قلب بغداد ..

الفكر والعاطفة والاحساس.. هي ثلاثية يقوم عليها الابداع وتتحكم بالأساليب الفنية وجماليتها.. فإن غلبت الفكرة عن الاخريات اصبح العمل ابداعاً واقعياً يمتع الابصار.. وان غلبت العاطفة على العمل الفني كان له انطباع يرويه.. وإن اوغل الحس في مسارات العمل اصبح فلسفياً تأملياً لهذا الكون بغية بيان روح المرئيات لا مظهرها.

هذا ما نلمسه جلياً في هذا التكوين الفني المميز للفنان العراقي المغترب ابراهيم العبدلي، والذي هو مزيج من تجربته الانسانية بحيواتها والفنية الثرة بالأساليب الإبداعية والانطباعية والتأملية على حد سواء.. مجسداً من خلالها القيم الإنسانية والروح النبيلة التي جبل عليها الفنانين من أبناء المجتمع العراقي.

ينتمي العبدلي الى جيل ستينات القرن العشرين، وقد عرف منذ بداياته الفنية بقدرته الفائقة على رسم البورتريه و الطبيعة والتراث الشعبي.. وهو من مواليد بغداد 1940، وقد التحق بعد اكماله لدراسته الاولية بقسم الرسم لأكاديمية الفنون الجميلة العليا، وتخرج منها مع نخبة من فناني العراق امثال الفنان سالم الدباغ، وخضر جرجيس، ومحمود الراضي، وسوسن سلمان وغيرهم.. ثم اتم دراسته في بريطانيا ومارس تدريس الرسم في بغداد والسعودية وما زال يدرسه في جامعة البتراء بالأردن.. كما أقام الفنان خلال مسيرته الفنية عشرات المعارض الشخصية داخل العراق وخارجه.. وكان له العديد من المشاركات في اغلب المعارض الشخصية والجماعية داخل العراق وخارجه والتي ترك فيها لمسات مميزة من الفن العراقي الاصيل بطريقة رسمه الشاعرية وأسلوبه الواقعي الانطباعي المعاصر.

تمثل اللوحة اعلاه مشهداً فوقياً للروضة الكاظمية المقدسة  وبعض الازقة المحيطة بها في قلب بغداد.. ويبدو انها نفذت بتقنية الزيت على القماش وبأسلوب يمزج بين الواقعية والتعبيرية.

وزع الفنان مساحات المنجز الفني وأشكاله ضمن فضاء واسع نفذ بخليط من الخطوط والاشكال الهندسية المميزة بتدرجات من الالوان الحارة والباردة التي توحي بأشكال مضيئة متوهجة بارزة ضمن ذلك الفضاء وتعطي  انطباعا واضحاً للظلال من جانب آخر، حيث يزدحم الفضاء بامتلائه بالأشكال الهندسية المتمثلة بالهيئة العمرانية للروضة الكاظمية المقدسة والبيوت البغدادية والاسواق من حولها.. وهي مشغولة بالخطوط والزوايا والتراكيب اللونية التي عمت مساحة اللوحة بالكامل لخلق موازنة في الاشكال والالوان .

كما هو واضح فالألوان قد لعبت الدور الأساس في هذا المنجز.. لأنها استخدمت وبصورة أساسية في تركيب وحدات المشهد وزخارفه، حيث وزعت الالوان بشكل متوازن على مساحات المشهد ليحقق إيقاعاً بصرياً تنتقل به العين من مكان لآخر.. وهذا الإيقاع اللوني يوحي بالحياة داخل وحدات المشهد مما يساهم في تجسيد الشكل الجمالي المبهر للمشهد .

 اعتمد العبدلي تقنية التشخيص بالإنارة والظلال في اشكال العمل والتي توحي بالتجسيم ، فضلاً عن شكل الابواب والمنائر التي تباعدت بمساحاتها.. إلا أن الفنان عمد إلى ربطها بواسطة خطوطه الهندسية بغية خلق نوع من الترابط الشكلي بتلاحم البناء العام للمنجز محققاً القيمة التشكيلية له، أما عنصر السيادة فلا ريب انه الحرم المقدس للإمامين الكاظمين عليهما السلام والذي مثل بدقة متناهية بالحجم الكبير والالوان المضيئة وسط اللوحة.

أكسب ابراهيم العبدلي المشهد قيمة جمالية استثنائية من خلال واقعيته المفرطة التي تقف جنباً إلى جنب مع جمالية الأشكال التعبيرية والرمزية حيث ضمن الفنان الالوان والاشكال معان رمزية من خلال خبرته في صياغة الالوان الزرقاء والصفراء الذهبية وبتدرجات مختلفة للدلالة على قدسية المكان وسكونيته، اضافة الى استخدامه اللون البني الدال على بيئة العراق وشمسه الحارة والأخضر الذي يدل على الخصب والخير .

وبذلك يكون الفنان قد أفصح كما في اغلب لوحاته عن مكنوناته وعن الدلالات الاجتماعية والدينية وجمالية التكوينات الفنية في عمله والتي أعطت قيمة تشكيلية وجمالية وتعبيرية ورمزية للمشهد، فضلاً عن القيمة الرمزية للون وتعبيره عن انفعالات الفنان وعواطفه التي أفرغها في المشهد مجسداً صورة تشكيلية في وقت استحضر فيه رموز دينية واخرى تراثية.. تنطق بلغة بصرية وجمالية حملت مضامينها رموزاً عقائدية إسلامية عبرت عن علاقاتها بالمجتمع العراقي .  

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات