الفلسفة الجهادية للأمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام"

عاش الإمام الصادق "عليه السلام" مرحلة مهمة وحساسة من تاريخ الدولة الاسلامية، والتي تزامنت ما بين شيخوخة الدولة الأموية وطفولة الدولة العباسية، فارتكزت فلسفة الامام الجهادية على مفهوم التقية والكتمان، اذ كان يعتقد ان التغير العسكري وحده لا يكفي لأحداث تغيير شامل في الدولة، ولذا سعى الامام تكوين قاعدة شعبية للعمل السياسي وجعله مرتبطاً بالعمل السري من خلال أعداد كوادر واعية ومثقفة ومتحلية بالحكمة والتخطيط والدراية لتجنب السعي والانخراط والتخبط وراء قيادات تتستر باسم الجهاد ونصرة اهل البيت "عليهم السلام" من اجل تحقيق اهدافهم.  

ولما كانت الدولة العباسية التي لا تقل عن الدولة الاموية بطشاً وطغياناً وتنكيلاً الأمر الذي أقتضى التزام ائمة اهل البيت ومن شايعهم بالتقية استصلاحاً لأوضاع المسلمين بدفع الضرر عنهم وتوحيد كلمتهم، ولذا كان الامام الصادق كثير الحذر والترقب، آمراً اتباعه بالتقية والكتمان للحفاظ على الانفس والاعراض، فرفع مقام التقية وجعلها أنبل خصال المؤمنين مؤكداً بذلك في قوله:" إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له..."([1]) . كما بين أهميتها وأفضليتها على الصدقة والزكاة والجهاد... بقوله: "  لا دين لمن لا تقية له، وان التقية لأوسع ما بين السماء والأرض" وقال أيضا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يتكلم في دولة الباطل الا بالتقية "([2]). لذلك عمل الامام الصادق على توجيه أتباعه للالتزام بالتقية وتوضيح مفاهيمها القرآنية وخصوصيتها بالصبر لنيل الأجر والثواب بقوله تعالى :﴿ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾([3]). يبدو ان مردود الحسنة هنا التقية والسيئة الإذاعة ([4]) فيستوجب دفع السيئات بالحسنة بقوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾([5]).

ثم ينتقل مفهوم التقية لتحديد مسارات أفرادها وجماعاتها لأجل سيادة مبدا التعايش السلمي الذي من خلاله يستطيع المسلمون أن يدخلوا قلوب الأقوام الاخرى وان كانوا على خلاف ديانتهم،﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾([6]).

حيث ان الامام الصادق كان يأمر اتباعه في حالة اشتداد العنف والجور وعدم أتاحته الفرصة للاتصال بأتباعه فلزمهم بالتقية لأنها تعد احدى الوسائل الدفاعية التي تستوجب في الضرورات بقوله:" التقية في كل شيء، وكل شيء اضطرّ اليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له"([7])، لان الظروف تفرض على واقعهم الكتمان والتقية لأنها دولة الباطل مؤكداً في ذلك بقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلم في دولة الباطل إلا بالتقية"( ([8].

يبدو ان منطلقات التقية وأبعادها عند الامام الصادق ترويجاً لمبدا التعايش السلمي، لأن التقية العامل الأساسي لاستمرار وديمومة الامامة من جهة، والحفاظ على مصلحة الاسلام من جهة أخرى بمعنى آخر اذا كان خروج الامام يؤدي الى خلق فتنة كبيرة يلحق بالمجتمع الضرر بشكل كبير فالصبر على الضرر الصغير يكون أصلح للأمة لأن ائمة اهل البيت "عليهم السلام" لو وجدوا بخروجهم منفعة للأمة لما تأخروا عن ذلك.

في الوقت نفسه، ان التقية ليست ازدواجية الرأي والتفكير، أي انها لا تجعل الانسان يعيش ويتوافق مع مصالحه وبالتالي يترتب على انقياده وانحرافه نحو النفاق الى درجة انصرافه عن مواجهة والانحراف المتفشي بغطاء الخوف على النفس والمال والكرامة([9]).

