يمكن وصف الرسم التجريدي ، بأنه الفن الذي يعني باختفاء معالم كل أثر يشير إلى ما تعودنا رؤيته في حياتنا من أشياء أو أشخاص.. فعندما يلجأ الفنان إلى التجريد، نجده يستبدل المعالم المميزة للأشياء بأخرى تدعونا إلى تأملها على هيئة مجموعة من الألوان ولا شيء غير ذلك من أوصاف الأشكال الطبيعية ، فيكون حكمنا عليها تبعاً لقيم لا شأن لها بتمثيل حقيقة الأشياء أو نقلها فالرسم التجريدي ينطوي على عملية تخلص جوهري من كل ما هو معين.
لقد جاء تيار الرسم التجريدي الحديث لينهض على نزعة شكلية، وهي نزعة ترى أن العمل الفني قوامه الشكل وليس المضمون، وتبعاً لذلك فإن هذه النزعة تقف بالضد من نزعة المحاكاة في الفن، فالشكل في محاكاته لعالم الأشياء بواقعها المادي يحمل معه مضموناً إخبارياً محدداً للشيء المحاكى، وبهذا فإن النزعة الشكلية تعارض هذا الموقف تماماً ، فهي ترى أن الفن الصحيح منفصل عن الأفعال والموضوعات التي تتألف منها التجربة المعتادة، فالفن عالم قائم بذاته.. وهو ليس مكلفاً بترديد الحياة أو الاقتباس منها.. وان قيم الفن لا يمكن أن توجد في أي مجال آخر من مجالات التجربة البشرية، فالفن إذا شاء أن يكون فناً ينبغي أن يكون مستقلاً مكتفياً بذاته.
لو تتبعنا مسيرة الفن التشكيلي عالمياً لوجدنا ان هنالك توجهات جمالية اتخذت مسارات تصاعدية بدءاً من نشوء المدرسة الانطباعية في الفن، والتي ظهرت بغية تحرير الرسم من لغة الوصف والمضمون الإخباري الذي كان يظهره الشكل قبلها عند المحاكاة الشيئية الواقعية، ففي هذه الحالة قد تكون الاستجابة الجمالية غير خالصة لأنها مثقلة بالمضمون، لذا فإن تيارات الحداثة عندما فعّلت من دور الشكل فهي قد استهدفت التجربة الجمالية في ذاتها، والتي لا تخرج عن كونها تجربة شكلية محضة، وقد تجلت هذه النزعة أكثر وضوحاً في الرسم التجريدي الذي أظهر الشكل برؤية جديدة وصيغ مجردة تجريداً خالصاً، حيث التركيز على مظهر الشكل الخالص في جانبه التنظيمي البنائي، ومن أجل ذلك باتت مفارقة الواقع أمراً محتوماً.. فلكي يثير الخطاب البصري انفعالاً جمالياً لدى المتلقي من خلال العلاقات الشكلية، ولكي يحفزه على ادراك الاشكال والاحساس بها كانفعال فهو لا يحتاج إلى أن يأتي بشيء منسوخ من الحياة الواقعية بل يحتاج الى الإحساس بالشكل واللون.
لقد كانت الأعمال الفنية الكلاسيكية في مجال الرسم، تعتمد على أشكال تتخذ صيغاً واقعية، وهي بلا شك تثير لدى المتلقي إحساسات جمالية من خلال ألوانها وتكويناتها، إلا أن هذه الإحساسات وتبعاً لعملية الإدراك والتلقي فإنها تستدعي في الذهن دلالات ومعاني أخرى، فهي مقيدة ومثقلة بالصفات المادية للأشياء.. وقد يثار المتلقي للعمل الفني لما يحمله من مضمون تاريخي أو ديني أو ما شابه ذلك.. و حينها لا تكون الاستجابة الجمالية خالصة بقدر ما تكون خاضعة للمضمون الإخباري أو الوصفي، لذا فقد أجهز التجريديون على تلك الثنائية التي تحدد الصيغة البنائية للشكل وفق المضمون حين خلصوا الاشكال من حمولتها الدلالية الاخبارية، وأخذت الاشكال تؤدي هدفها الجمالي في ذاته من خلال استهداف مبادئ الجمال الخالص وفق صيغ شكلية تجريدية تنأى عن كل ما هو مشخص من الاشياء، فأخذ الخطاب البصري في المنجز الفني التجريدي ينهض على ما تظهره التكوينات التجريدية من علاقات بنائية وتصميمية في العمل الفني.
لقد وعى رسامو الحداثة اهمية هذه الحقائق الجمالية.. وكان منهم الفنان المسلم الذي تنبه إلى أن جمال الاشكال في أي عمل فني انما هو ناجم عن العلاقات البنائية التي تظهر بها لا عن طريق تشخيصها.. فالفن الإسلامي ليس مرتبطًا بإطار مرئي دنيوي محدد وإن وُجِد إطار مرئي فإنه يكون ظاهرًا فقط، لأن الباطن يحيل إلى الله الخالق جل وعلا.. فالعمل الفني المجرد في الإسلام يصبح دالا ذا مدلول غيبي مما يدفع بالمتلقي الى الرجوع إلى غير المجسد وغير المتخيل وهو الله سبحانه وتعالى مدبر الكون ومسيره.. ويتحقق ذلك بصنع دالٍّ مجازي بصري مرادف لمدلول اشكل يسمى في النهاية بالتجريد، وبهذه الرؤية الجمالية الخالصة وجد الفنان المسلم أن التعبير عن الجمال يتجلى من خلال التكوينات الشكلية الناطقة بحدث ما يحاول جاهداً طرحة او معالجته ليصل الى المتلقي ويلامس مشاعره المرتبطة بما يؤمن به، فالتكوين عنده هو فن الترتيب بروحية تزينية لعناصر مختلفة يستخدمها الفنان للتعبير عن عواطفه المرتبطة بفكره وعقيدته الاسلامية .
وبناء على ذلك ومن مبدأ التحرر الشكلي هذا، اصبح لزاماً على المتلقي التقصي المستمر عن القيم الجمالية الخالصة الكامنة في الأنساق البنائية لأشكال اللوحة الماثلة امامه، وعمليات التقصي هذه تكتسح كل ما أنجز على الدوام من أشكال وبالتأكيد هذا ما يساعد على إرساء مفهوم الحداثة وبالتالي ايصال رسالة اللوحة الى المتلقين بعناية وسهولة وهو الهدف المنشود.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق