السيد محمد المجاهد .. عالم على صهوة الجهاد

لعل من أقل الوفاء منّا استذكار سيرة ومواقف العلماء الأعلام الذين أثروا تاريخ كربلاء بعلومهم, وتركوا بصمات واضحة في سجل تاريخها بمواقفهم, وأفنوا حياتهم في خدمة الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين (ص) وساروا على نهج أئمة الهدى المعصومين (ع), وساهموا مساهمة كبيرة في جعل كربلاء مركز إشعاع ونقطة مضيئة في العالم الإسلامي, حتى وصلت في مراحل مختلفة من تاريخها إلى أن تضاهي النجف الأشرف, وتكون عاصمة العالم الشيعي الإسلامي, كما حدث ذلك في الإنعطافة التاريخية في ثورة العشرين التي فجّرها الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي (قُدِّسَ سرُّه الشريف).

من هؤلاء العلماء الأعلام السيد محمد الطباطبائي الملقب بـ (المجاهد) الذي تفرع من سلالة العلم والمجد وسار على طريق آبائه وأجداده في نشر العلم والدفاع عن الدين الحنيف, فهو السيد محمد المجاهد ابن السيد علي بن محمد علي بن أبي المعالي الصغير ابن أبي المعالي الكبير الحسني الطباطبائي الحائري الكربلائي.

كربلاء .. الإشراق والبزوغ 

ولد السيد محمد المجاهد في كربلاء سنة (1180هـ ــ 1766م) ونشأ نشأة علمية بامتياز في ظل هذه الأسرة العلمية وفي كنف والده السيد الأجل العالم والفقيه علي الطباطبائي صاحب كتاب رياض العلماء (1161ــ 1231هــ) الذي كان من أجلاّء تلامذة الوحيد البهبهاني, وقد انتهت إلى السيد علي رئاسة الحوزة العلمية في كربلاء وكان من أساطين العلماء.

قال عنه حجة الإسلام السيّد محمّد باقر الإمامي الأصفهاني في كتابه مطالع الأنوار في شرح شرائع الإسلام: شمس فلك الإفادة والإفاضة, بدر سماء المجد والغر والسادة, محيي قواعد الشريعة, مقنن قوانين الملة البيضاء فخر الدين, ملاذ العلماء ملجأ الفقهاء الكاملين.

وقال عنه السيد محسن الأمين أعيان الشيعة: هو المحقق المؤسس الذي ملأ الدنيا ذكره وعم العالم فضله تخرج عليه علماء أعلام و فقهاء عظام صاروا من أكابر المراجع في الإسلام.

أما أم السيد محمد المجاهد فهي السيدة الجليلة الفاضلة آمنة بنت محمد باقر بن محمد أكمل المعروف بالوحيد البهبهاني العالمة الفقيهة التي يقول عنها السيد حسن الأمين في مستدركات أعيان الشيعة: من أفقه نساء عصرها متكلمة واعظة أصولية محققة محدثة جليلة. تزوجت من ابن عمها السيد علي الطباطبائي وأنجبت له ولدين هما السيد محمد, والسيد مهدي.  

وهي أخت السيد محمد إسماعيل بن محمد باقر الوحيد البهبهاني خال السيد محمد المجاهد الذي يقول عنه محمد علي آزاد الكشميري في كتابه نجوم السماء في تراجم العلماء: العالم الفاضل الكامل النبيل المقدّس الزاهد الصالح الجليل. كما ترجم له السيد الأمين في أعيان الشيعة.

الأسرة العلمية

يرجع النسب الشريف لهذه الأسرة إلى إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب (ع) وعرفوا بلقب الطباطبائي ومعناها باللغة النبطية (سيد السادات) كما نقل ذلك السيد النسابة جعفر الأعرجي الحسيني الكاظمي عن أبي نصر البخاري في سر السلسلة العلوية.

درس السيد المجاهد إضافة إلى والده على يد السيد العلامة بحر العلوم السيد محمد مهدي بن السيد مرتضى بحر العلوم وقد تزوج ابنته التي أنجبت له ثلاثة أولاد هم: السيد حسين, والسيد حسن, والسيد جعفر.

غزو الوهابيين كربلاء

وقعت غزوة الوهابيين على كربلاء عام (1216هـ/1801م) وكان عمر السيد المجاهد آنذاك خمسة وثلاثون عاماً فترك هذا الهجوم الوحشي أثراً كبيراً في نفسه وهو يرى العلماء وأبناء مدينته يقتلون بوحشية ويرى الوهابيين وهم يهدمون قبر سبط رسول الله (ص) ونهبه وحرقه وكان هو من ضمن الذين نجوا من هذا الغزو مع والده فسافر إلى كرمنشاه وطلب من حاكمها حماية الأبرياء والمرقد الشريف, لأن العثمانيين استهانوا بدماء الشيعة وأعطوا الضوء الأخضر للوهابيين بتصفيتهم ثم عاد المجاهد إلى كربلاء فبقي فيها لفترة ثم هاجرها إلى مدينة أصفهان واستقر بها.

في أصفهان

سافر المجاهد إلى أصفهان وسكنها عالماً وفقيهاً ومرجعاً كبيراً عقد خلالها حلقات دروس العلم في الفقه والأصول ورجعت إليه الناس في أمور دينها ودنياها وواصل مسيرته العلمية في التأليف والتدريس فمكث فيها ثلاثة عشر عاماً, وفيها ألف كتابه مفاتيح الأصول, وكان سبب هجرته أنه نال درجة الإجتهاد في حياة أبيه فكان أبوه لا يفتي بحضوره وبوجودهماً معا في كربلاء فاضطر المجاهد إلى مغادرته المدينة وفراق أهله براً بوالده وبعد وفاة والده رجع إلى مسقط رأسه كربلاء فتصدر زعامة الحركة العلمية فيها وقيادة الحوزة, ثم سافر إلى مدينة الكاظمية المقدسة.

فتح علي شاه

وفي الكاظمية اتجهت إليه أنظار الجميع ورجع الناس إليه في الافتاء والعلم واشتهر اسمه عند الخاصة والعامة وكانت تلك الفترة من أشد الفترات على الدول الإسلامية حيث غزا نابليون بونابرت مصر في الحملة الفرنسية المشهورة عام 1213هـ وتغلغلت روسيا في أراضي إيران وانتزعت رقعة كبيرة من القوقاز واستمرت في الاستيلاء على الأراضي الإيرانية فكان على الملك فتح علي شاه ثاني ملوك الدولة القاجارية (1183ــ1250هـ/1772ـــ1834) الدفاع عن بلاده كما كان في أمس الحاجة إلى مساندة علماء الدين من أجل الافتاء بالدفاع عن بلاد الإسلام وكان السيد محمد المجاهد على رأس العلماء الأعلام والمراجع الكبار الذين لهم الأثر الأكبر في نفوس الناس وقلوبهم.

راسل فتح علي شاه السيد محمد المجاهد الذي كان يقيم في الكاظمية المقدسة للاستفادة من تعليماته في مواجهة هذا الاجتياح السافر وكيفية معالجة مثل هذه المواقف الحرجة فكان السيد المجاهد يكتب إليه ويرشده لما فيه الخير والصلاح وحقن دماء المسلمين, لكن الأمور أخذت تتأزم وأصبح علاجها صعباً بسبب تعنت الروس فطلب فتح علي شاه من السيد المجاهد أن يحسم الموقف بنفسه، فلما رأى السيد المجاهد أن بلاد الإسلام تتعرض للخطر والأعداء محدقون بها هاجر في سبيل الله مع ثلة من أصحابه من رجال العلم وطلابه إلى إيران وكان يوم دخوله يوماً تاريخياً فيها حيث خرج الناس لاستقباله وعلى رأسهم فتح علي شاه الذي شرح له الموقف مع الروس.

ولما اطلع المجاهد عن كثب على الأمور أفتى بوجوب الجهاد ضد الروس وتقدم بنفسه إلى ميدان الحرب فأطلق عليه لقب (المجاهد) وكان لفتواه هذه صدى كبيراً في إيران وضربة قوية لروسيا التي صُدمت بهذه الفتوى فأرسلت مندوبها لمقابلة المجاهد والتحدث معه لثنيه عن فتواه, ولكن السيد المجاهد رفض مقابلته وتكررت المحاولة من قبل روسيا فواجهها المجاهد بالرفض القاطع.

هب الجميع للدفاع عن إيران بعد فتوى المجاهد واستمرت الحرب لمدة عشر سنوات (1804ــ1813) وحققت الفتوى انتصاراً ملحوظاً وصدَّت تغلغل الروس في الأراضي الإيرانية وكاد يتحقق النصر لولا خيانة بعض القادة القاجاريين.

أقوال العلماء فيه

أثنى على السيد المجاهد جميع من ترجم له وورد اسمه في كثير من المصادر نكتفي بالبعض منها:

قال عنه الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية: السيد الأجل الأعظم، الأكرم الأفخم، البحر الزاخر، والسحاب الماطر، الفائق على الأوائل والأواخر، صاحب التحقيقات الرشيقة، والتأليفات الأنيقة، كالمفاتيح والمناهل وغيرهما نوّر الله روضته وأعلى في الفردوس منزلته.

وقال عنه السيد حسن الصدر في كتابه تكملة أمل الآمل: علاّمة العلماء الأعلام، وسيد الفقهاء العظام، وأعلم أهل العلم بالأصول والكلام.

وقال عنه السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: المرجع في علمي الأصول والفقه لكل علمائنا وصنّف فيها مفاتيح الأصول وغيره حتى توفي والده فرجع إلى كربلاء فكان المرجع العام لكل الإمامية.

وقال عنه السيد محمد حسن مصطفى الكليدار في كتابه مدينة الحسين: انتهت إليه شؤون التدريس في كربلاء

مؤلفاته

ألف السيد المجاهد في الفقه والرجال وغيرها من العلوم الأخرى ونستشف من عناوين كتبه موضوعاتها المتعددة ومن كتبه: مفاتيح الأصول، ومناهل الأحكام، والوسائل إلى النجاة، وعمدة المقال في تحقيق أحوال الرجال, إصلاح العمل, رسالة حجية الظن, المصابيح في شرح المفاتيح للكاشاني, جامع العبائر, كتاب في الأغلاط المشهورة, المصباح الباهر في رد اليادري وإثبات نبوة نبينا الطاهر, رسالة في الاستصحاب, الجهادية, حاشية على المعالم, رسالة في حجية الشهرة والكتاب الأخير كان له حول موضوعه مناظرات مع الشيخ محمد بن حسين الرضوي.

تلامذته

درس عند المجاهد كثير من طلبة العلم الذين صار لهم شأن كبير في ميدان العلم وأصبحوا من كبار مراجع الدين وعلى رأسهم الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري, وشريف العلماء المازندراني, والسيد محمد شفيع الجابلقي, والسيد إبراهيم بن محمد باقر القزويني, والشيخ داود بن أسد الله بن عبد الله البروجردي, والشيخ حسن بن محمد علي اليزدي, والميرزا حسين اللاهيجي النجفي, والسيد حسين بن السيد محمد المجاهد الطباطبائي, والمولى حسين واعظ التستري, والميرزا محمد رضا بن محمد باقر القزويني الخويسيني, والمولى علي بن محمد ولي القائني, والسيد محمد صالح البرغاني القزويني, والميرزا محمد علي بن محمد حسين الشهرستاني, والمولى صفر علي اللاهيجاني القزويني, والميرزا نصر الله المشهدي, والشيخ أحمد بن علي المختارالكلبايكاني.

كربلاء .. المآل

تبقى كربلاء مهوى أفئدة المؤمنين مهما آلت بهم الظروف وحلت بهم الأقدار, لقد هاجرها السيد المجاهد عندما استدعته الغيرة على دينه للدفاع عنه, وكان يتمنى أن يعود إليها ويموت ويدفن فيها لكن القدر حال دون ذلك, فقد توفي في قزوين بعد عودته من ساحات الجهاد ضد الروس سنة 1242 هـ, ولكنه أوصى أن يحمل جسده إلى الأرض التي احتضنت جسد سيد الشهداء (ع) مدينة كربلاء مسقط رأسه، فنفذت وصيته وعندما وصل جثمانه الطاهر إلى مشارف المدينة كانت الطرق قد قطعت بسبب حادثة المناخور التي جرت في تلك السنة والتي استباح العثمانيون فيها كربلاء وقتلوا كثيراً من أهلها فأمن جثمانه خارج كربلاء ولما سنحت الفرصة لإدخاله استقبلته كربلاء بالحزن والأسى وقد توالت عليها النكبات والأحزان فدفن في مقبرة الأسرة الخاصة التي تقع في سوق التجار الكبير في ما بين الحرمين المقدسين بالقرب من مدرسة المجاهد

مدرسته

تقع هذه المدرسة التي سميت باسمه في سوق التجار الكبير بالقرب من مرقد السيد محمد المجاهد الطباطبائي, وهناك وثيقة بالوقف الخاص بها تشير إلى أنها بُنيت عام (1270ه), وقد تخرج منها علماء كبار أمثال السيد محمد باقر الطباطبائي, والسيد محمد علي الطباطبائي, والسيد مرتضى الطباطبائي الذين ينتسبون لبيت السيد علي الطباطبائي (صاحب الرياض) ومن أشهر أساتذة هذه المدرسة الشيخ محمد علي سيبويه والشيخ عباس الحائري وقد هُدّمت هذه المدرسة سنة (1980م) بسبب فتح شارع بين الحرمين.

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار