الرسم هو قضية بصرية.. لا تتسع الا للبصريات والماديات التي تخلق البصريات، وهذا ما ادركته رسامة هذه اللوحة ونفذته باحترافية عالية.. حينما حولت فكرة الفناء في اعمالها الى معالجات لمواد صلبة، لاعتقادها ان الفناء يضرب الصلب المحسوس ليخلق إحساسا بفاعليته التدميرية، فكما يحاول الانسان تحويل فعل الزمن الى سرد او تاريخ ليعطيه ملموسية، فإن على الفنان ان يحاول انتاج العكس حينما يستخلص الاشكال من الصلب الذي تآكل بفعل فنائه إلى سرديات ورؤى فلسفية يعبر بها عن إحساسه تجاه التدمير الذي يطال الإنسان كما يطال المادة الملموسة متجها بها إلى الفناء..
اللوحة اعلاه من منجزات الفنانة التشكيلية العراقية هناء مال الله، والتي تعد واحدة من اهم رسامي جيل العقد الثامن في العراق، وهو الاسم الذي اطلقه نقاد الفن على الجيل الذي نضجِ في اتون حر ب الثمانينيات وبِدايات حرب الخليجِ الأولى، وهم مجموعة فنانين قرّروا البَقاء والدِراسَة، ومُزَاوَلَة فنونِهم في العراق منهم فاخر محمد وكريم رسن ومحمود العبيدي وهاشم حنون اخرين، وقد ادى تقييد حرية السفرِ والصعوبات الاقتصادية، وعدم الاستقرار الاجتماعي وَالنِزاع المُسَلَّحِ المستمرِ إلى عزلةِ خانقة أَثّرتْ على العمليةِ الابداعيةِ، فانعكسُت مواقفهم في أعمالِهم الفنية، حتى اعتبر هذا الجيل ( جيل الثمانينيات ) من وجهة نظر تأريخ الفن المُعاصر حركةَ فَنِّية فريدة أَو ربما مدرسة فنية ذات أهمية كبيرة.
بلا شك ان الحروب المتتالية التي شهدها العراق قد تركت ندوبا كبيرة داخل الفنان العراقي بشكل عام وعلى بحكم تماسه المباشر مع اثارها المدمرة، فأيقن الرسام العراقي أنّ الخرابِ جوهرُ الوجود او مآله الحتمي، وان الصلابة الموثوقة ممكن أَن تتحول الى لا شيء) خلال اجزاء من الثانية،
وهذا ما ترسخ في وجدان هناء مال الله وخلق عندها اليقين.. وذلك عبر الاستنتاج بأن الخرابِ هو اللحظة الحاسمة بين التشخيصِ والتجريدِ، بين الوجود والِفناء، وهو مفهوم تعتبره ذا معنى روحيَ عميقَ أيضاً، وايضاً تعتبر تقنيةِ الخرابِ هي نتاج الوجه القاتل للحرب، وهي ايضاً استعادة وإنتاج لفكرة الحرب وفعلها التدميريَ وفي هذا اعادة لإنتاج التجربة العميقة لحقيقة الحرب .
ولد هذا التكوين الفني عام 1996 م وهو يحمل فلسفة خاصة بالفنانة للحرب والدمار وجمع شتات الاشياء .. وقد نفذ بمادة الزيت على القماش باختزال كبير في الدرجات اللونية يكاد ينحصر بدرجتين او ثلاثة على الاكثر، ففي ذات الوقت الذي تعكس فيه الاشكال مناخا لونيا منسجما فأنها قائمة على اساس التضاد اللوني ومقسمة الى مساحات هندسية صغيرة تحوي خلالها على مجاميع من العلامات الأيقونة وكأنها لعبة اكمال الاشياء التي تكون في الغالب صورة لأشياء مقطعة ، ولكن تجميع هذه المقاطع المجردة تتكون اخيرا بصورة شيء محدد مشخص.
ذهب موضوع هذا العمل الفني الى ابعد من ذلك فالرموز والعلامات المستخدمة غير مكشوفة الدلالة، فضلا عن تقسيمها الى اجزاء اخرى بغية الدخول الى عالم اكثر تجريدية، فالبحث عن تجريد المجرد كان نتيجة الزحام الايقوني في محاولة ذكية من الرسامة لخلق عوالم ذاتية الرؤية لا تكشف الا عن خطاب الفنان.. وعليه فأن نتيجة هذا العمل لم تحدد معالم مرجعيته بسهولة من خلال القدرة على عدم اعطاء فكرة الموضوع نفسه بسهولة، وبقي عائما منفتح الدلالة على كل الاحتمالات فهناك ايقونات قد تبدو ذات دلالة شرقية او حتى عراقية لها علاقة بالتاريخ او التراث المحلي لكنها تشكلت بصورة مجردة تذهب باتجاه عوالم ما ورائية قد تكون من صنع اللاوعي وهذا ما يجعل من مرجعية الاشياء تكون في سباق استعاري وفق مرجعيات متنوعة، فيبدو ان الهدف هو تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ لخلق بيئة جديدة فنية لطرح جانبا نسقيا له علاقة بحكاية ما، لكنه يخرج من بوابة التجريد الى متسع من التأويل والتعبير بعيداً عن هوية المكان.
فلاشك ان تبسيط المبسط واختزال المختزل وتحطيم العلاقة لخلق انظمة بصرية جديدة داخل اللوحة ، ما هو الا باب جديد لخلق بيئة لكل مجرد وهذا من دواعي التحديث في الريادة الشكلية والتحول في الحركة الرمزية وتوظيف المجردات لخلق بيئة فنية داخل حركة الرسم الحديث ذات مرجعية غربية قد تساندها اخرى شرقية دون الذهاب بعيدا عن حركة الايقونات في التاريخ والعالم لتدخل ضمن النسق الريادي في الحركة الجمالية للرسم في العراق والعالم على حد سواء.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق