أ.د. حسين لفته حافظ
مركز دراسات الكوفة / جامعة الكوفة
المقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبي الرحمة الصادق الأمين وال بيته الطيبين الطاهرين وبعد ...
لابد من وجود منهج تربوي سليم تسير عليه الامة لان في ذلك صلاح للامة من كل مظاهر الانحراف ، وقد شعرت الأمم من خلال كبار فلاسفتها ولاسيما الأمم الغربية انه لابد من وجود الدين حتى تستقيم حياة الناس والا فحياتهم عشوائية مضطربة بدون الدين ، اذا الدين هو الضابط الرئيسي لتلك الحياة وهو المنظم بلا شك لأمور الافراد ، وقد اشتملت الديانات السماوية على التعاليم الصحيحة ومنها ديننا الإسلامي الحنيف وقد التمسنا ذلك من خلال اهل البيت وهم ترجمان القران والقول الفصل ، والمتتبع لأقوالهم الشريفة يجد انهم رسموا المنهج الصحيح فيما يخص التربية الإسلامية ، لان التربية العشوائية او العفوية من شانها ان تبدد الطاقات وتخلق الاضطرابات في المجال النفسي لأنها غير صادرة من السماء انما هي من اجتهادات بعض الافراد، من هنا كانت الحاجة ملحة الى اتباع النهج التربوي المستنبط من فكر اهل البيت عليهم السلام عامة وفكر الامام السجاد عليه السلام خاصة ، اذ وجدنا ان أمامنا المعصوم رسم لنا المسار الصحيح للتربية وحدد معالمها ووجه الجهود والنشاطات من خلال الإرث الأخلاقي الذي خلّفه كي يقرر المفاهيم الصالحة والسامية في الواقع الإنساني وهو ما يحاول البحث الكشف عنه بأسلوب علمي يتبنى مقولات الامام التربوية ويحللها ويستنبط منها المنهج التربوي الخاص بتربية الانسان الصالح .
وقد اقتضت طبيعة البحث ان ينقسم الى ثلاثة مباحث تناول الأول منها عوامل التربية الناجحة والمبحث الثاني درس أسس المنهج التربوي السليم ودرس المبحث الثالث منهج الامام السجاد عليه السلام في تربية الامة واخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين .
التمهيد :
مفهوم المنهج لغة واصطلاحا
المنهج لغة :
قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾([1]) ، وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترككم على طريق ناهجة" ([2])، إن كلمة المنهاج والطريق الناهج تعني الطريق الواضح، ويعزز هذا المعنى ما جاء في المعجم الوسيط: أن أصل كلمة المنهج هو نهج، ويقال: نهج فلان الأمر نهجًا؛ أي: أبانه وأوضحه، ونهج الطريق: سلكه، والنَّهْج- بسكون الهاء -: سلك الطريق الواضح، أما ابن منظور في لسانه ([3]) فقد أورد: أنهج الطريق: وضح واستبان، وصار نهجًا واضحًا بينًا، والمنهج عنده- بفتح الميم وكسرها- هو النهج والمنهاج؛ أي: الطريق الواضح والمستقيم.
وتقابل كلمة المنهج في اللغة الإنجليزية كلمة Curriculum، التي تعود إلى أصل لاتيني، هو Currere ([4])، التي تعني مضمار السباق؛ أي: هي المسار الذي يسلكه الإنسان لتحقيق هدف ما.
مفهوم المنهج اصطلاحًا:
تتعدد تعريفات المنهج من الناحية الاصطلاحية وتتنوع، ويمكننا من خلال ما كتب بعض الباحثين في المناهج وطرق التدريس أن نحدد تعريفا لها وهو :
عبارة عن خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية او حسية بغية الوصول الى كشف حقيقة او التحقق من افتراضات معينة ([5])
ويرى بعض الدارسين ان المنهج هو (نظام الحقائق والمعايير ولقيم الالهية الثابتة والمعارف والخبرات والمهارات الإنسانية المتغيرة ينبع من التصور الإسلامي للكون والانسان والحياة ويهدف الى تربية الانسان وايصاله الى درجة كماله التي تمكن من القيام بواجبات الخلافة في الأرض عن طريق اعمارها وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله )([6]) ومن الملاحظ ان معنى المنهج لا يختلف في جوهره عن المعنى الذي سبقه من حيث كونه وسيلة منظمة ومحددة تساعد في الوصول الى غاية او غايات محددة ومن خلال الدراسات المتعددة عن المنهج نجد ان هناك مفهوما تقليديا والأخر حديثا فالأول ينبع من التربية التقليدية التي تعد ان الهدف الاسمى للتربية هو تزويد المتعلم بأكبر قدر من المعلومات وذلك تماشيا مع اعتقادهم ان المعرفة قيمة في حد ذاتها وبان تزويد المتعلم بهذه المعرفة يكفي لتوجيه سلوكه بما يتفق مع مضمون هذه المعرفة .
المبحث الأول :
رؤية اهل البيت عليهم السلام للتربية الناجحة :
بينت اغلب الدراسات التربوية والاجتماعية الأثر الواضح للوراثة والمحيط الاجتماعي في تكوين شخصية الانسان فهي تؤثر عليه من كل الجوانب الجسدية والنفسية والروحية ، فاغلب الصفات تنتقل من الوالدين والاجداد الى الأبناء ، اما بالوراثة المباشرة او بخلق الاستعداد والقابلية للاتصاف بهذه الصفات ، ومن ثم يأتي دور المحيط التربوي ليقرر النتيجة النهائية للشخصية ومن العوامل المهمة اذكر :
أولا : عامل الوراثة :
لعله من الحقائق العلمية ان الأبناء يرثون من الوالدين كثيرا من صفاتهم وخصائصهم الجسمية والعقلية والنفسية ، وقد دلت الروايات الواردة عن الرسول الاكرم (ص) وعن اهل البيت عليهم السلام على ذلك ومنها قوله : تخيروا لنطفكم فان العرق دسّاس) ([7])
ويقابل مصطلح العرق في الوقت الحاضر مصطلح الجينات والتي تحملها الصبغيات (الكروموسومات) التي تحتويها نواة الخلية الناجمة عن البويضة الانثوية المخصبة ، وياتي تحذيره من العرق الدساس بالنظر الى الصفات النفسية والروحية والخلقية التي تنتقل بالوراثة لان العامل الوراثي هو الذي يخلق الاستعداد في نفس الوليد للاتصاف بصفة من الصفات التي يحملها الوالدان او الأجداد.
كذلك نجد ذلك في قول الامام الصادق عليه السلام : ( ان الله تبارك وتعالى اذا أراد ان يخلق خلقا جمع كل صورة بينه وبين ابيه الى ادم ، ثم خلقه على صورة احدهم ، فلا يقولنّ احد هذا لايشبهني ولا يشبه شيئا من ابائي ) ([8])
ومن اللافت للنظر ان العلم الحديث يتفق مع اراء اهل البيت في هذا الموضوع فقد أظهرت دراسات علمية ان ( وراثة المولود لايحددها ابواه المباشران فقط ، انما هو يرث من جدوده واباء جدوده وهكذا )([9]) ومن البديهي ان معظم وراثة الانسان تنحدر اليه من ابائه الاقربين وان اثر الجدود الاباعد يقل كلما زاد بعدهم وعلى هذا نستطيع القول : ( ان نصف الوراثة من الابوين ، وربعها من الجدود وثمنها من اباء الجدود وهكذا )([10]).
اما عن اهم الخصائص او الصفات التي تنتقل بالوراثة فهي :
الصفات الجسمية . الصفات العقلية . الطباع والسجايا . طبيعة أعضاء الجسد قوة وضعفا . طبيعة المزاج . غرابة الطبع وبعض الحالات النفسية .([11])نلاحظ ان الصفات التي تنتقل بالوراثة يمكن ان تنقسم الى نفسية وعقلية وخلقية وهي اما ان تنتقل بصورة مباشرة او يحصل الاستعداد الفطري للاتصاف بها .
