كيف نولد بولادة علي ابن ابي طالب (عليه السلام)؟

عندما نقرأ في تاريخ عليّ بن ابي طالب(عليه السلام) نجد أنّه أول ما فتح عينيه على الحياة في الكعبة المقدسة، فقد ولدته أمّه فاطمة بنت اسد في قلب الكعبة، يبدو ان هذه الولادة تعطي الفكرة والإيحاء في مستقبل هذا الوليد الطاهر، لأنه احتضنه بيت الله تعالى .

كذلك يؤكد لنا التاريخ ان النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) لم يكن معه إلا عليّ بن ابي طالب اذ نضج بالنبي الاعظم عقلاً من عقله، وروحاً من روحه، وابتهالاً من ابتهالاته، كان معه يلازمه حتى إذا جاء الوحي وسمع رنّة الشيطان، وسأل عليٌّ  النبي الاعظم ما هذه الرنّة؟: قال له: إنها رنّة الشيطان[1]، أي صرخته، لأنه أيس من أن يُعبد عندما جاءت الرسالة. ورأى الوحي ينزل، فقال له النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) :"إنَّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلّا أنَّك لست بنبيّ، ولكنَّك لوزير، وإنَّك لعلى خير"[2].

نستنتج من ذلك ان الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام) كان أوَّل بيت في الإسلام..

أي عندما اعلن النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) الرّسالة، حفظها الامام عليّ في عقله وقلبه، لأنه كان واثقاً بأن القلب والعقل قد بلغ من النضج بحيث يمكن له أن يفهم معنى الرسالة ويقتنع بها ويلتزمها، وهذا ما اشار اليه الامام بقول: "لم يجمع بيت واحد يومئذٍ غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"[3]. بل تؤكد مصادر التاريخية ان النبي الاكرم عندما يذهب للصَّلاة في المسجد الحرام، كان الامام عليّ خلفه، وام المؤمنين خديجة ثالثتهما تقف خلف عليّ. ومرّ أبو طالب( عليه السلام)، وقال لولده جعفر: صِل جناح عمِّك[4]. نستنتج من ذلك ان الامام علي انتقل من بيت الله طفلاً وليداً، إلى بيت النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) الّذي هو بيت الله، بيت وحيه، لأنّه البيت الذي تنزل فيه الملائكة ويتحرّك فيه الوحي. وكان يجلس إلى  النبي الاكرم في اللّيل والنهار وكان يقول (عليه السلام): "ما من آيةٍ نزلت في رجلٍ من قريشٍ ولا في برٍّ ولا بحرٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ، إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أيّ يوم وفي أيّ ساعة نزلت"[5]، وكذلك قال: "علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب"[6]، وعليه ان علم النبي الاكرم محمد(صلى الله عليه واله) كان عنده، ولم يكن مجرّد تلميذ يحفظ العلم، بل كان تلميذاً ينتج من العلم علماً.

أمّا جهاده، فلم يغب الإمام عليّ(عليه السلام) عن أية معركة كان فيها النبي الاكرم يرفع سيفه ضدّ الذين يرفعون سيوفهم في وجهه، وكان في كلّ موقع من مواقع الإسلام يتحرّك حيث النبي الاكرم محمد وينطلق حيث ينطلق.

عندما لم يسمح النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) بذهاب الى تبوك، شعر الامام عليّ بالغبن آنذاك، وأعطاه النبي الاكرم كلمته قائلا: "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي"[7].

وعاش الامام علي بن ابي طالب الكثير من مواقف الإسلام ومن آلامه، وكان يختزن في داخله حبّ الله تعالى كأعظم الحبّ، وكانت عبادته ودعواته تصعّد من عقله روحه وقلبه: " يا سيدي تعذبني وحبك في قلبي"[8]، "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرِّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"[9]. يبدو ان الامام علي (عليه السلام) كان يتحسّس لهيب النار، بل كان مستعداً أن يتقبّل العذاب، ولكنه لا يطيق مفارقة الله تعالى، أو يفارق كرامته.

وعليه يمكن القول نحن بحاجه الى من يعرفنا معنى الدنيا ومعنى الآخرة، لأنّ الدنيا تشغلنا وتتلاعب بنا وتنسينا الله تعالى وتنسينا الآخرة، وهذا ما اكده الامام علي في خطبته " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَداً حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ " [10]

يبدو ان المقصود من الهوى هي كلّ شهوات النّفس وكلّ هواها الذي ينطلق من غرائزها ومن نقاط ضعفها، ولا ينطلق من قاعدة تدلّ الإنسان على ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك وما ينبغي أن يحبّ وما ينبغي أن يبغض  وذلك ما اشار اله القرآن الكريم ﴿ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ  فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ  وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ  ﴾[11]

  وعليه عندما نلتقي الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام) في يوم مولده، فإننا نريد أن نولد بولادته، أن نولد فكراً في خطّ فكره، وروحاً في انفتاحات روحه، وجهاداً في كلّ امتدادات جهاده، وإخلاصاً لله مما يمكن أن يعمِّق إحساسنا بعبوديتنا لله تعالى، لأنّه كان عبد الله كأفضل ما تكون العبودية.

جعفر رمضان

 

[1] ابن أبي الحديد، شرح النهج،تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، (بيروت:1959) ، ج 13 ، ص 197.

[2] محمد عبده ، نهج البلاغة،(بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر ،د.ت) ، ص٤١٧

[3] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية ) ، ج ١٦ ، ص١٦

[4] علي بن محمد الجزري ابن الأثير  ،أسد الغابة في معرفة الصحابة، دمشق: دار ابن حزم ،2012)،ج1،ص341.

[5] محمد باقر المجلسي ، المصدر السابق ،ج ١ ،ص١٨٦

[6] علاء الدين علي بن حسام الدين ابن قاضي خان القادري ، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق: بكري حياني، (قم : مؤسسة الرسالة1981)، 6 ، ص 392.

[7] احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي ،الاحتجاج ، تعليق، محمد باقر الموسوي، (بيروت: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1981)، ج ١ ،ص ١٦٢

[8]  الكليني، اصول الكافي ، تحقيق محمد الاخوندي، (طهران: دار الكتب الاسلامية ،1363ش)، ج ٢ ص ٥٧٩.

[9] عباس القمي، مفاتيح الجنان ، قسم الادعية ، دعاء كميل .

[10] لابن أبي الحديد، المصدر السابق ،ج 1 ،ص 218،

[11] سورة آل عمران ، الآية 195.

المرفقات