«مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً» الجانب الفني للنصِّ

المقدّمة

من أبرز النصوص التي بقيت خالدة، هي المحاورة التي جرت بين ابن زياد وبين سليلة بيت النبوة وعقيلة بني هاشم السيدة العظيمة زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام، والتي لا يمكن أن يمرّ منصف على اسمها دون ذكر فضائل وصفات هذه السيدة الجليلة ، وأهمّ ما دار فيها من حوار يحتاج كلّه إلى التأمل والتدقيق، والفحص والتحليل، ولكن يكفيني أن أقف على جملة واحدة منه وردت على لسان السيدة زينب عليها السلام.

 

 في هذا المبحث نحاول أن نعرض الجوانب الفنية للنص، ودراسة ما يحتويه النص من التفافات وإثارات دلالية من مناسبته، ودراسة جوانبه الظاهرة من الدلالات البلاغية والإبداعية، وسيكون المبحث كالآتي:

المطلب الأوّل: مناسبة النصّ

جاءت مقولة بحثنا في مواجهة مريرة بين ابن زياد المنتصر ـ كما يرى هو ـ المتشفي بآل بيت محمد صلى الله عليه وآله، وبين السيدة المسبيّة مع بعض الأطفال والنساء السبايا، من الثكالى والأرامل، تتقدّمهم رؤوس الشهداء المحمولة على الرماح.

روى السيّد ابن طاووس: «أنَّ ابْنَ زِيَادٍ جَلَسَ فِي الْقَصْرِ لِلنَّاسِ وَأذِنَ إِذْناً عَامّاً، وَجِي‏ءَ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ عليه السلام، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُدْخِلَ نِسَاءُ الحُسَيْنِ وَصِبْيَانُهُ إِلَيْهِ، فَجَلَسَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ عليها السلام مُتَنَكِّرَةً، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: الحَمْدُ لله الَّذِي فَضَحَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ. فَقَالَتْ: إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ، وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنَا. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِـمَنِ الْفَلْجُ[1] يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ.

قَالَ: فَغَضِبَ وكَأَنَّهُ هَمَّ بِهَا، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْث: إِنَّهَا امْرَأَةٌ، وَالمَرْأَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَنْطِقِهَا. فَقَالَ لَها ابْنُ زِيَادٍ: لَقَدْ شَفَى الله قَلْبِي مِنْ طَاغِيَتِكِ الحُسَيْنِ وَالْعُصَاةِ المَرَدَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكِ. فَقَالَتْ: لَعَمْرِي، لَقَدْ قَتَلْتَ كَهْلِي، وَقَطَعْتَ فَرْعِي، وَاجْتَثَثْتَ أَصْلِي، فَإِنْ كَانَ هَذَا شِفَاءَكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ. فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: هَذِهِ سَجَّاعَةٌ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ سَجَّاعاً شَاعِراً.

فَقَالَتْ: يَا بْنَ زِيَادٍ مَا لِلْمَرْأَةِ وَالسَّجَاعَةَ»[2].

هذا هو النص، ولكن ممّا فاجأنا في البحث عنه أنّ الرواية غير موثّقة في أغلب كتب التاريخ، كالطبري، والكامل، ومروج الذهب، واليعقوبي، وابن الأثير، فذكروا تفاصيل المحاورة بين ابن زياد والسيدة زينب عليها السلام إلّا أنّهم يغفلون هذا المقطع، فالرواية عند الطبري ترد «فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك! قالت: كُتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم...»[3]، وكذلك عند ابن الأثير بنفس الرواية[4]، أمّا المسعودي فلم يمرّ على الحادثة مطلقاً[5]، وأمّا اليعقوبي ذكر في تاريخه: «... وبادر القوم فاحتزوا راسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن زياد، وانتهبوا مضاربه وابتزوا حرمه، وحملوهنّ إلى الكوفة، فلمّا دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمَن قتلنا؟»[6]. ولهذا الأمر دلالتان مختلفتان تماماً عن بعضهما:

الأُولى: أنّ الرواية لم تُذكر في الكتب المعتبرة عند المؤرّخين، ولهذا لا يجب أن نعتني بها بهذا القدر، ولو كانت الرواية صحيحة معتبرة لاهتمّت بها المصادر المعتبرة القديمة.

الثانية: أنّ للرواية أهمية وخطورة ممّا جعل المؤرّخين القريبين إلى عصر النص، أو حكام بني أُميّة وبني العباس يغفلونها، إمّا خوفاً أو طمعاً.

ولمناقشة الرأيين لا بدّ أن نقدّم مقدّمات:

الأُولى: أنّ القيم الدلالية اللغوية والبلاغية والمؤثرة على المخاطب واضحة بيّنة لا تحتاج إلى مَن يرشد إليها.

الثانية: أنّ تاريخنا الإسلامي ومدونات الحديث والفقه والكلام، كانت قد دونت ونُسخت ووزعت كلّها بإشراف الدولتين الأُموية والعباسية: الأُولى في أواخرها والثانية في بدايتها.

الثالثة: أنّ هاتين الدولتين وما قبلهما وما بعدهما كلّها كانت على عداء واضح لآل البيت عليهم السلام.

الرابعة: أنّ هذه الرواية ليست الوحيدة التي أخفاها المؤرّخون، أو رواة السير! وأوّلها فضل آل البيت عليهم السلام.

تنتهي بنا النتيجة إلى أنّ خطورة هذا النص جعلت المؤرّخين لا يجرؤون على تقديمها ضمن الأحداث المذكورة؛ لأنّها ستقدّم السيدة زينب عليها السلام بهذه الوقفة الصلبة، يتجللها البهاء والعظمة، فيكون مفعول كلامها سارياً في تأثيره على مجرى الأحداث في تاريخ الأُمّة العربية والإسلامية، الأمر الذي يتنافى مع سياستهم في دفع التهم عن البيت الأُموي والعباسي فيما ارتكبوه بحق آل بيت محمد صلى الله عليه وآله، وهذا بذاته يجعلنا نؤمن بأنّ هذه الكلمات لا تخرج إلّا من فم زينب بنت علي عليهما السلام لمِا فيها من بلاغة لا تصدر إلّا من أبناء علي عليهم السلام.

لذلك لم يبقَ لنا إلّا أن نأخذها عن طريق كتب الشيعة، مثل: بحار الأنوار للعلامة المجلسي، ومثير الأحزان لابن نما الحلي، واللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس، ثمّ توالى نشر الرواية وكتابتها في المصادر المتأخرة.

أمّا السيدة زينب عليها السلام، فهي لا تحتاج إلى تعريف، ونكتفي بأنّ تكون الدراسة على المقولة وحدها دون الخوض في سلسلة رواتها؛ لذلك نقف على تحليلها دون الخوض في مقدّمات طويلة، أو إحاطة بما حول النص، ولكن هكذا وردت الرواية في أغلب الكتب التي وردتنا.

وقد أخذنا العمل على جزء صغير من الرواية وتركنا الخوض في الاختلافات التي تنقل بين راوٍ وآخر؛ لأنّ مقولتنا لا اختلاف فيها مطلقاً، وهذا مهم جداً في أنّ النص الذي نذكر مدى أهميته لم نسجل عليه اختلافاً أبداً، وهذا ممّا يسهل عملية البحث.

بعد أن ناقشنا نسبة النص إلى السيدة زينب عليها السلام، وأنّها قالتها في حضرة ومحفل، وقصر، وزهو وشماتة، وعنجهية ابن زياد، وهي امرأة منكوبة بأولادها وإخوتها، وعشيرتها وأصحاب أخيها، وقبل كل ذلك هي مفجوعة بإمام زمانها عليه السلام، ومعها الأطفال، والنساء الثكالى، والإمام العليل، وهي ترى هلع الكبار والصغار من هول  ما أصابهم من نهبٍ وحرقٍ للخيام وعطشٍ يذيب الفؤاد، وأطفال تحت ضغط الجوع تناولوا شيئاً من صدقات أهل الكوفة، فتمنعهم (سلام الله عليها) من ذلك، موبخة أهل الكوفة على ذلك الفعل، إذ ورد في التاريخ: «وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم بنت أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام! وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم، ثمّ قالت: صِه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء»[7].

ويعلّق بعض الباحثين أنّه «أرادت عليها السلام من ردّ عطايا أهل الكوفة، أن تعرّف الناس بأنّ سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول الله الذين فرض الله مودّتهم واتّباعهم»[8]. في حين إنّنا نرى أنّ القضية لا تتمثّل في هذا فحسب، بل كيف يصبر الأطفال الجياع على جوعهم، ويمتثلون لقول قائدة الركب؟ ـ ولأنّ الإمام السجاد عليه السلام ما زال عليلاً، ولو لم يكن كذلك بمشيئة الله لقُتل مع أبيه ـ والسـرُّ يكمن في الأطفال وتربيتهم، وفي شخص السيدة زينب عليها السلام، التي تفرض هيبتها على كلّ شيء، ولو كانت غيرها لقالت: إنّ هذه الحالة من الضرورات، فإن استطاع الكبار الصبر فكيف يمكن للصغار أن يتحملوا الجوع في رحلة السبي؟! وكانوا قد تحملوا العطش في واقعة الطفّ.

هذا هو الظرف المتأجج والملتهب والصعب، ولا يمكن أن ننسى كيف تركت السيدة زينب (عليها السلام) أخاها، إذ وصفت هي ذلك بقولها: «يا محمداه، صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وذريتك مقتّلة، تسفي عليها الصبا!»[9]. عندها سنعلم كيف كانت الحال التي هي عليها، وهو حال كلّ مَن معها ممّن تركن من الشهداء مع الإمام الحسين عليه السلام، وهو حال يجمع كلّ أنواع الأسى والحزن، والأذى والغضب، إلّا الجمال، فكيف كانت السيدة زينب عليها السلام تصف كلّ ذلك بوصف الـ(جميل) دون غيره من الأوصاف؟

ونضع عدّة احتمالات وتساؤلات لنرى لماذا اختارت وصف الجمال لما رأته؟

هل كانت السيدة زينب عليها السلام تريد أن تكابر أمام عدوها؟

هل خانتها لغتها ولم تجد بديلاً عن هذا الوصف؟

هل كانت تريد أن تواسي مَن معها في ركب السبايا؟

هل كانت لا تعني هذا بسبب الذهول أو غيره؟

أم أنّها كانت تقصد كلّ حرف وكلمة قالتهما في تلك الجملة العظيمة في جوابها.

وللرد على هذه الاحتمالات، نقول: إنّ الاحتمال الأوّل غير وارد؛ لأنّها لم تكن في حال يدعو للمكابرة؛ لأنّ جوابها فيه من الكبرياء الكامل الذي لم يترك لمحاورها مجالاً، إضافة إلى أنّها قدِمت إلى الكوفة وتعلم ما سيجري لها؛ لأنّ المنطق يقول: إنّ التي جرى عليها ما جرى في كربلاء لن يكون الطريق أمامها مليئاً بالزهور، بل سيكون استمراراً للطفّ وواقعتها، وربّما أكثر؛ لأنّها في كربلاء كانت بحماية إخوتها وأهلها، فهي متهيأة لهذا الظرف.

أمّا الاحتمال الثاني، فتفنّده اللغة الجزيلة التي تحدّثت بها على مدار واقعة الطفّ وما بعدها، ولا سيّما في مجالس أعداء رسول الله، كان منطقها منطق علي بن أبي طالب عليه السلام، فيسقط هذا الاحتمال بمجرّد النظر إلى بلاغة وفصاحة كلامها عليها السلام.

أمّا احتمال المواساة، فهذا بعيد أيضاً كون مَن معها أثبتوا أنّهم على ثبات ويقين تامّين، أمّا الاحتمال الآخر من أنّها قد تكون مذهولة أو غيره من الأُمور التي تُصيب الناس عند فواجع الدهر ـ وحاشاها ـ فالنصوص تُثبت العكس، والروايات تؤكّد أنّها كانت هي التي تسيطر على الموقف بعد الحسين عليه السلام، وعليه لم يتبقَ لنا إلّا أن نُسلّم أنّ السيدة زينب عليها السلام كانت قاصدة لكلّ ما قالته: «مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً».

المطلب الثاني: تحليل مفردات النصّ

بعد عرض مناسبة النص والحال الذي كان عليه المتحاوران، سنختزل التحليل للنص بالموقف الذي يبدأ من: «قَالَ ابْنُ زِيَادٍ: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ الله بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً»، وهنا سنختار من كلام ابن زياد (كيف، ورأيتِ، وصنع الله)، ونختار من كلام السيدة زينب عليها السلام (ما، وإلّا، ورأيت، جميلاً):

فالسؤال من ابن زياد بـ (كيف) إنّما هو ـ كما يقول النحاة  ـ للدلالة عن السؤال عن الحال[10]، أمّا (رأيت)، فيقول الزبيدي: «أصل الراء» مع الواو والياء «(الرؤية) بالضم إدراك المرئي؛ وذلك أضرب بحس قوى النفس: الأوّل (النظر بالعين) التى هي الحاسة وما يجري مجراها، ومن الأخير قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ فإنّه ممّا أجري مجرى الرؤية بالحاسة، فإنّ الحاسة لا تصح على الله تعالى، وعلى ذلك قوله ﴿يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾، والثاني بالوهم والتخيل نحو أرى أنّ زيداً منطلق، والثالث بالتفكر نحو: إنّي أرى ما لا ترون (و) الرابع (بالقلب)، أي: بالعقل، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ وعلى ذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ قال الجوهري: الرؤية بالعين يعدّى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم يتعدّى إلى مفعولين، يقال: رأى زيداً عالماً، وقال الراغب: رأى إذا عُدّي إلى مفعولين اقتضى معنى العلم وإذا عدّي بـ (إلى) اقتضى معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار»[11].

ويقول صاحب اللسان: «الرُّؤيَة بالعَيْن تَتَعدّى إلى مفعول واحد، وبمعنى العِلْم تتعدّى إلى مفعولين، يقال: رأَى زيداً عالماً، ورَأَى رَأْياً ورُؤْيَةً ورَاءَةً مثل راعَة، وقال ابن سيده: الرُّؤيَةُ النَّظَرُ بالعَيْن والقَلْب»[12].

وبهذا يتفق أصحاب المعاجم على أنّ الرؤية الحقيقية بالعين لها مفعول واحد، ونرى أنّ النص البليغ الذي قالته السيدة زينب عليها السلام في جوابها على ابن زياد، إنّما يتطلّب إمّا أن يكون بأكثر من مفعول؛ كون ما رأته كثير من الحقائق التي تُدرك بالعين وبالقلب وبالفكر، فالسائل نفسه ينتظر منها جواباً مليئاً بالكلمات المعبّرة عمّا رأته ـ سواء ما رأته بالعين المجرّدة، أو ما رأته بالقلب والفكر ـ لكن الذي يفاجئُنا في الأمر أنّها ببلاغتها قد ردّت عليه بأن يتعدّى الفعل بمفعول به واحد فحسب، وتريد به الرؤية العينية والقلبية والفكرية معاً، وهذا لا يتحقق إلّا ببلاغة تشبه بلاغة علي ابن أبي طالب عليه السلام؛ لأنّها لو كانت تقصد الجمال العيني ـ كما يفترضه أصحاب معاجم اللغة ـ لتحتم على للسيدة زينب عليها السلام أن تعبّر بلفظ غير الجمال، وإن كانت تقصد به المجاز، وهي رؤية القلب والفكر يكون عليها التعبير بمفعولين أو ثلاثة مفاعيل، وهنا تكمن البلاغة في التعبير بـ (رأى) العينية، والقصد منها القلبية؛ لأنّ الجمال بذاته هو أمر حسي ويختلف من فرد لآخر ـ كما سنبين ـ إضافة إلى أنّ السائل ما كان يقصد بالسؤال بـ(رأى )العينية؛ لأنّ السؤال بكيف أصلاً للدلالة على الحال، والحال أمر معنوي لا يُدرك بالجوارح، بل بالقلب والعقل والفكر.

أمّا سؤاله عن صنع الله، فالصنع كما يقول الزبيدي: «صَنَعَ الشيءَ صَنْعَاً وصُنْعاً بالفَتْح والضمِّ، أي: عَمِلَه فهو مَصْنُوعٌ وصَنيعٌ. وقال الراغبُ: الصُّنْع: إجادةُ الفِعلِ، وكلُّ صُنْعٍ فِعلٌ، وليسَ كلُّ فِعلٍ صُنْعاً، ولا يُنسَبُ إلى الحَيواناتِ والجَمادات، كما يُنسَبُ إليها الفِعلُ. انتهى»[13]، وهنا تكمن أيضاً دقة سؤال ابن زياد في اختيار لفظ (صنع)، وفي الإضافة إلى لفظ الجلالة، كي يُبيّن أنّ ما جرى على أهل بيت النبوة هو بأمر الله، ومنسوب إلى الله، والبلاغة في الإجابة على نسبة الأمر لله، فلو كان السؤال عن صنعه هو، أو صنع جيشه، أو صنع بني أُميّة، ربّما ما كانت ستُجيب بهذا الجواب؛ لأنّ الصناعة التي نسبها لله، والتي أراد أن يحرجها بها، كان سرّ جمالها كونها منسوبة لله تعالى، أضف إلى أنّه هنا يقصد إجادة الفعل وتمامه وإتقانه، كما يقول أصحاب اللغة، فكما حاول أن يكون سؤاله فيه أكبر قدر من التشفي والشماتة واللؤم على

آل بيت محمد عليهم السلام ـ هذا فضلاً عن الأفعال المرافقة لها من الإساءة لهم ـ كانت حاضرة في ردّ السؤال بصاعقة تزلزل عرشه وقصره، ومَن كان حوله، عندما ردّت عليه:

«مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً»، وهنا تكمن الروعة والبلاغة في قولها من عدّة أُمور:

الإيجاز فلو حذفنا (ما وإلّا) تبقى كلمتان فقط.

سرعة الإجابة، ولو تأخرت أو تلكأت لفقدت الكلمة تأثيرها.

استخدامها للفعل رأيت، وبيّناه قبلاً، من حيث المعنى والاستخدام، ولكن ردها على ابن زياد بنفس اللفظ الذي استخدمه هو، كان أقوى وقعاً

استخدام (ما وإلّا) أدوات الحصر التي تُفيد التوكيد كما هو معروف، أي: إنّها حصـرت ما رأت كلّه بصفة الجمال.

استخدام أدوات الحصر (ما وإلّا ) تمنع أيّ إجابة يحتملها السائل أن تكون ردّاً لجوابه[14]. بقي أن نفهم معنى الجمال الذي ذكرته السيدة العظيمة وسنطيل فيه قليلاً:

الجمال في اللغة: يقول ابن منظور: «والجَمَال: مصدر الجَمِيل، والفعل جَمُل، وقوله}: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾أَي: بهاء وحسن. ابن سيدة الجَمَال: الحسن يكون في الفعل والخَلْق، وقد جَمُل الرجُل بالضم جَمَالاً، فهو جَمِيل وجُمَال... والجَمَال يقع على الصُّوَر والمعاني، ومنه الحديث:إِنّ الله جَمِيل يحب الجَمَال. أَي: حَسَن الأَفعال كامل الأَوصاف»[15]، فالجمال واضح في اللغة من حسن الأفعال وكمال الأوصاف، أمّا في القرآن الكريم فقد ورد لفظ الجمال في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْـرَحُونَ﴾[16]، وفي تفسيرها وتوضيح معنى الجمال يقول الزمخشري في تفسيره: «منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها؛ لأنّه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأنّ الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة ـ فزينت بإراحتها وتسـريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ـ آنست أهلها، وفرحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس»[17] .

أمّا مفهوم الجمال عند الحضارات القديمة قبل الإسلام، فقد كان أبرزها عند فلاسفة اليونان؛ لأنّ الجمال من وجهة نظرنا هي أحلى مراحل الحضارة، وقد ترك لنا التراث اليوناني عدداً من الآراء حول الجمال لا نوردها جميعاً، بل نختار منها بعضاً، فسقراط مثلاً: قد غلبت عليه الآراء الأخلاقية في مفهوم الجمال، فعدّ الجميل مرادفاً للنافع[18]، أمّا أفلاطون فيرى أنّ «الجمال شيء إلهي يرادف الخير، وأنّه معنى مطلق مجرّد غير قابل للتغيير، وقرر أنّ روح الإنسان تمتعت بالجمال الأزلي في الحياة الأُولى، قبل أن تحل بالأجسام في هذا العالم، ومن أجل هذا إذا رأى شيئاً فيه نفخة من الجمال، أخذته الروعة لتذكر ما كان فيه. ومن رأي أفلاطون أنّ الجمال معنى في الشـيء مستقل عن حواسنا»[19].

