واقعة الحَرَّة.. وصمة من التاريخ الأموي حقيقةً يأنف القلم من ذكر اسم هذا المجرم الذي شوّهت مخازيه وبوائقه صحائف التاريخ واشمأزت الأجيال من سيرته البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية ويقشعر لها الضمير الإنساني الحي, فهذا المنحرف الذي نشأ جانحاً نحو كل رذيلة ميالاً إلى كل موبقة لم يترك كبيرة أو صغيرة من الآثام والجرائم إلا وجاء بها فكان خليعاً مستهتراً مدمناً على الخمور واللهو والعبث مع الكلاب والقردة، ملحداً حاقداً على الإسلام والنبي وأهل بيته. ورث هذا الحقد عن أبيه وجده رأسي الكفر والنفاق, أنه يزيد بن معاوية سليل الشجرة الملعونة في القرآن، الذي تولى الخلافة بعد أبيه معاوية لمدة ثلاث سنوات أرتكب فيها من الجرائم البشعة والمجازر الرهيبة والفظائع المهولة، ما لم ترتكبه طواغيت العصور, فلوّث التاريخ بصحائفه البشعة وجرائمه المنكرة، التي جعلته في الحضيض الأدنى من الغي والظلال والطغيان. في السنة الأولى لخلافته المشؤومة قتل سيد شباب أهل الجنة وسبط الرسول الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، ولم يسلم من القتل حتى الطفل الرضيع، وسبى نساء آل بيت النبوة من كربلاء إلى الشام, أما في السنة الثانية فقد أرسل جيشاً أستباح به مدينة رسول الله (ص) المدينة المنورة ثلاثة أيام، وفي السنة الثالثة رمى الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وفي أثناء ذلك عجل الله بروحه إلى النار. ولرب سائل يسأل ما الذي يدعو إلى الكتابة عن هذه الشخصية المنحرفة التي امتلأت جوانبها بالمخازي والوحشية والسادية، وأي جانب من جوانبها يستحق الكتابة؟ ربما يجد القارئ جواب ذلك في القنوات الفضائية المرتزقة والأقلام المأجورة التي تنعق بالأباطيل والأراجيف ليل نهار فعلى الرغم من أن كتب التاريخ لدى الفريقين امتلأت بمخازي هذا المنحرف، وقد ذكر المؤلفون والمؤرخون والمحققون على مر العصور كفره وزندقته وفسقه ووحشيته ما لا مجال لحصره، إلا أنك تجد من تحدّر من تلك الشجرة الملعونة وأشرأب في قلبه نزعاتها الإجرامية وراقت له قسوتها ووحشيتها وجُبلت نفسه على شاكلتها فراح يبرئ ساحة هذا المجرم ويبرر أعماله الوحشية، أليس من العجيب أن تجد من يقول: (أن الحسين قتل بسيف جده لأنه خرج على إمام زمانه يزيد بعد أن تمت البيعة له وكملت شروط الخلافة بأجماع أهل الحل والعقد ولم يظهر منه ما يشينه ويزري به)! والله أن هذا الكلام لهو العجب العجاب والأعجب من هذا أن هذه الكلمات المسمومة التي أطلقها أبن عربي في العواصم والقواصم لم تكن الوحيدة، فقد نسج على منوالها الضال عدد من المنحرفين ووعاظ السلاطين، من هم على شاكلة شريح القاضي وأبي هريرة وسمرة بن جندب، فحذا حذو ابن عربي في غيه وضلالته عبد المغيث بن زهير الحربي الذي ألف كتاباً في فضائل يزيد بن معاوية! ولا أدري هل جعل شرب الخمر والعربدة مع القرود والكلاب والكفر فضيلة وقتل سيد شباب أهل الجنة من أفضل الفضائل!!! وجرى في هذا الضلال والإسفاف أيضاً الحفناوي، في كتابه أبو سفيان شيخ الأموين وتبعه في زمرة الضلالة والانحراف محمد الخضري، الذي شجب جميع الثورات التي قامت ضد السلطة الأموية وأعتبرها خروجاً على الدولة الإسلامية!!! وكأن ابن عربي ومن جرى مجراه من هؤلاء قد نسوا أو تناسوا الأحاديث الشريفة الكثيرة، في وجوب مقارعة الظلم والاستبداد والثورة على الظالمين، ووجوب الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن في أذانهم وقراً، ولم يسمعوا الحديث الشريف: (أفضل الجهاد عند الله كلمة الحق في وجه سلطان جائر) والحديث الشريف: (من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهده مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله). وهذا ما دعا الإمام الحسين (ع) للخروج على يزيد ورفع راية الرفض ضده وقد صرح هو (ع) بهذا الهدف السامي الذي قصده عند خروجه قائلاً: (أني لم أخرج أشراً و لا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً أنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر واسير بسيرة جدي (ص) وأبي علي بن أبي طالب). كلا أنهم لم ينسوا هذه الأحاديث ولكنها لا تعنيهم كما كانت هذه الأحاديث الشريفة لا تعني أبا هريرة و سمرة بن جندب، فالذي يعنيهم ما تدر أحاديثهم المنحرفة والمختلقة من أرباح من قبل السلطة. فالتاريخ يشهد على جرائم يزيد البشعة وأعماله القذرة وهي كافية لفضح هؤلاء المرتزقة من وعاظ السلاطين، ومن حذا حذوهم, فهذا الشوكاني ينتفض على هؤلاء وغيرهم من أهل الضلالات فيقول: (ولقد أفرط البعض فحكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغٍ على الخمير السكير الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنه الله فيا للعجب من مقالات تقشعر منها الجلود ويتصدع من سماعها كل جلمود). (1) من هو يزيد من يتحرّى حقائق التاريخ يجد هذه الشخصية الشاذة على حقيقتها البشعة الدموية نقطة سوداء وبؤرة رجس ووصمة عار، كانت ولادته المشؤومة عام (26هـ) حينما كان أبوه عاملاً على الشام من قبل عثمان، أمه ميسون بنت بجدل الكلبية, أبوه معاوية من الطلقاء ومن الذين أسلموا كرهاً بعد عدائه الطويل للإسلام والرسول (ص)، ثم تزعّم الفئة الباغية التي قاتلت أمير المؤمنين (ع) في صفين, عمه حنظلة بن أبي سفيان من رؤوس الكفر قتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يوم بدر، جده أبو سفيان ألد أعداء الرسول محمد (ص) وهو القائل: (أحب الناس ألينا من أعاننا على عداوة محمد). جدته هند بنت عتبة شقت بطن الحمزة (ع) عم الرسول (ص) وأخرجت كبده بعد استشهاده في معركة أحد!!! هذا هو نسب يزيد الموغل في عدائه للإسلام، والعريق في محاربته الرسول (ص) فكيف يكون من ينشأ في هذه الاجواء؟ لقد نشأ متمرداً على الإسلام حاقداً على المسلمين وخاصة على آل الرسول (ص) منحرفاً عن المبادىء الإنسانية شاذاً عن القيم الأخلاقية والدينية. أما تاريخه فأليك بعض أقوال المؤرخين فيه، روى أبو الفرج الأصفهاني: (كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام، وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه والأخطل الشاعر النصراني). (2) وروى مثله البلاذري في أنساب الاشراف وابن كثير في البداية والنهاية وقال الجاحظ: (المنكرات التي أقترفها يزيد من قتل الحسين وحمله بنات رسول الله (ص) سبايا وقرعه ثنايا الحسين بالعود وإخافته أهل المدينة وهدم الكعبة تدل على القسوة والغلظة والنصب وسوء الرأي والحقد والبغضاء والنفاق والخروج من الإيمان فالفاسق ملعون ومن نهى عن شتم الملعون فملعون). (3) وقال الذهبي في سير النبلاء: (كان يزيد بن معاوية ناصبياً فظاً غليظاً جلفاً يتناول المسكر ويفعل المنكر أفتتح دولته بقتل الحسين الشهيد وختمها بوقعة الحرة فمقته الناس ولم يبارك في عمره). (4) وقال السيد مير علي الهندي: (فكان ــ أي يزيد ــ قاسياً غدّاراً كأبيه ولكنه ليس داهية مثله بل كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة وكانت طبيعته المنحلة وخلقه المنحط لا تتسرب إليها شفقة ولا عدل كان يقتل ويعذب نشداناً للمتعة واللذة التي يشعر بها وهو ينظر إلى آلام الآخرين وكان بؤرة لأبشع الرذائل وهاهم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك لقد كانوا حثالة المجتمع). (5) وقال الشيخ محمد عبده: (أذا وجدت