نقف اليوم على أعتاب ذكرى وولادة علي الأكبر، لكي نتذكَّر ونتأمَّل فيها رموزنا، أولياءنا الصّالحين، ولاسيما ان وظيفة هذه الذكريات هي أن تجعلنا نقف وقفة تأمّل في أوضاعنا؛ اذن ما هي المسافة التي تفصلنا عن صاحب الذكرى؟.
صاحب الذكرى اليوم هو عليّ الأكبر، "أبو الحسن" ابن الامام الحسين بن علي بن ابي طالب "عليهم السلام" . الذي رسمت صورته الحقيقية في كلّ آية من الآيات والصفات التي نزلت بالنبي الاكرم محمد" صلى الله عليه واله" .هذه الصّورة التي ربما نجد اليوم أنّنا نحتاج إلى أن نعيد قراءتها من جديد، نحتاج إلى أن ندقّق في تفاصيلها، فربما بفعل التّاريخ، دخلت جزئيّة من هنا ليست من علي الأكبر في شيء، أو صفة من هناك لا ترقى إلى أن تكون في مستوى صفة من صفات علي الأكبر، الإنسان الرّحيم الّذي يشرق بسلوكه قبل كلامه على العالم كلِّه، وعلى الأعداء قبل الأولياء.
تختلف الرّوايات التاريخية حول تاريخ ولادة عليّ الأكبر "عليه السلام" فبينما البعض تشير أنّها كانت في العام 33 للهجرة [1]، أي قبل مقتل عثمان بن عفان بسنتين، ويقدِّمون الأدلّة على ذلك، بينما البعض الاخر تؤكد انها كانت في العام 35 للهجرة، أو 41 للهجرة[2]. وبناءً على التَّاريخ الأوّل، يكون قد عاش في حياة جدّه امير المؤمنين علي "عليه السلام" سبع سنوات تقريبًا. أمّا مكان ولادته، فكان في المدينة المنوّرة دون اختلاف في ذلك[3].
وكذلك تختلف الروايات التاريخية حول زواجه والأولاد اذ يذكر البعض أنّه كانت له زوجة، وأنّه أنجب منها ولدًا، مستندين إلى ما ورد عن أبي حمزة الثّمالي عن الإمام الصّادق "عليه السلام" أنّه قال في زيارته "صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك وأمَّهاتك الأخيار والأبرار" [4] أي كان علي الاكبر متزوجاً وله ذرية. ولكن ذهب البعض الى نفي ذلك وأنّه لم يتزوّج ولم ينجب، وأنّه استشهد وليس له عقب، وأنَّ العقب الوحيد للإمام الحسين "عليه السلام" كان من ولده الامام زين العابدين "عليه السلام" وأما علي الأكبر فاستشهد مع أبيه في كربلاء، وليس له عقب[5] .
في الوقت نفسه، قالوا عن سماته انه كان معتدل القامة عريض المنكبين، ابيض اللون مشروب بحمرة، اسود العينين كث الحاجبين، اذا مشى كأنه ينحدر من الأرض، يلتفت بتمام بدنه، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، وتفوح منه رائحة المسك والعنبر[6]، وحينما خرج الأكبر للقتال يوم عاشوراء، قال الإمام الحسين : "اللّهمَّ اشهدْ على هؤلاء القوم، فقد برزَ إليهم غُلامٌ أشبهُ النّاسِ خَلْقَاً وخُلُقاً ومَنْطِقاً برسولك، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك، نظرنا إليه"[7]. ثم قال "قَتَل اللهُ قَوْماً قتلوك ما أجْرأهُم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرْمَةِ الرّسول"[8]
اذن السؤال الذي يطرح نفسه هو، أين نحن من علي الأكبر؟! أين أخلاقنا، عقلنا، سلوكنا، منهجنا، نظمنا، اجتماعنا والمساواة والإخاء الانساني... أين كلّ ذلك من هذه الصّورة التي أراد تجسيدها يوم العاشر من محرم ، يمكن القول ان كل ما نتوخاه من علي الاكبر هو بكل بساطة أن نستحضر هذه القيم التي جسدها، لتكون حاضرة أمام عين العقل، وان تخلي الانسان عن قيمه يفقده معنى وجوده في مجتمعه وفي الحياة ، بل يفقد هويته الذاتية. وان ما تنصت عليه التعاليم السماوية هو أن يكون الفرد هو ذاته أينما كان وأن يجتهد في صنع القيم الايجابية وأن يعمل على توكيدها. هذا ما اشار اليه الله "عزوجل" في كتابه الكريم عن كلّ حركة من حركات أَوْلِيَاءَهُ وانبياءه تكون كنموذج اذ قال :﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِير﴾ [9]
وعليه، ان مسؤوليتنا هي لا تقلّ أهمية عن سلوكنا الفرديّ لصورة علي الأكبر "عليه السلام"، لا بدّ للمجتمع الاسلامي من أن يجسّد صورة علي الاكبر في علاقاته الاجتماعيّة إذا كان علي الأكبر "عليه السلام" يتصدَّق على الفقير، فلا بدَّ من أن تتحوَّل الصدقة على الفقير إلى نظام، لا بدَّ من أن تتحوَّل إلى حالة مؤسّسية تمتدّ ما امتدّت الحياة في المجتمعات، وتحوّل التكافل الاجتماعي إلى حالة دائمة مستمرّة، وتعطي زخمها بطريقة منظّمة.
وكذلك لا بدَّ من أن تكون سياستنا على صورة نموذج علي الأكبر في سياسته، لا سياسة اللّفّ والدّوران والعبث لأجل المنافع الشخصيّة والأطماع الذاتيّة، وإنما سياسة العدل ورفض الظلم والطغيان وهذا ما يؤكده في قوله "عليه السلام" يا أبتَ، ألَسنا على الحق... إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموتُ علينا " ، فأجابه الإمام الحسين "عليه السلام" قائلا: "جَزَاك اللهُ مِن وَلدٍ خَير مَا جَزَى وَلَداً عن والِدِه" وذلك أن يكون التَّعاطي والوقوف بوجه الظالم ونصرة الحق بهذا المستوى.
دعونا نتعلّم من علي الأكبر الثبات وإظهار المعتقد والدفاع عن حق أو بيان الحقيقة والمحبَّة، ونعرض عن تعلّم الحقد، لأنَّ هناك الكثير من الناس يعلّموننا الحقد، وان يبقى القلب المفتوح هو الذي يحبّه الله "عزوجل". وهناك كلمة للإمام الصّادق "عليه السلام" يقول فيها :"هل الدّين إلا الحبّ"[10]، فأصل الدّين هو هذا القلب المفتوح الذي يحبّ الله "عزوجل" فيحبّ الناس من خلال محبّته لله ، ولنقتد بعلي الاكبر "عليه السلام" وهذا لا يكون فقط بأن نذهب إلى كربلاء لزيارته، بل بأن نقف أمامه ونفكر كيف كان قلبه ممتلئاً بحبّ الله وبحبّ النّاس وثابتا على الحق كما في قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ .
جعفر رمضان
[1] للمزيد من التفاصيل ينظر. ابو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبين، تحقيق: أحمد صقر، بيروت مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1408 ه(،ص86؛ محمد بن طاهر السماوي ، فرسان الهيجاء، ترجمة: عباس جلالي، (قم : انتشارات زائر، 1381 ش) ، ص61
[2] للمزيد من التفاصيل ينظر . ابن عساكر مدينة دمشق "ترجمة الامام الحسين"، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، (قم: مجمع احياء الثقافة الاسلامية، 1414)
[3] ، جعفر بن محمد ابن نما الحلي ، مثير الأحزان، تحقيق: علي كرمي،( قم - نشر حاذق،1380 ش).
[4] جعفر بن محمد ابن قولويه، كامل الزيارات، تحقيق وتصحيح: عبد الحسين الأميني، النجف الأشرف: دار المرتضى، 1356 ش).
[5] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، (بيروت :دار الفكر، د.ت)،ج5، ص211؛ أحمد بن إسحاق اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي، تحقيق محمد إبراهيم آيتي،( طهران : انتشارات علمي وفرهنگي، 1378 ش)،ج2، ص184.
[6] محمد بن طاهر السماوي، ، فرسان الهيجاء، تحقيق: عباس جلالي، (قم : انتشارات زائر، 1381 ش)، ص293-294.
[7] الموفق بن أحمد الخوارزمي، مقتل الحسين، تحقيق: محمد السماوي،( قم : أنوار الهدى، 1418 هـ)،ج2، ص34. ؛ ، علي بن موسى ابن طاووس ، اللهوف، تحقيق: عقيقي بخشايشي، (قم : دفتر نشر نويد اسلام، 1378 ش)، ص139.
[8] محمد بن محمد المفيد، الإرشاد، تحقيق محمد باقر الساعدي، (طهران :انتشارات اسلامية، 1380 ، ، ج 2، ص 106
[9] سورة الاحزاب ،الآية 21.
[10] محمد الريشهري ،ميزان الحكمة، (قم: دار الحديث -، 1422ه) ، ج 4، ص 3643.
1 تعليقات
-