ومن الروايات الصادرة عن اهل البيت عليهم السلام في هذا المجال تحذير الامام علي عليه السلام من تزويج المرأة الحمقاء بسبب انتقال هذه الصفة الى ذريتها في قوله : ( اياكم وتزويج الحمقاء ، فان صحبتها بلاء ، وولدها ضياع ) ([12])
مقولة الامام هذه تتفق مع الدراسات الحديثة التي ترى ان الوراثة تؤثر في النمو العقلي والصحة العقلية أي ان الوراثة تؤثر في المواقف ([13])ومن تلك الخصال التي تتأثر بالوراثة خصلة الشجاعة ومن الشواهد التاريخية على ذلك قصة زواج الامام علي عليه السلام بعد وفاة الزهراء الطاهرة عليها السلام وما طلبه من أخيه عقيل ان يختار له امراة ولدتها الفحول من الرجال كي تلد له شجاعا ينصر الحسين في قضية كربلاء ([14]).
فضلا عن هذا لدينا امثلة وشواهد اخذناها من روايات اهل البيت تتحدث عن منزلة الصفات الخلقية التي تتاثر بالوراثة ومنها تحذير الامام الصادق عليه السلام في قوله : ( من زوج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها )([15])
ثانيا : عامل المحيط التربوي
ويشمل هذا العامل جميع مواقع التاثير المتعلقة بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الفرد ومنها الاسرة والأصدقاء والمجالس والمساجد والعلماء وسياسة الدولة وغيرها .
اما ما يتعلق بالأسرة فهي المحيط التربوي الأساسي المسؤول عن تربية الأبناء تربية صالحة حتى يصبحوا عناصر فعالة في تطور الإنسانية وخدمة المجتمع ونتيجة هذه الأهمية ابدى اهل البيت توجيهاتهم بهذا الخصوص ومنها مقولة الامام زين العابدين عليه السلام : ( وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه ولا قوة إلا بالله )([16])
وهنا نلحظ ان دور الاسرة لا يحدد سلوك افرادها فحسب انما يحدد جميع مقومات الشخصية الفكرية والعاطفية والنفسية اذ ينعكس التعامل مع الأبناء على اتزانهم النفسي والانفعالي ، ومن هنا يختلف الوضع النفسي من فرد الى اخر في اسرة واحدة او في اسر متعددة تبعا لنوع المعاملة والرعاية والاهتمام .
اما ما يخص الأصدقاء فلا شك في ان الانسان يتاثر في حياته الأولى بالاصدقاء ، فنجد عنده انعكاسا لارائهم وممارساتهم في مقومات شخصيته عن طريق الاحتكاك بهم ويتاثر الانسان باصدقائه حتى في متبنياته الفكرية ونظرته الى الحياة ومن ثم مواقفه العلمية وممارساته السلوكية لهذا نجد الامام زين العابدين عليه السلام يؤكد على ان يكون الجليس والصديق صالحا في قوله :
(مجالسة الصالحين داعية الى الصلاح )([17]) نلاحظ ان الامام هنا يحث على مجالسة الصالحين والاتقياء لانها الوسيلة الكفيلة من وسائل الإصلاح أي اصلاح الفكر وإصلاح السلوك لان الانسان يتاثر بافكار وسلوك المحيطين به وخصوصا اذا كانوا من اهل الصلاح والتجربة في الحياة .
وفي مقولة أخرى للامام السجاد (عليه السلام) : ( جالسوا أهل الدين والمعرفة فإن لم تقدروا عليهم ، فالوحدة آنس وأسلم ، فإن أبيتم إلا مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروّات، فإنهم لا يرفثون في مجالسهم )([18]) ، فالحث هنا واضح على مجالسة الصالحين ومصاحبة أصحاب النصح والإرشاد .
اما مايتعلق بالمجالس فهي بيئة اجتماعية متكاملة لها اثرها في التربية لانها تخلق أجواء تربوية وفكرية وسلوكية تؤثر على المشاركين فيها ووتنوع هذه المجالس بتنوع الظروف والأوضاع كمجالس العلماء ومجالس الصالحين ومجالس حفظ القران الكريم ومجالس العزاء على الامام الحسين عليه السلام كذلك مجالس الاحتفال بولادة المعصومين عليهم السلام وغيرها .
ونبه الامام زين العابدين عليه السلام الى أهمية هذه المجالس في التربية في قوله : ( مجالس الصالحين داعية الى الصلاح )([19])
نفهم من هذه المقولة ان هذه المجالس لها الأثر الكبير في الإصلاح والتغيير .
المبحث الثاني :
أسس المنهج التربوي عند الامام السجاد عليه السلام :
اهل البيت عليهم السلام عنوان مضيء في حياة الإنسانية وعنوان شامخ في تاريخ الإنسانية لا يستطيع أي باحث منصف ان يتجاوزهم كونهم اعلام الهدى وقدوة للمتقين عرفوا بالعلم والتقوى والحكمة والاخلاص لله ولرسوله وهم رواد حركة الإصلاح من خلال الطريق الذي رسموه للناس بأقوالهم وافعالهم التي صارت منهجا تربويا سليما يقول الامام الصادق عليه السلام :
(والله ما نقول بأهوائنا ، ولا نقول براينا ، ولا نقول الا ما قال ربّنا )([20]).
هذا الحديث يدل على عصمة اهل البيت عليهم السلام وانهم يقولون بالقران فلا افتراق بينهم وبينه وما يصدر عنهم يصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وان منهجهم التربوي ماهو الا منهج رباني وضعه القادر المدبر وهو العالم بكل شيء ، فالاستجابة لهذا المنهج يرافقها الاطمئنان لأنه المنهج الأمثل في التربية خلافا للمناهج الوضعية الصادرة من البشر التي يصيبها الضعف وعدم الإحاطة التامة بأمور الحياة .
والحديث عن منهج الامام التربوي يتوزع بين العقيدة والأخلاق والعبادات والدعاء والحقوق فكل هذه المسائل المهمة كان للإمام سهم فيها من خلال مواعظه ونصائحه التي نقلتها لنا كتب الرواية .
اما ما يخص منهج الامام التربوي في العقيدة ([21]) ، فعلينا ان ننوه الى ان مرحلة الامام السجاد كانت مرحلة عصيبة فهي مرحلة شهدت استشهاد الامام الحسين عليه السلام على يد طاغية العصر يزيد بن معاوية ، وما تلى ذلك من مجازر بحق محبي اهل البيت عليهم السلام ، هذه الاحداث دفعت الامام السجاد الى ابتكار طرق جديدة في الدعوة الى الله ونشر تعاليم الدين الإسلامي بطريقة لا تلفت انتباه السلطة الحاكمة آنذاك ومن أساليب الامام انه ابتعد عن التدخل في الحياة السياسية بنحو مباشر وانتهاج أساليب الهدف منها تهيئة الأرضية المناسبة لقيام الثورة على الحكم الفاسد ومن تلك الأساليب ابتداعه للصحيفة السجادية التي يشير ظاهرها الى انها ادعية يتوجه بها المسلم الى ربه طلبا للمغفرة والرحمة الا ان باطنها ينطوي على شيء مهم جدا وهو كون الصحيفة السجادية تمثل برنامج عمل متكامل للحياة الإنسانية رسم فيها اامام طريقة سير الانسان في حياته وفق تعاليم السماء ، أي ان هناك رمزية في الصحيفة السجادية تهدف الى نبذ الظلم والتبعية لغير الله سبحانه وتعالى .
ولعل كثرة بكاء الامام السجاد على ابيه الحسين عليه السلام تمثل رسالة مهمة الى الامة التي فرطت بسيد الشهداء عليه السلام بان عليهم ان يستنهضوا الهمم للأخذ بثأره من خلال عدم طاعة الظالم او الخضوع لأوامره .
اما عن منهج الامام السجاد في الاخلاق وهو منهج عملي قام به الامام من خلال قيامه بالقضاء على ظاهرة الرق والعبودية لتي كانت منتشرة في ذلك الوقت فقد كان يشتري العبيد بخالص أمواله ويقوم بتحريرهم قربة لله ، وكان هؤلاء المحررون ينشرون سيرته وفضله في ارجاء المعمورة وانه سليل بيت النبوة والشواهد على ذلك كثيرة منها ما حصل مع عبد الملك بن مروان والشاعر الفرزدق وقصيدته المشهورة بحق الامام ([22]).
لقد كان لأساليب الامام المبتكرة الأثر الواضح عند عموم المسلمين من حيث إعادة الصلة الحقيقية بين المسلمين فيما يخص عقيدتهم ، مما أدى بالسلطة الحاكمة الى الدفع باتجاه التخلص من الامام عليه السلام عبر دس السم له وكما ذكرت الروايات ([23])
ومن الشواهد الأخرى على سلوكه التربوي الخاص بالعقيدة دعاؤه واستعاذته من سيء الاخلاق ومذام الأفعال ومكاره الأمور في قوله : (أَللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَـانِ الْحِرْصِ ، وَسَوْرَةِ الغَضَبِ وَغَلَبَةِ الْحَسَدِ وضَعْفِ الصَّبْر وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ وَشَكَاسَةِ الْخُلُقِ ، وَإلْحَاحِ الشَّهْوَةِ ، وَمَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ ، وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى ، وَمُخَالَفَةِ الْهُدَى ، وَسِنَةِ الْغَفْلَةِ ، وَتَعَاطِي الْكُلْفَةِ ، وَإيْثَارِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَالإصْرَارِ عَلَى الْمَأثَمِ، وَاسْتِصْغَـارِ الْمَعْصِيَـةِ ، وَاسْتِكْثَارِ الطَّاعَةِ ...)([24])
هذا الدعاء يكشف لنا عن أهمية الاخلاق الرفيعة بالنسبة للإنسان وانها تحتل الصدارة في أولويات اهل البيت ، لان الأمم لاتتطور الا اذا تطورت اخلاقها والا فالامم محكوم عليها بالتخلف والنكوص الى الوراء .
اما عن أسلوبه التربوي في العبادات فقد نهج منهجا يتمثل في تبنيه لمبدا حرية العبادة وهو مبدا نصت عليه اغلب الدساتير العالمية حتى شكلت حرية العبادة اليوم احد وجوه الحرية الدينية وحرية الضمير ، فلا يمكن فرض الدين على الناس وفي القران الكريم إشارات واضحة الى هذه المسالة كما في قوله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ([25])
ومن هنا دأبت الأمم على تشريع قانون حوق الانسان الذي يسعى الى كبح جماح الغطرسة والتسلط ومنع هيمنة القوي على الضعيف ، فكانت التشريعات الدرع الواقي الذي يحمي الافراد من الانتهاكات الخطيرة بحق البشرية ومما ورد عن الامام عليه السلام في هذا الشأن قوله :
"اللهم صل على محمد وآله وبلغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين وانته بنيتي إلى أحسن النيات وبعملي إلى أحسن الأعمال.. يا أرحم الراحمين ".([26])
ومن الصفات المهمة التي يجب ان يتحلى بها عباد الله الصالحين التي يذكرها الامام عليه السلام من دعاء مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال، فهي أنهم يسعون إلى الحصول على (اليقين) بأفضل مراتبه، ومعنى هذه الصفة هو أنهم يتحلون باستقرار العقائد الحقة في القلب بحيث لا تؤثر عليها الشكوك والشبهات.
فضلا عن هذا أشار الامام السجاد الى المنهج التربوي السليم من خلال توظيف أسلوب الدعاء وهو أسلوب درج عليه الامام ونبه من خلاله الامة الى أهمية ان لا تنقطع صلة العبد بربه من خلال اتخاذ الدعاء وسيلة مهمة فجاء دعاء الامام بالتحميد لله عز وجل الذي تجلت عظمته واقتدر على الأشياء بالقدرة فلا الابصار تثبت لرؤيته ولا الأوهام تبلغ كنه عظمته .
لقد كان الامام السجاد عليه السلام يهدف الى ترسيخ أو بناء مفهوم جديد للعلاقة مع الله تعالى عبر الدعاء والمناجاة ، وإملاء الفراغ الروحي الناشئ عن حالات الاِحباط وخيبة الاَمل التي خلّفتها سياسة دموية عابثة تلفّعت بشعارات الاِسلام ، ولكنّها لم تنتج إلاّ الهوس والسعار ، والركض وراء الشهوات والملذّات وزوايا المتعة والمجون ، إذ نسمعه يناجي ربه قائلاً : " الهي ، كم من نعمة انعمت بها عليّ قلّ لك عندها شكري ، وكم من بليّة ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري ، وكم من معصيةٍ أتيتها فسترتها ولم تفضحني ، فيا من قلَّ شكري عند نعمه فلم يحرمني ، ويا من قلّ صبري عند بلائه فلم يخذلني ، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني.."([27])
وذهب اغلب الدارسين الى أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجادية سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه السلام على طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه السلام قد ضرب أروع الاَمثلة في الخلق الاِسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصية الاِسلامية المثالية.([28])
وهكذا سعى عليه السلام إلى الارتفاع بالنفس المؤمنة في مدارج الكمال عبر بلورة المفاهيم الاَخلاقية التربوية من خلال نسجهما بشكل دعاء فيه من الضراعة والخشوع لله تعالى واستمداد العون منه في شحذ النفس بالتعلق بأخلاق السماء ، والتعالي عن كل وضيع ، والارتفاع عن كلِّ دنيء.
ومن المواضيع التربوية المهمة التي نبه اليها الامام السجاد عليه السلام حديثه عن الحقوق مبتدا بحق الله عز وجل مرورا بحق الوالدين وحق الابن وحق الصاحب وحق المال وما الى ذلك وكما ورد في قوله :
( فأَمَّا حَقُّ اللهِ الأَكْبَرُ فَإنَّكَ تَعْبُدُهُ لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئاً، فَإذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بإخلاصٍ جَعَلَ لَكَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكفِيَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَحْفَظَ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْهَما.) ([29])
لقد رسم الامام عليه السلام في هذا المقطع المبارك أهمية توحيد الله سبحانه وتعالى والايمان المطلق بصدق نبيه صلى الله الله عليه واله وسلم واليقين باليوم الاخر، ولعل استهلال الامام بحق الله اعترافا منه ان حق الله من اعظم الحقوق واجلها من هنا يجب ان يؤدى هذا الحق كاملا من خلال عبادته وحده لا شريك له لأنه وحده الذي يستحق العبادة دون غيره وعبادته عز وجل تهيمن على شعور الفرد وتشغله عمن سواه ، ودعوة الامام هذه مستمدة في اصلها من القران الكريم الذي حث الناس على عبادة الاله الواحد الاحد الفرد الصمد .
اما عن حقوق الرحم فقد انطلق الامام السجاد من مبدا غياب ثقافة حقوق الإنسان يؤدي إلى شيوع التعصب والتشدد والتطرف، في حين أن معرفة حقوق الذات ، فضلاً عن حقوق الآخر يؤدي إلى سيادة القانون، و نمو ثقافة الاحترام والتكريم للإنسان، تطبيقاً لقوله تعالى، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ ([30]) ، فالآية الشريفة تشير إلى تكريم الإنسان بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته أو لونه أو عرقه .
ومن هنا اكد الامام على أهمية حق الوالدين ابتدا فيه بحق الام في قوله :
(فَحَقُّ أُمِّكَ، فَـــــــــأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا حَمَلَتكَ حَيْثُ لا يَحْمِلُ أَحَدٌ أَحَدًا وَأَطْعَمَتكَ مِنْ ثَمَرَةِ قَلْبها مَا لا يُطْعِمُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَنَّهَا وَقَتكَ بسَمْعِهَـــــــا وبَصَرِهَــــــا ويَدِهَــــا وَرِجْلهـــــا وَشَعْرِهَا وبَشَرِهَا وَجَمِيعِ جَوَارِحِهَـــــا مُسْتَبشِرَةً بذَلِكَ، فَرِحَـــــــــــةً مُوَابلَةً ، مُحْتَمِلَةً لِمَـــــــــا فِيهِ مَكْرُوهُهــا وأَلَمُهـــا وثِقْلُهـــا وَغَمُّهَا حَتَّى دَفَعَتهَا عَنْكَ يَدُ الـــــــــــــقُدْرَةِ وَأَخرَجَتكَ إلَى الأَرضِ فَرَضِيَتْ أَنْ تَشْبَــــــعَ وتجــــــــــــُوعُ هِيَ، وَتَكْسُوكَ وَتعْرَى، وَتُرْوِيكَ وَتَظْمَـــــــــأُ، وَتُظِلُّكَ وتَضْحَى، وَتُنَعِّمَـــــــكَ ببُؤْسِهَـــــــــــــــا،وَتُلَذِّذُكَ بالنَّوْمِ بأَرَقِهَا، وَكَانَ بَطْنُهَــــــا لَكَ وِعَاءً، وَحِجْرُهَـــا لَكَ حوَاءً ) ([31])
فالإمام هنا يضرب لنا أروع الصور الأخلاقية في التعامل مع الام لأنها نواة المجتمع واساس صلاحه ويعلمنا كيفية التعامل معها وكيف نصون حقها برؤية قرآنية عميقة وأسلوب بلاغي قل نوعه موظفا كل تقنيات التأثير حتى يصل الى هدفه السامي وهو الرفق بالوالدين مذكرا بالام الام ومعاناتها وماتحملته في سبيل وليدها ، وقد لعب فن الطباق دورا مهما في التاثير في قوله (تشبع وتجوع وتكسوك وتعرى وترويك وتظمأ ) .
وأخيرا نقول ففي هذه الكرة الأرضية التي أضحت كقرية صغيرة تتشابك فيها حياة الشعوب، وجب على الإنسانية مكافحة صنوف العناء والاضطهاد وفقدان الحريات، بتطبيق حقوق الإنسان، التي حرصت كل أمة، بل وكل دولة أن توجه أنامل الفخر إليها في هذا المضمار، اذا يحق لاتباع مذهب اهل البيت ان يفتخروا بامتلاكهم لهذا الإرث العظيم المتمثل برسالة الحقوق للامام السجاد عليه السلام كونها سبقت الدساتير الاوربية بمئات السنين بالدعوة الى احترام الانسان لاخيه الانسان .
الخاتمة :
وبعد هذه الرحلة العلمية مع منهج اهل البيت التربوي ان الأوان ان نسجل اهم النتائج التي توصلت اليها وهي :
ان منهج اهل البيت عليهم السلام امتاز بانه منهج شمولي في التربية والتعليم فهو يراعي الانسان في جميع مراحل حياته فضلا عن مقوماته كونه مخلوق مزدوج الطبيعة المتكونة من روح وعقل وغرائز ، وقد استطاع الامام السجاد عليه السلام بمنهجه التربوي ان يواكب حركة الانسان في جميع مراحله ، حتى انه وضع لكل مرحلة تعاليم خاصة بها .
اظهر البحث ان المنهج التربوي الذي اختطه الامام السجاد عليه السلام امتاز بانه منهج تربوي واقعي يتماشى مع واقع البشرية وانه من الممكن تطبيقه عند توفر الظروف المناسبة له فهو يراعي كل جوانب الانسان من خلال دعوته الى اشباع حاجات الانسان بتوازن تام حتى لا تطغى حاجة على أخرى وقد وضع لكل جانب مقوماته وحدوده الواقعية فلا تقيد مطبق ولا اطلاق للعنان دون تناه .
لاحظ الباحث ان الامام السجاد عليه السلام كان يراعي مسالة التوازن في منهجه التربوي فيضع لكل شيء حدوده وقيوده ، فلا يطغى جانب على جانب اخر ، فهو يراعي حاجات الانسان الروحية والجسدية .
كذلك بين البحث اسبقية الامام السجاد عليه السلام في الحديث عن حقوق الانسان واحترام الاخر من خلال ماتركه لنا من رسالة نفيسة تتمثل برسالة الحقوق واخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين .
المصادر :
خير مانبدا به القران الكريم
اسرار الشهادة المعروف بسر وقعة الطف ، السيد كاظم الحسيني ، تحقيق الشيخ عبد الكريم العقيلي ، منشورات بنت رسول الله (ص) ،د.ت أصول الكافي ، للشيخ الكليني ،دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2001. الأغاني ، لابي الفرج الاصفهاني ، تحقيق الدكتور احسان عباس ، دار صادر ، بيروت . تحف العقول ،الحراني ، دار الاميرة ، بيروت ، 2008م. تطور مفهوم المنهج ، الدكتور وجيه المرسي ، جامعة الازهر ، الموقع التربوي. رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين (ع) للسيد علي خان الشيرازي ، مؤسسة النشر الإسلامي ، جماعة المدرسين قم المقدسة . سيكولوجية النمو والارتقاء ، الدكتور عبد الفتاح دويدار ، دار النهضة ، بيروت ، 1993م. شرح رسالة الحقوق، القبانجي، حسن السيد علي ، دار التفسير - قم، ط3/1416هـ.ق . الصحيفة السجادية ، للامام علي بن الحسين عليه السلام سنة الطبع : 1423هـ /2002منشر وتوزيع : دار العلوم . علل الشرائع ، الشيخ الصدوق ، المكتبة الحيدرية ، النجف الاشرف ، 1385هـ علم النفس التربوي ، الدكتور علي منصور ، دار البصائر بيروت ، 2007م.كشف الغمة في معرفة الأئمة ، تأليف العلامة المحقق أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (رهـ) ، المجمع العالمي . لسان العرب، ابن منظور، جمال الدين، الطبعة الثالثة، دار صادر، بيروت1994.
المحجة البيضاء ، الفيض الكاشاني ، جامعة المدرسين ، قم ، الطبعة الثانية ، د.ت مقتل الحسين عليه السلام ، المقرم ، دار الاميرة ، بيروت ، 2008م مناقب آل أبي طالب ، محمد بن علي ابن شهر اشوب ، دار الأضواء . المناهج التربوية الحديثة، مرعي، توفيق، والحيلة، محمود ، الطبعة الرابعة، دار المسيرة، عمان الأردن 2004م. المنهج مفهومه وأسسه العامة الدكتور خالد حسين أبو عمشة ، مقال علمي منشور في موقع الالوكة ،2017 م نظريات المناهج التربوية ، على احمد مدكور ، دار الفكر العربي ، 2006م. من لايحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق ، دار الاميرة ، بيروت ، 2001م وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، مؤسسة ال البيت ، قم ، الطبعة الأولى ، 1412هـ.
الهوامش:-
[1] - سورة المائدة : اية 48
[2] - المناهج التربوية الحديثة ، مرعي : 21
[3] - لسان العرب : لابن منظور :مادة (نهج)
[4] - المنهج مفهومه وأسسه العامة الدكتور خالد حسين أبو عمشة :3
[5] - تطور مفهوم المنهج ، الدكتور وجيه المرسي :2
[6] - نظريات المناهج التربوية : 188
[7] - المحجة البيضاء : 3/93
[8] - علل الشرائع :103
[9] - علم النفس التربوي : 39
[10] - المصدر نفسه
[11] - للمزيد عن هذا الموضوع ينظر دراسة الدكتور عبد الفتاح دويدار المعنونة ب (سيكولوجية النمو والارتقاء ) :81.
[12] - أصول الكافي :5/354 ، وسائل الشيعة : 20/85.
[13] - ينظر علم النفس التربوي :62
[14] - ينظر تفاصيل القصة كاملة في كتاب مقتل الحسين عليه السلام : 209 ، وكتاب اسرار الشهادة : 387.
[15] - أصول الكافي : 5/347.
[16] - تحف العقول :189
[17] - كشف الغمة :2/349 ، ومستدرك الوسائل : 8/328
[18] - مستدرك الوسائل :8/328
[19] - من لايحضره الفقيه:4/409
[20] - بحار الانوار : 2/173.
[21] - ينظر حقوق الانسان :229
[22] - ينظر الأغاني 10/378 ، والعمدة 165
[23] - مناقب آل أبي طالب 4 : 163
[24] - رياض السالكين للسيد علي خان الشيرازي : 67 ، والصحيفة السجادية ، الإمام زين العابدين .
[25] - سورة البقرة :اية 256
[26] - الصحيفة السجادية ، الإمام زين العابدين
[27] - الصحيفة السجادية :43
[28] - ظاهرتا العبادة والدعاء عند الإمام زين العابدين (عليه السلام):3
[29] - شرح رسالة الحقوق
[30] - سورة الاسراء : اية 70
[31] - شرح رسالة الحقوق :43
اترك تعليق