الفنون الزخرفية بين النشوء والتوصيف التاريخي..

لقد حرص الإنسان الاول منذ أن كان يعيش في الكهوف على أن يزخرف الجدران بالزخارف المختلفة، وظل هذا الحرص ملازماً له عبر الزمان.. فكان يرسم صور الحيوانات وصور بعض النباتات والأشجار التي يشاهدها في حياته اليومية.. فمنها استمد عناصره الفنية الأولى فكان ناسخ للأشكال ثم أصبح مطوّراً لها عبر العصور إلى أن أصبح مبدعاً سواء في تنفيذ تلك الاشكال الزخرفية او في اختيار عناصرها.. وتعد الزخرفة من الفنون التي لازمت الإنسان منذ أقدم العصور، وهذا ما نقلته آثار أقدم الحضارات العريقة التي تركت إرثاً لها في مخلفاتها التي تدل على مدى اهتمام الإنسان على مر العصور بفنون الزخرفة كحضارة وادي الرافدين ووادي النيل وحضارة الإغريق وما تلاها من الحضارات .

فإذا انتقلنا إلى أقدم الحضارات المعروفة، كحضارتي وادي الرافدين و وادي النيل على سبيل المثال، لوجدنا أن الفنون الزخرفية قد تطورت تطوراً واضح المعالم.. ففي حضارة وادي الرافدين نجد أن هناك كثير من المخلفات الاثارية كالأواني الفخارية والعاجية والمعدنية والجداريات المزججة ممكن ان تمدنا برصيد كبير للأفكار الزخرفية التي قدمها لنا العراقيون القدماء -السومريون والأكديون و الآشوريون و البابليون- ، حتى ليبدو للمشاهد أن المبادئ الأساسية للتفكير الفني الزخرفي قد أُرسيت دعائمها منذ ذلك الحين، فنجد فكرة التجريد الزخرفي المتمثل بالأشكال الهندسية والنباتية والحيوانية واضحة للعيان، كما نجد فكرة التكرار لتلك الوحدات والأشكال وفكرة التوزيع الزخرفي كمساحات وأشرطة قد نفذت بحرفية عالية، فظهر على فنونهم وزخارفهم أشكال هندسية واخرى نباتية من ازهار واغصان.. كزهرة اللوتس، وأوراق العنب والبردي  وسعف النخيل، وشجرة الحياة الآشورية المشهورة بكثافة اغصانها، فضلاً عن استخدام بعض العناصر الآدمية، وبعض العناصر الحيوانية وما تم ابتكاره من أشكال خرافية تجمع بين رأس الإنسان وأجسام الحيوانات .

من المؤكد ان النزعة الزخرفية الواضحة على النتاجات الفنية التاريخية  كانت ترتبط إرتباطاً مباشراً بفلسفة التعبير عن الهواجس الذاتية للحضارات القديمة، ففرض سمات الزخرفة على المنجز الفني يبدو انه تطور منذ نشوء الأطوار الأولى للفن.. ويبدو ذلك جلياً عند اكتشاف النماذج الاولى من اللقى الطينية، ونماذج فنية متعددة في بعض مناطق العراق الاثرية كما في تل حسونه والعبيد مروراً بفنون سومر وأكد وآشور وانتهاءً ببابل.. وحسبُنا هنا تَذّكُر أعمالاً مهمة حملت النزعة الزخرفية مثل المسلات العراقية  القديمة مثل مسلة النصر والعقبان ومسلة حمورابي، فضلاً عن الأختام الاسطوانية التي كانت تعج بالتفاصيل الزخرفية والبناء التصميمي الجميل، فتكوينها البارز والغائر كان يمثل صوراً لأشكال ومضامين متعددة وهي تطبع تكويناتها بطابع زخرفي واضح.

ولا يخفى ما للحضارة المصرية القديمة من خصوصية في مجال الفنون الزخرفية، والتب بدأت باعتقادهم بعودة الروح، فعمدوا الى تزيين مقابرهم ونقشوها، وكانت زخارفهم ونقوشهم في البداية بدائية التفاصيل غليظة المظهر خالية من الرقة، إلاّ أنها ومع مرور الزمن قد تطورت واكتملت وبلغت درجة متقدمة من الحرفية والإتقان. واشتملت زخارفهم على عناصر هندسية، كالخط المستقيم والمنكسر والمنحني والدائري، فضلاً عن علامات للكتابة الهيروغليفية على شكل نقوش مصغرة متداخلة مع بعض العناصر النباتية التي أقتبسها الفنان المصري من النباتات الموجودة في بيئته الزراعية كزهرة اللوتس وسيقان البردي والأنتيمون وأوراق العنب ، وسعف النخيل . فضلاً عن استخدام العناصر الآدمية والحيوانية ، حيث رسم رؤوس بعض الملوك والملكات كما رسم حيوانات بيئته.

أن الوحدات الزخرفية التي تم توظيفها في نتاجات الفن المصري القديم ، كانت تكتسب طابعها التكويني المتنوع ، من آليات البناء النحتي والمعماري والجداري ، وكذلك,  من الفنون الحرفية والصناعية ، فضلاً عن أن المصري القديم كان ميّالاً إلى التزويق والزخرفة وبالتحديد في صناعة الملابس المزركشة ، وفي أزياء الآلهة والملوك وكل ما يرتبط بها من تيجان وأغطية الرأس الأخرى ، والصولجان ، وكرسي العرش ، والمجوهرات والحلي المتنوعة.

أما فن الزخرفة في الحضارة الاغريقية فقد تأثر تأثراً بالغاً بالحضارات السابقة لها كالحضارة الرافدينية والحضارة المصرية، إذ أقتبس الإغريق عن الآشوريين بعض العناصر النباتية كزهرة الأنتيمون مع تعديل بسيط فيها واقتبسوا ايضاً عن المصريين زهرة اللوتس  واستخدمت كوحدة متبادلة مع الأنتيمون ، كما اشتهروا بورقة الاكانتس حيث وظفوها بتشكيلات متعددة ولاسيما في زخرفة تيجان الاعمدة، فضلاً عن استخدام الأشكال الهندسية والآدمية والحيوانات .

من هذا اصبح لابد من التأكيد على حقيقة أن الجذر التاريخي للفنون الزخرفية كان يمثل خصوصية فنية وجمالية، تطورت معطياتها البنائية وآليات توظيفها مع الفنون الأخر، نتيجة الارتباط القائم بين طبيعة الزخرفة وأنماط التّحول الشكلي لها عبر الحقب التاريخية للفن، وبالتالي اصبح لهذه الفنون تأثيرا على طبيعة الفن الزخرفي الإسلامي من خلال ان الفنان المسلم يستمد من الرؤى الفنية السابقة له ويطورها لتكون منطلقاً لبواعث البناء والتجديد الزخرفي ولكن ضمن خلاصات جديدة تتمثل في الدخول ضمن مظلة الفن الإسلامي والتأثر بالتقاليد الإسلامية وبالفلسفة المحركة للمنجز الفني الإسلامي .

اعداد

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات