الفن وتنمية الملكات العقلية..

اجمع اغلب علماء التربية والتعليم ان التربية القويمة تعمل بشكل فاعل على تغيير وتعديل سلوك المتعلم في مواجهة التسطيح الفكري، والعمل من أجل تنمية قيم الخير والحق والجمال والعدالة والسلام والحقوق الإنسانية لدى افراد المجتمع، فهي تعمل على إعطاء الفرص لاكتشاف البيئة من حولهم والتفاعل معها ومع الأقران.. ومن ثم تنمية مداركهم في الإلهام والابتكار والعمليات العقلية المختلفة.

من هذا المنطلق اتجهت عملية التربية الحديثة نحو الاهتمام بالبناء المعرفي والوجداني والاجتماعي و المهاري للطلبة المتعلمين تبعاً لقدرات كلٍ منهم، مع تقديم حلول لمشكلاتهم الحياتية والعملية والتي تواكبها الاتجاهات الجديدة في طرق التدريس وأساليب التعلم والوسائل والوسائط التعليمية والأدوات والأنشطة،  والتربية الفنية لا تقل عن غيرها من المواد الدراسية المؤثرة على سلوك الطلبة وثقافتهم.. فهي احدى سبل تهذيب النفوس وتنمية الملكات العقلية والابتكارية إذا ما وضعت في مسارها الصحيح، وهي ترتبط بشكل مباشر بالعمليات الادراكية العلمية وتتيح للمتعلمين التمتع بالقيم الجمالية الموجودة بالثقافة والنمو الثقافي مع المحافظة على التراث الإنساني، وبالتالي المساعدة على تشكيل شخصية المتعلمين والحكم على الأشياء من خلال إعداد وتصميم وتقديم العمليات الإنتاجية الإبداعية.

ان علاقة الإنسان بالفن تبدأ منذ الطفولة وداخل الأسرة باعتبارها النواة الأولى والأساس في التربية والتوجيه وتتعمق تلك العلاقة في المدرسة لتأخذ حيزاً أوسع وفكراً أشمل ورؤية جمالية لكل شيء، يقودها منهج متكامل للتربية الفنية مواكب للحداثة والتطور التكنولوجي ممـا يعـزز تعاليـم الجمـال عند الطالب، فالتربية الفنية تسهم بمجالاتها المختلفة في تنمية قدرات الفرد المتعلم المرتبطة بالملاحظة والإدراك والتمييز بين المثيرات الحسية واللمسية والبصرية، كما تلعب دوراً هاماً في الإيضاح العلمي والفني لمفاهيم الكلمة و الشكل واللون والحجم والكتلة والعمق وقيم السطوح وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالتشكيل البصري، إلى جانب الفكر التربوي المساير للتطورات العالمية المرتبطة بالتقدم العلمي في جميع جوانب الحياة والتي تحكمها الوظيفية، فقد ظهرت على الساحة الفنية مفاهيم جديدة  واتجاهات حديثة  تهتم بتحديث الفكر التربوي لها.. فبدلا من اعتبارها مادة لإنتاج أعمالا فنيه جمالية فقط، أصبح مفهومها مرتبطا بالسلوك والوظيفية، من خلال التربية عن طريق الفن، حيث تهتم بالبنية السلوكية الإيجابية من خلال دارسة المجالات الفنية و ممارسة العمليات الإنتاجية للفن، وذلك يدعو للاهتمام بمراحل النمو السلوكي والتربوي والفني للطلبة.

لقد تعرضت التربية الفنية الى كثير من النقد كونها – حسب اعتقاد البعض - مادة تعتمد على الموهبة فقط بعيدا عن العلم ولا تصبوا إلى مصاف المواد الدراسية العلمية الأخرى، لذلك اعتبرت مادة للنشاط والترفيه و لا تحظى باهتمام القائمين على التعليم بل حتى على اهتمام الطلبة وذويهم.. ولكن في الآونة الاخيرة فطنت الكثير من دول العالم، إلى أن الفنون وخاصة الفن التشكيلي، تتضمن مفاهيماً علمية ورياضية وتربوية وقيماً مستمدة من طبيعة الفن والعلوم الاخرى، فالعلاقة جلية بين العلم والفن وهذا بين من خلال ظهور المدارس الفنية المختلفة وعلاقتها بمدارس العلوم الإنسانية والنفسية .

ومع تقدم العلم وتمايز مجالاته وفروعه وتطورها، وانفتاح دول العالم على بعضها البعض وبالخصوص مع وسائل التواصل والتكنلوجيا الحديثة، وحدوث التبادل الثقافي بينها والتأثير والتأثر المتبادل بصورة لم يسبق لها مثيل، كان لابد أن ينتهي عصر المذاهب المغلقة ويبدأ عصر جديد يكون فيه التفكير إعمالاً للعقل الإنساني الجماعي بين الأفراد والمواد الدراسية والعلاقات بأسلوب منهجي موضوعي لحل إشكاليات طبيعية أو مجتمعية او وظيفية متعددة الأبعاد متنوعة الجوانب تحتاج لأفراد تتنوع تخصصاتهم، حيث تطورت التربية الفنية في فكر المدرسة التربوية الحديثة، وعمد القائمون عليها الى تطبيق العديد من المفاهيم الحياتية التي تساهم في تنمية الحراك الاجتماعي والفكري..

لتصبح المفاهيم الأكاديمية والنظرية موضع تطبيق في مجال التربية الفنية بشكل عملي والتي تنمي قدرات المتعلمين على كيفية استخدام وتوظيف المعلومات والخبرات في المجالات التطبيقية، وذلك من خلال العمليات التي يكتسب من خلالها المهارات اليدوية والعقلية التي يحتاجها، فيحل المشكلات التي تواجهه في مواقف الحياة اليومية.. كما يكتسب منها مهارات استخدام الموارد وترشيدها، والتعامل مع الأدوات والأجهزة التكنولوجية بدقة وسرعة وأمان.

وبذلك تكون التربية الفنية علم تطوري من علوم التربية لها مناهجها الخاصة التي تستقي أسسها وتنظيماتها من الأسس العامة للمناهج التربوية.. وما زالت تتطور بتطور الفكر التربوي وخصوصية تدريس المادة، حيث أن مادة التربية الفنية بمفهومها المعاصر تؤكد على استخدام الطالب لحواسه من أجل إدراك الجماليات في البيئة والطبيعة ومن ثم التطلع إلى العلوم الاخرى، مستفيداً من التاريخ والتراث الفني في انتاج التكوينات الفنية المختلفة والتعبير من خلالها عن الذات.. وبالتالي انعكاس تلك التربية وتلك الثقافة الفنية على نفسه وعلى حياته اليومية ومن ثم المجتمعية، فالإنتاج الفني هو التطبيق العملي للمهارات والتقنيات المتعلمة في المجالات الفنية المختلفة، حيث يتم تطبيق المعرفة ومزجها بالعناصر البصرية وأسس التصميم والاستعانة بالجماليات والخبرات التراثية من منتجات الفنانين باتجاهاتهم الفنية المختلفة، وايضاً الاهتمام بتطبيق مهارات الوصف والتحليل والتفسير والتقييم والاستعانة بها في ضمان ديمومة تنفيذ الأعمال الفنية الابداعية.

اعداد: سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات