر الداخل منهما، فإن كانت المصلحة أهمّ وجب استيفاؤها شرعاً مثل إحياء الدين لزم تحمّل الضرر ولم يجُزْ ترك المعروف أبداً. وحاصل كلامه: ضرورة التفصيل بين موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث المصالح والمفاسد؛ وبهذا تندفع شبهة الإلقاء في التهلكة؛ فإنّ القيام لو خلا من المصلحة الراجحة كان من مصاديق الإلقاء في التهلكة، وإلّا لم يكن منها، وقد كان قيام الحسين عليه السلام واجداً للمصلحة الراجحة بلا ريب.
وقد أشار بعض علماء الجمهور لخطر حكم يزيد، فقال عبد الرحمن بن الجوزي (ت 654هـ): «إنّما رحل الحسين عليه السلام إلى القوم؛ لأنّه رأى الشريعة قد رُفِضَت، فجدَّ في رفع قواعد أصَّلها الجدّ صلى الله عليه وآله وسلم »[19].
وقال الغزالي: «وقد أجمع أئمّة المسلمين على أنّ تقاليد الإسلام في الحكم قد تحوَّلت عن مجراها الرشيد على عهد معاوية وأُسرته، ثمّ التاث أمر الدين واضطربت مصالح الناس، ووُجِدَ من حكّام المسلمين مَن سبق ملوك الكفر في سكرتهم وعمايتهم؛ وذلك من سوء حظّ البشر قبل أن يكون من سوء حظّ المسلمين، وحكم الإسلام في دفع أُولئك الجبّارين لا يحتاج إلى مزيد من البيان والتكرار»[20].
وقال العلايلي: «الذي ثبت لمفكري المسلمين أن بني أُمية أداة فساد، وفي طبيعتهم بعث الحياة الجاهلية بكل أشيائها وألوانها»[21].
ثانياً: لو تنزّلنا عمّا سبق وسلّمنا بالعموم لكل موارد الضرر في أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا أنّه يمكن القول بتخصيص هذا العموم بفعل المعصوم عليه السلام بنفس البيان السابق، حيث يُدّعى أنّ فعل المعصوم يكون مقيِّداً للإطلاق.
المبرّر الثاني: الجهاد في سبيل الله
من المبرِّرات المهمّة التي استُدلَّ بها على مشروعية النهضة الحسينية ما دلَّ على الجهاد كقوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)[22]، وقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[23]. قال العلّامة في معرض كلامه عن حكم الهدنة: «والهدنة ليست واجبة على كل تقدير، سواء كان بالمسلمين قوّة أو ضعف، لكنّها جايزة؛ لقوله تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[24]... بل المُسلم يتخيَّر في فعل ذلك برخصة ما تقدّم وبقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[25]، وإن شاء قاتل حتى يلقى الله شهيداً بقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)[26]، وبقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً). وكذلك فعل سيّدنا الحسين عليه السلام ، والنفر الذين وجَّههم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذيل وكانوا عشرة فقاتلوا مائة حتى قُتلوا، ولم يغلب منهم أحدٌ إلّا حبيب؛ فإنّه أُسَر وأقبل بمكة وهادن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »[27].
نعم، خالف المحقِّق الكركي وصاحب الرياض فذهبا إلى وجوب الجهاد لا جوازه، كما ذهب إليه العلّامة الحلّي[28].
المبرِّر الثالث: النصوص الآمرة بالخروج على الجائر
قد وردت أحاديث تحثّ على الخروج على الحاكم الظالم لردعه، وقد تمسّك الإمام الحسين عليه السلام بمثل هذه الأحاديث كالحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي احتجّ به الحسين عليه السلام لمّا لقي الحر وأصحابه قائلاً: «أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرَم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ، كان حقّاً على الله أن يُدخله مُدخله»[29].
وهناك أحاديث أُخرى مروية من طرق الجمهور في صحاحهم، من قبيل: ما رواه أبو داود، عن خالد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «إنّ النّاس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشَكَ أن يعمّهم الله بعقاب»[30].
إلّا أن هذا المبرّر يمكن إلحاقه بالأوّل، ولا يُعدّ أمراً مستقلّاً في نفسه؛ لدخوله في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّه مع ذلك يمكن إفراده بالاستقلال؛ لأنّه منصوص عليه بعنوانه، وهو (الخروج على الجائر).
المبرِّر الرابع: الدفاع عن النفس
يتألف هذا المبرِّر من كبرى وصغرى، أمّا الكبرى فمفادها أنّ حقّ الدفاع عن النفس أمرٌ مكفول في جميع الشرائع والقوانين الوضعية. وأمّا الصغرى فمفادها أنّ موقف الإمام الحسين عليه السلام تجاه الحكومة الأُموية كان في بعض صوره موقفاً دفاعياً عن النفس؛ وذلك لأنّه کان مهدّداً بالقتل عندما دعاه والي المدينة لمبايعة يزيد، هذا أوّلاً. وثانياً: إنّما ترك الحسين عليه السلام مكّة وحوّل عمرته إلى مفردة وخرج منها يوم التروية؛ لأنّه كره أن يُقتَل فيها فتُنتَهك بذلك حرمة البيت، وهذا ما يؤكِّده قوله عليه السلام : «وأيم الله، لو كنتُ في جحر هامَّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم، والله، ليعتدن عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت»[31].
وفي الدر النظيم: «وحدَّث جعفر بن سليمان، قال: حدَّثني مَن شافه الحسين عليه السلام بهذا الكلام، قال: حججت فأخذتُ ناحية الطريق أتعسّف الطريق، فوقعت إلى أبنية وأخبية، فأتيت أدناها فسطاطاً فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: للحسين بن علي صلوات الله عليهما. فقلت: ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: نعم. قلت: فأيّها هو؟ فأشاروا إلى فسطاط. فأتيته، فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط، وإذا بين يديه كُتُب كثيرة يقرأها. فقلت: بأبي أنت وأُمّي! ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا منفعة؟ قال: إنّ هؤلاء [يعني السلطان وأتباعه]أخافوني، وهذه كُتُب أهل الكوفة إليَّ، وهم قاتلي لا محالة»[32]. وقال له أبو هرة: لماذا تركت حرم الله وحرم جدّك؟ فأخبره الإمام عليه السلام بأنّ بني أُميّة أخذوا أمواله فصبر، وجرّعوه الغصص وصبر، وهم الآن يريدون قتله وإهراق دمه وانتهاك حرمة البيت، وإنّه لن يصبر على ذلك.
ولا شكّ في أنّ مشروعية الدفاع عن النفس ثابتة من الناحية الكبروية كتاباً وسنّةً وعقلاً وسيرةً عقلائية ومتشرعية، ومن الناحية الصغروية باعتبار أنّ حياة الإمام الحسين عليه السلام كانت مهدَّدة بالخطر كما اتّضح آنفاً.
الكاتب: د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الحادي عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
_______________________________________
[1] إنّ التعرّض لهذه المبرّرات مبني على الرأي القائل: بأنّ خروج الإمام عليه السلام قابل للتكييف الفقهي ضمن الأدلّة والقواعد الشرعية المقرَّرة فقهياً، كما هو مذهب جماعة. اُنظر: الحلّي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج2، ص974. الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام: ج 3، ص 83. الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج3، ص466. الطباطبائي، علي، رياض المسائل: ج1، ص494.
وأمّا بناءً على الرأي القائل بأنّ خروج الإمام عليه السلام لأجل تكليف خاص به كما ذهب إليه صاحب الجواهر فلا معنى للكلام عن المبرّرات والأدلّة حينئذ، وهذه جهة أُخرى في البحث تحتاج إلى دراسة مستقلّة. النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام: ج21، ص295.
[2] الذي هو في نفسه من أعظم المنكرات الواجب تغييرها.
[3] ابن نما، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص14.
[4] المصدر السابق: ص31.
[5] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص34.
[6] المصدر السابق.
[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج 44، ص329.
[8] المصدر السابق: ص328.
[9] النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام: ج21، ص 368.
[10] الأعراف: آية164.
[11] الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج 13، ص 248.
[12] المصدر السابق: ص249- 250.
[13] لجنة من الفضلاء بإشراف السيّد محمود الهاشمي، موسوعة الفقه المقارن: ج3، ص249.
[14] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج 4، ص303.
[15] اُنظر: السبحاني، جعفر، سيرة الأئمة: ص204.
[16] الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج13، ص267.
[17] اُنظر: الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة: ج1، ص473. الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق: ج13، ص247. المنتظري، حسين علي، الأحكام الشرعية: ص 369.
[18] الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة: ج1، ص472.
[19] ابن الجوزي، عبد الرحمن، التّبصرة: ص224.
[20] الغزالي، محمد، الإسلام والاستبداد السياسي: ص43.
[21] العلايلي، عبد الله، سمو المعاني: ص28.
[22] البقرة: آية 190.
[23] التوبة: آية 123.
[24] الأنفال: آية 61.
[25] البقرة: آية 195.
[26] البقرة: آية 190.
[27] الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب: ج 2، ص974.
[28] اُنظر: الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج 3، ص466. الطباطبائي، علي، رياض المسائل: ج1، ص494.
[29] الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول: ص505.
[30] أبو داود، سليمان، السنن: ج2، ص323، رقم 4338.
[31] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص38.
[32] الزرندي، محمد بن يوسف، نظم درر السمطين: ص214.
اترك تعليق