والجمال في الاستعمالات العربية قبل الإسلام يختلف عنه بعد نزول القرآن الكريم، فقد كان العرب قبل الإسلام يستعملون ألفاظ الجمال على الصور المادية في وصف المرأة، والسيف، والناقة، والخيل، وفي هذا السياق يؤيد الدكتور شوقي ضيف هذا الرأي: «ونراهم يقفون عند المرأة، فيصفون جسدها، ولا يكادون يتركون شيئاً فيها دون وصف لها، إذ يتعرّضون لجبينها وخدها، وعنقها وصدرها، وعينها، وفمها وريقها، ومعصمها وساقها، وثديها وشعرها، كما يتعرضون لثيابها وزينتها، وحليها وطيبها، وحيائها وعفتها...»[20]، بينما نجد أنّ الجمال بعد الإسلام أخذ منحىً آخر، فهو أضاف إلى الكمالات المادية المفاهيم والمعاني المعنوية والروحية من غير إفراط ولا تفريط بين الصورة والمعنى الحسـي، ونجد هذا في فعل الرسول صلى الله عليه وآله عندما كان يهتم بالنظافة ويدعو إليها، ويهتم بالمسجد، وأخذ الزينة عند دخول المسجد رغم نهيه عن التبرج والمبالغة والإسراف، وغيرها من كمالات الأُمور التي تملأ كتب السيرة النبوية.

وقد عرف الفكر العربي ولا سيّما فلاسفة العرب فلسفة الجمال، فبدأت في الظهور في مطلع القرن الثالث، ولم تتبلور نهائياً إلّا في القرن الثامن الهجري، بعد أن ساهم فيها أعلام كُثر، من أبرزهم التوحيدي(410هـ)، وابن سينا(428)، والسهروردي(588هـ)، وابن عربي(638هـ)، وابن سبعين(649هـ)، وابن الدباغ(696هـ)، وابن الخطيب(676هـ). وكانت هذه الفلسفة نتيجة لكلّ العلوم العربية الإسلامية التي ظهرت بعد الفقه، وهي: علم الكلام، والفلسفة، والفكر العرفاني، يضاف إليها كلّ العلوم التطبيقية الأُخرى، مرتبة ترتيباً زمنياً، ومرتبطة في ظهورها بحاجات المجتمع العربي الإسلامي وتطوره[21].

أمّا سرّ الفلسفة التي جاءت بها السيدة زينب عليها السلام، فهو هذا الانتماء إلى مدرسة علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء عليهما السلام، وهما الامتداد إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله، وبلا شك هم الطريق إلى الله، والله هو عنوان الجمال، وهو الذي من أسمائه الجميل؛ لذلك ما يأتي من الله عند السيدة زينب عليها السلام بلا شك سيكون جميلاً.

 

الكاتب: م. د. كواكب باقر الفاضلي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السابع عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________________

[1] «الفلج: الظفر والفوز». الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين: ج3، ص425.

[2] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص115ـ116. ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص10ـ11.

[3] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك: ج4، ص651ـ652.

[4] اُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص367.

[5] اُنظر: المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج3، ص80ـ82.

[6] اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص158.

[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص114.

[8] معهد سيد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسيني، رحلة السبي: ص14.

[9] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص81.

[10] تعرّف أدوات الاستفهام بأنّها: أدوات مبهمة، تُستعمل في طلب الفهم بالشيء، والعلم به. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح، لتعيين الحال. نحو: كيف حالك؟ ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) آل عمران: آية101. موقع موضوع، قسم اللغة العربية:

 

 http://mawdoo3.com.

[11] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج10، ص8257.

[12] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج14، ص291.

[13] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج11، ص248.

[14] أدوات الحصر إنّما، إلّا، وتقديم المعمول نحو: (ﭢ ﭣ)، وتقديم المسند. وفي أدوات القصر، يقول الأخضري في الجوهر المكنون: وأدوات القصر (إلّا، إنّما، حصر وتقديم) كما تقدَّما، والحصر، والقصر سواء. موقع منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية:  

  http://www.m-a-arabia.com/vb/showthread.php?t=11191.

[15] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج11، ص126.

[16] النحل: آية 6.

[17] الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: ج2، ص571. وفي المكتبة الشاملة:

http://www.altafsir.com.

[18] لمزيد من التفصيل في آراء وتعاريف الجمال عند المفكرين العرب وغيرهم، اُنظر: حسن، ماجد محمد، مفهوم الجمال في الفكر الإسلامي، عن موقع:

http://www.rezgar.com.

[19] المصدر السابق.

[20] ضيف، شوقي، العصر الجاهلي: ص212ـ213.

[21] اُنظر: ابن الخطيب، لسان الدين، روضة التعريف بالحبّ الشريف.

 

المرفقات