في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع وحكومة جائرة تعطله وجب على كل مسلم نصر الأولى ثم قال: ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول (ص) على إمام الجور والبغي الذي ولي المسلمين بالقوة والمكر يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من انتصر له). (6) هذا غيض من فيض من أقوال المؤرخين والمؤلفين من المتقدمين والمتأخرين في يزيد، عدا قصص الخلاعة والمجون وأشعاره التي صرح فيها بكفره ومجالس اللهو التي كان يقيمها والتي لا يسعنا ذكرها فهي تحتاج إلى فصل مطول. أما لهوه واستهتاره فينقل ابن الطقطقي هذه الرواية: (كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به وكان يلبس في الصيد الأساور من الذهب والجلاجل المنسوجة منه ويهب لكل كلب عبداً يخدمه) (7). واقعة الحرة أما جرائم يزيد فكثيرة سطرتها مصادر التاريخ وكان من أبشعها بعد مقتل سيد الشهداء وأهل بيته وأصحابه وسبي نسائه جريمته هي واقعة الحرة فقد روي الواقدي وأبن اسحاق وغيرهما من المؤرخين: أن جماعة من أهل المدينة وفدوا على يزيد سنة أثنين وستين بعد ما قتل الحسين (ع) فرأوه يشرب الخمر ويلعب بالطنابير والكلاب فلما عادوا إلى المدينة أظهروا سبه وخلعوه وطردوا عامله عثمان بن محمد بن أبي سفيان وقالوا لأهل المدينة: قدمنا من عند رجل لا دين له يسكر ويدع الصلاة وينكح الأمهات وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل فكان حنظلة يقول: يا قوم والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء فأرسل اليهم يزيد المجرم مسلم بن عقبة المري فدخل المدينة وأباحها لجيشه ثلاثة أيام يسفكون الدماء ويعبثون بالإماء فأفتض فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار كما نص على ذلك السيوطي في تاريخ الخلفاء والشبراوي في الاتحاف، وقتل يومئذُ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم وسائر المسلمين أكثر من عشرة آلاف كما في الإمامة والسياسة لأبن قتيبة الدينوري وغيره من التواريخ. ويروي المؤرخون صورة مروعة من صور هذه المجزرة الرهيبة فروي: (وقتل من النساء والصبيان عدد كثير وكان الجندي يأخذ برجل الرضيع فيجذبه من أمه ويضرب به الحائط فينشر دماءه على الأرض وأمه تنظر أليه)، فهل شهد التاريخ مثل هذه الوحشية التي لا تجد مثيلاً لها حتى عند أكثر الأقوام وحشية وهمجية, ثم أمِروا بالبيعة ليزيد على أنهم خول وعبيد أن شاء أسترق وأن شاء أعتق فبايعوه على ذلك وأموالهم مسلوبة ورحالهم منهوبة ودماؤهم مسفوكة وأعراضهم مهتوكة، وبعث المجرم بن عقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد. هذه جريمة واحدة من جرائم يزيد ولنا أن نسأل أبن عربي ومن حذا حذوه ورأى رأيه في تبرئته هذا المجرم ما هو قولكم في هذه المجزرة؟ وأين هي من قول رسول الله (ص) في دعائه على من أخاف أهل المدينة: (من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فإذا كان دعاؤه هذا على من أخاف أهلها فكيف يكون دعاؤه (ص) على من أباحها وأبادها!! هذه واحدة من جرائم يزيد ولو تقصّينا جرائمه لطال الحديث كما قال الهراسي عندما أستفتي في يزيد فكتب فصلاً واسعاً من مخازيه حتى نفد الورق ثم قال: لو مددت ببياض لممدت العنان في مخازي هذا الرجل. محمد طاهر الصفار ............................................................................................... 1 ـــ نيل الأوطار ج 7 ص 147 2 ـــ الأغاني ج 16 ص 68 3 ــ رسائل الجاحظ ص 298 الرسالة الحادية عشر في بني أمية 4 ـــ سير النبلاء 5 ــ روح الإسلام ص 216 6 ــ تفسير المنار ج 1 ص 367 7 ـــ الآداب السلطانية فصل 1 ص 38
اترك تعليق