فمفهوم التقية هو اصلاح البنية الاساسية للمجتمع بعد تفشي الظلم وسيطرة الارهاب السياسي والفكري ومصادرة الحريات والرأي العام وما رافقه من ابتزاز الاموال والمناصب الادارية، لذا أصبحت التقية هي السبيل الوحيد لبناء القاعدة الاساسية لإصلاح النفس الداخلية وتقويم مساراتها الفكرية لمواجهة الواقع المرير ولاسيما عدم تهاون الامويين والعباسيين باستخدام كافة السبل والوسائل للقضاء على منهج أهل البيت ، فادراك الامام الصادق حقيقة غايتهم ناصحا اتباعه قائلا:" خالطوهم بالبرانية وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانيه"([10]) ولعل المراد بكونها "صبيانية" ميل صاحبها إلى اللغو والباطل والفتنة كأمراء الجور، وفيه حث على التقية والأخذ بها إلى زمان ظهور القائم "عجل الله فرجه".

اعتزل الامام الصادق السياسة المرتبة بالتركيبة الاجتماعية المنحلة بانتشار الرياء والوصوليين وغيرهم من اجل التقرب من السلطة، وقد أوضح الامام الصادق هذا المفهوم لسفيان الثوري عندما سأله الاخير عن سبب اعتزاله للناس بقوله: " يا ابن رسول الله مالي أراك قد اعتزلت عن الناس؟ قال‏:‏ يا سفيان فسد الزمان وتغير الإخوان فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد..."([11]) ، يبدو ان تقية الامام الصادق كانت بمثابة اعتزال الناس عن قبيح افعالهم وتجنب مفاسدهم واخلاقهم الذميمة.

 ومن خلال الروايات التاريخية تتبين ان الرؤية المستقبلية للإمام الصادق واستيعابه لكافة المفاهيم الاجتماعية المتمردة التي كانت بمثابة المرآة العاكسة للوضع السياسي، فجرد الامام نفسه من أي عمل سياسي  سواء في قيادة ثورة او المشاركة فيها. وكان ذلك واضحا عندما اجاب الامام على سؤال احد الرجال من خراسان عن سبب اعتزاله الوضع السياسي بقوله : يا بن رسول الله لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الامامة، ما الذي يمنعك ان يكون لك حق تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة الف يضربون بين يديك بالسيف.  فأجابه الامام الصادق:" اما انا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت"([12]) . فالتقية اذن مسؤولة إصلاح الأمة بعيداً عن اعين القوة الحاكمة وبذلك يمكن القول ان عصر الامام الصادق عصر تصاعدت فيه ذروة التقية حتى ان وصية الامام الصادق بإمامة ولده الامام الكاظم كانت في ظروف شديدة المراقبة، ولذا لجا الى كتابة وصيته لعدة أشخاص المقربين اليه وخاصته بقوله:" استوصوا يا بني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي، ومن أخلفه من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي"([13]).

جعفر روضان

 

([1]) الكليني، اصول الكافي، تحقيق: على أكبر الغفاري، (طهران: دار الكتب الاسلامية، 1363ه)، ج2، 245-246 .

([2]) الطبرسي، مشكاة الانوار، ص42-43؛ الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق : مؤسسة اهل البيت لأحياء التراث، (قم: 1991)،ج ١٢، ص ٢٥٦ .

([3]) سورة القصص: الآية 54

([4]) الميرزا حسين النوري، المصدر السابق، ص 303.

([5]) سورة فصلت: الآية 34 .

([6]) سورة فصلت: الآية 34 .

([7]) ابو جعفر احمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، تحقيق: مهدي الرجائي،( قم: مجمع العالمي لأهل البيت، 2011)، ج1، ص404.

([8] ( ابي الفضل علي الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق مهدي هوشمند،(قم: دار الحديث، 1417)،ص90-91.

([9] ) للمزيد من التفاصيل ينظر : نغم حسن ، المواقف السياسية للائمة الاثني عشر،( الرافد للطباعة والنشر،2009)، ص235-242.

([10] ) الكليني، المصدر السابق، ج9، ص125

([11])لابي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والامم، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا،ط1، (بيروت: دار الكتب العلمية،1992) ،ج8، ص 111-112.

([12] ) ابي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب ،مناقب آل أبي طالب، تحقيق : يوسف البقاعي،(بيروت: دار الاضواء،1991)  ، ص258.

([13]) ابي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد تحقيق: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث،(بيروت،2008)ج2،  ص310.

المرفقات