الفن وظلال العقيدة الإسلامية..

يتجسد في ميدان العمارة الاسلامية العامل الروحي تجسيداً واضحاً وفق آلية عمل هندسية بحتة تقوم على أساس الارتباط بالمطلق، والمساجد هي خير ما جسد ذلك حيث اقتصر على طابع الجلال ومؤثراته الروحانية، وذلك مروراً بتأسيس مفاصل المدينة العربية الاسلامية و تشييد قصور السلاطين والامراء فيما بعد.. فلو تأملنا اول مسجد شيده المسلمون لوجدنا انه قد ضمَّ بعض العناصر الأساسية مثل  الصحن والمصلى والمحراب والمنبر، التي توسعت لاحقاً لتشمل المآذن والاقواس والمحاريب ومن فوقها القباب والنقوش المختلفة المزينة لها وما إلى ذلك .

لقد كان لهذه العناصر انعكاسات واضحة تجلت في شكل الطراز العربي في المساجد والابنية الاخرى حيث الاعتماد على القبة التي ترمز إلى السماء وقوتها الحافظة، والاقواس والحنيات التي تجعل السقف يبدو كأنه جزءاً من الجدران فيشعر الانسان انه يعيش داخل ذاته، بينما السقف المزين الذي يترك الشعور بالاستقلال والطمأنينة، وايضاً الاعتماد على الصحن الداخلي المفتوح نحو السماء الذي يهب للحاضر فيه الطقس اللطيف والشعور بالتعالي والاندماج بالكليات دون الجزئيات.

ان خطة المدينة الاسلامية عمارة لا تقوم على التناظر والشوارع المتعامدة المستقيمة، كالتي هي في مدن الحضارات الاخرى، وانما تنحني وتتعرج شوارعها وازقتها وتكثر فيها التفرعات والالتواءات والبوابات لأغراض بيئية واخرى دفاعية، بما يحقق مبدأ الحركة ويعطي المدينة ايقاعاً جمالياً خاصاً في نسيجها العمراني.. لتكون بيوتها واحيائها كلاً واحداً كالجسد الانساني، وهذا الوعي الجمالي في التخطيط العمراني ينبثق من صميم الفكر الإسلامي انطلاقاً من قول الرسول الاعظم صلوات الله عليه واله: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )).

ان هذه الرموز التي تؤكد الوظيفة الروحية للمسجد كان يمكن ان تكون مجردة من أي فن، غير ان الفنان المسلم وجد فيها حيزاً مناسباً لتوزيع عناصر تعبر عن الجمال المحض والمعاني السامية، فلم يجد امامه الا اثراء هذا الحيز بالرقش والخط مبتعداً عن تصوير المواضيع النسبية والتي تخدم اغراض دنيوية مادية، فالمعمار العربي يعبر عن سعيه للوصول إلى عالم الغيب في محاولة ناجحة منه للارتباط الوثيق بأغراضه الوجدانية وبنظرته للحياة الدنيا بانها دار فناء وليست بدار بقاء، فتجاوز بذلك واقعها المضمحل والزائل للتقرب من المطلق المتمثل بالله جل وعلا .

تعد الزخرفة الاسلامية بتأثيراتها الروحية عند المسلم بعداً ادائياً له دلالته الرمزية في التكرار اللانهائي وفي تجريداته وطبيعته الحسابية والهندسية،  وذلك عبر الاشكال الرياضية المتمثلة  بالمثلث والمربع والمسدس وطريقة تلاحمها.. فالمربع هو الشكل المسطح الأول بالنسبة للمسلم كونه يحقق علاقات متوازنة ومتكاملة بالنسبة لنقطة المركز، فهو يشكل رمزاً للتوازن والاستقرار من حيث العلاقة بين الخطوط المستقيمة الأفقية والعمودية والمحكومة بإرادة المركز، والمربع ايضا يرمز الى الكعبة المشرفة عند الفنان المسلم لذا اخذت النقطة التي تمثل في منظور الذهنية الإسلامية المركز الذي تنطلق منه الأشعة وتتجمع فيه تيمناً بها.

 اما الدائرة فهي شكل تتوحد وتتماثل فيه العلاقة بين النقطة وبين اجزاء الخط المرتسم حولها، فهي الشكل الذي يرسمه المسلمون في دورانهم حول النقطة (المركز ــ المربع ــ المركز الرمزي الكعبة) وهو أيضاً الشكل الذي يرسمه المسلمون في تراصهم في الصلاة نحو الكعبة، وهكذا فان توحد المربع النموذج الأولي في عالم الاشكال في النموذج النهائي (الدائرة) انما يمثل وحدة هذا الوجود ويرمز إلى تواتر الموت والحياة.

وعلى الرغم من ان ظهور الزخرفة لم يكن على يد الفنانين المسلمين الا ان الفنان المسلم قد اعطى كينونة لهذا اللون من الفن الرائع، حيث طور اشكاله الزخرفية المقتبسة من الطبيعة وجردها من ملامحها وعمد الى إحداث التكرار في اجزائها لتوليد الحركة التي تعطي طابع الاستمرارية وتوحي باللانهائية لتحقيق المبتغى، فلو اطلعنا مثلاً على الزخرفة النباتية بتحويرها للطبيعة لوجدنا انها تجعل من الوحدات الزخرفية رموزاً لها، وإذا سلمنا بانها تصوير للطبيعة فهي اذن عملية نفوذ من الاشكال الظاهرية إلى المضمون الجوهري الحقيقي في ارتباط وجودها بالله كنظرة ذاتية تؤمن بالتوحيد وبسلطان الألوهية فوق قوة البشر.

إن اتجاه الفنان المسلم إلى الزخرفة المجردة يمثل شكلاً من اشكال الفكر الديني السائد، فهو يعبر من خلال الزخرفة عن الفكرة المطلقة التي كانت محور الكون والتي كان لابد للعمل الفني من ان يظهرها،  فالعناصر النباتية والهندسية ما لبث ان جرّدها الفنان المسلم من طبيعتها لتعبر عن الفكرة التي ارادها، اذ كانت الاشكال الزخرفية ومازالت تخلق توازناً مثالياً عند التعرض لها عبر التكرار البسيط لعناصرها التي يمكنها تحقيق استمرار التكرار في المخيلة بسبب عدم انغلاقها وصولاً الى ما لا نهاية لتخلق شعوراً بالنظام اللامتناهي وارتباطه بالخالق سبحانه .

اضافة الى ما تقدم فقد كان ارتباط الاشكال الزخرفية النباتية واضحاً بالجنان التي وعد الله بها المتقين، وهي بذلك تعد احدى المحركات لدفع المسلم للتفكر والتفاعل مع علة الوجود، ومن الناحية العملية فان الزخرفة الهندسية تقوم على المربع والدائرة كعناصر اساسية يمكن ان تتوالد منها اشكال هندسية اخرى وبلا حدود.. وان التركيز على الدائرة له مرجعيات فكرية مختلفة، فهي عند البعض تمثل الشكل الهندسي الأكمل وترمز إلى كمال الخلق الالهي ورمز الوجود لعودة الانسان على مدى حياته إلى النقطة الاساسية التي انطلق منها : ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)).. وبذلك فهي ترمز إلى الإحاطة التي اختص بها الله سبحانه على سائر الموجودات فهي ترمز ايضاً إلى الافاضة الربانية والمركزية في الكون لأنها شكل مستوي محدود بخط منحني وجميع نقاطه على ابعاد متساوية من المركز.

ان هذه المفاهيم التي نلمسها في الزخرفة تقدم صيغة في التعبير الجدلي يوفق بين عالمين متناقضين هما عالم الحس وعالم المطلق.. وقد غالى الفنان المسلم في التنوع والتعدد وعلى وجه الخصوص بعد توظيف الحروف العربية بما يخدم الرقوش والزخارف المختلفة، مما ينقل المتأمل من مرحلة الاغراق في الحس إلى السمو في التأمل لتخرج الاشكال بذلك ( في نظر المتلقي المتأمل ) عن جمودها لتظل الزخرفة على اختلاف انواعها تسبيحاً للخالق مع تلك الموسيقى الصادرة عن الاشياء والتي تعبر عنها الحركة الزمانية التي تمثل الديمومة والاستمرارية في حركتها اللانهائية والتي تدفعنا للعودة الى الله الخالق المبدع لا شعورياً .

اعداد: سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات