مساحات من الحرية..

في كثير من الاحيان نقف امام بعض الاستفهامات في مجال الفنون حديثة كانت ام قديمة .. فتارة نجهل بعض الالوان والاشكال ومسمياتها وتارة اخرى نقف امام تقنية فنية او طريقة رسم محيرة .. وفن الكولاج بنوعيه اليدوي و الرقمي الالكتروني هو احد انواع الفنون التي وقف امامها عديد من المتلقين وهم في حيرة من اشكال وهيئات هذه التراكيب الرائعة وكيفية صياغتها .. فن او تقنية الكولاج  هو فن قائم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فني جديد.. وهو متميز عن غيره من الفنون إذ يعتمد على قص ولصق عدة خامات مختلفة معا في لوحة واحدة، وقد لعب هذا الفن دورا بارزا في القرن العشرين باعتباره نوع من أنواع الفن التجريدي .. ولكن اغلب الدراسات تشير الى ان نشأة هذا الفن ترجع لبلاد الصين بعد اختراع الورق في القرن الثاني الميلادي.. والذي كان استخدامه محدودا حتى القرن العاشر الميلادي ، حتى استخدم الخطاطون اليابانيون القصاصات الورقية لكتابة الشعر عليها، وتطور عبر الاجيال المتعاقبة لينتقل الى بلدان العالم الاخرى ويستخدم بين الأوساط الفنية المختلفة ..وقد تنوعت طرق استخدام هذا الفن او التقنية وصولاً الى دخوله عالم التقنيات والبرمجيات الحاسوبية المتطورة حيث اصبح اسلوبا مميزاً في الرسم الالكتروني الحديث تحت عنوان –الكولاج الرقمي -.  اللوحة اعلاه تعتبر مثالاً نموذجياً لتقنية الكولاج الرقمي.. حيث تتكون من مجموعة من القطع المتراكبة ذات الأشكال الهندسية، تمتاز كل قطعة من هذه القطع بخصوصية لونية و درجة شفافية معينة، كما تختلف تلك القطع في مصادرها.. حيث تجمع ما بين الصور المهيأة بشكل مسبق بالحاسوب كأشكال المثلثات و الأعمدة، و ما بين الأشكال غير المنتظمة و العشوائية المرسومة بشكل يدوي كما هو واضح في أسفل اللوحة. من خلال الدراسة الدقيقة للوحة اعلاه يمكننا ملاحظة استقلالية كل جزء من أجزاء العمل من الناحية التركيبية، فالأشكال المثلثة الكبيرة المتكونة من مثلثات صغيرة ذات ألوان متعددة هي كتلة يمكن ملاحظة انعزالها من حيث التكوين بشكل كامل عن باقي الأجزاء كالأعمدة الأيونية في الخلف، كذلك الحال بالنسبة لباقي الأشكال ضمن هذه اللوحة كالمربعات المملؤة بالدوائر و الخطوط الحرة في أسفل العمل، ينسب ذلك الى كون ان التقنية المستخدمة في انشاء هذا العمل هي تقنية الكولاج الرقمي التي تفترض توزيع أشكال العمل ضمنها دون التعمق إلى المعالجة الصورية للإشكال بغرض دمجها و إذابتها في مجمل العمل، أي ان تكوينات هذا العمل  لقد خضعت مكونات هذا العمل لعمليتين اساسيتين، الاولى استقطاع الأشكال من محيطها الخارجي ضمن مكان تواجدها الأصلي و اختيار ما هو انسب منها، يمكن ان نلاحظ ذلك الجزئين السفليين من العمل حيث تظهر عند حدودهما بقايا تفاصيل أخرى قام الفنان باقتطاعها أو استقطاعها، و العملية الثانية هي اختيار مكان ضمن العمل الفني مع باقي الأشكال تجاوراً أو تراكباً، ان الحرية في تطبيق مراحل هذا العمل من حيث فسح المجال للأشكال بالتراكب و إمكانية الاستقطاع و التلصيق هي إمكانيات منحتها تقنية الكولاج الرقمي للفنان من خلال التطبيقات الخاصة بهذه التقنية. إن إمكانية إدخال مفردات واقعية مع الحفاظ على الكتل بشكلها المستقل و إجراء عمليات التجميع التي تتم بعد عمليات قص وتقطيع الأشكال واختيار ما يناسب منها تتم من خلال التراكب المباشر للأجزاء أو من خلال تحويل تلك الأشكال إلى أشكال شفافة بالنسبة التي يراها الفنان ملائمة، هي ضمن الأسس العامة للوحة الكولاج الرقمي، كما يشمل الإدخال الصوري ليس فقط على استخدام الصور الواقعية بل يشمل الصور التي تم إنجازها من قبل الحاسوب في وقت سابق او اجزاء من لوحات رقمية، يتم تجميعها و تركيبها للخروج بصيغة نهائية، تختلف عن الصيغ التي تم اشتقاق العمل منها. على وفق امكانيات المشتغل على تكوينها. بإمكان متأمل هذا العمل الفني ومن خلال التفاصيل العامة لأجزائه ان يتوصل الى ان الأجزاء قد حافظت على دقتها و طبيعتها، حيث يمكن ملاحظة اختلاف الأساس التكويني لأشكال المخططات السفلية ذات اللون الأسود و الأبيض مع أشكال الأعمدة في أعلى العمل ذات طبيعة التكوين الهندسي الدقيق، يعود ذلك الى امكانية التقنية المستخدمة في انشاء العمل وهي تقنية الكولاج الرقمي في المحافظة على التفاصيل الدقيقة لأجزاء العمل وذلك من خلال اعتماد التقنية للتطبيقات التي تتعامل مع الصور ضمن نظام التمثيل الحيزي ، والتي جعلت من ذلك ميزة تركيبية و انشائية ذات طابع جمالي خاص تتفرد به النتاجات الفني لتقنية الكولاج الرقمي على غيرها من التقنيات الرقمية. يمتاز التوزيع اللوني في هذا العمل بالاستقلالية ايضاً ولكل عنصر من عناصره.. حيث لا يوجد هنالك توحيد للجو اللوني ضمن تفاصيل العمل، و نظراً لاستخدام تقنية الكولاج الرقمي للمدخلات الجاهز عند إنشاء العمل .. فيمكننا بذلك استنتاج ان هذه التقنية لا تفترض نظاماً لونياً خاصاً ضمن العمل الفني، وإنما يأخذ العمل الصفة اللونية الخاصة بمكوناته وما هي عليه قبل اجراء عمليات القص و التركيب، الأمر الذي يعزز صفة التراكب ضمن اجزاء العمل الفني و يكسب العمل خصوصية جمالية استطاعت تقنية الكولاج الرقمي تحقيقها ليحاكي نتاجها نتاجات تقنية الكولاج التقليدي.  ومن الجدير بالذكر ان الية التقطيع و الحذف الواضحة جلياً في استخدامها ضمن اجزاء العمل و التي تمت في الأشكال الحرة المتناثرة ضمن مساحة اللوحة.. توضح للمشاهد التعامل المباشر بين الفنان و العمل و ان هذا التعامل تم من خلال الية ادخال و تعامل تمتاز بالدقة العالية ، حيث تستخدم تقنية الكولاج الرقمي كثير من الاليات التي تسمح بالتعامل المباشر بين الفنان ومفردات العمل التشكيلية ليكسبها الجمال... فالجميل في هذه التقنية بشكل عام والرقمي منها بشكل خاص هو مساحة الحرية التي تتركها للفنان لخلق أشياء مبتكرة وجديدة وصنع شيء جميل من لا شيء .

سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات