نحو قبلة الاحرار..

هذا المشهد برمّته يجعل المشاهد إزاء صورة كلية تنبعث في تشكيلة خاصة لمنطق التحرّر من سطوة الدنيا.. بوصفه محركاً للصور الفطرية المختزنة في العقول، حيث تبدو المعالجات البسيطة للأشكال المرسومة مسوغاً لتحرير الإدراك والذاكرة بفعل انتمائهما إلى العمليات المصاحبة للعقل، فالإدراك هنا ذو علاقة وطيدة بالمدرك المتخيّل وهو حب الحسين عليه السلام المحتوم على كل موالٍ لآل بيت النبوة الأطهار. من المؤكد إن ذاكرة الإنسان وارتباطاته الروحية العقائدية هي من تقرّر إلى أي مدىً يمكن له أن يتمتع بمثل هذه الصورة الفنية ويتأثّر بها.. إذ تُشيد هذه الأعمال وفق منظومة اتصالية ادراكية يستحضر من خلالها الفنان الرموز ليكوّن عالماً منسجماً مع ذاته ومؤثراً بشكل مباشر على المتلقي، وهذا ما اجتهد به الفنان الإيراني عبد الحميد قديريان عند صياغته  للعناصر المكوّنة لهذه اللوحة الفنية الاستثنائية . صوّر قديريان في هذه اللوحة مشهداً من المسيرة المليونية لزائري الإمام الحسين في الذكرى السنوية لأربعينية استشهاده .. وقد أدى الخيال هنا دوراً فاعلاً في توسيع دلالات الواقع، حيث تعجز الأفكار والمقولات العقلية عن تمييز المكان الواقعي المتمثل في اللوحة وعن امكانية تحديد زمان الحدث، فقد عمد عبد الحميد وبدراية تامة إلى جعل اللوحة تشتغل من خلال استعارات يتفحّصها ذهن المشاهد لإعطاء حلول ناجعة  لتساؤلاته ( الزمان والمكان ).. وهذه الاستعارات قد جاءت مناسبة لعملية البناء الفني، من خلال احترافية الفنان التي جعلت من إدائه مرتكزاً لتحرير الشكل العام من الأسس المقيدة للخيال وتقريبه من أسس فطرية روحية ذات ارتباط وثيق بعمق ذاكرته ومن ثم ذاكرة المشاهد . طَمس الفنان حين تنفيذه لهذه اللوحة الخطوط دون الإيماء إليها حتى بتوضيح الحدود الفاصلة بين المساحات اللونية، فقد حصر همّه في تصوير الفضاءات الشاسعة المحركة للأحاسيس البصرية التي تعكسها النظرة الخاطفة مباشرة من شبكة العين ( من مبادئ المدرسة الانطباعية في الفن ) وهذه الاحساسات ترجع إلى الضوء الذي تعكسه الأشياء على عَصب الإبصار وهو واضح في اللوحة من خلال شفافية ألوان السماء الزرقاء والأضواء المنسابة منها وإليها من أرض كربلاء الموضحة في أقصى اليسار بالنسبة للمشاهد..  فسجل الفنان بذلك ما تُبصره العين فعلاً من ضوء وعما يعرفه بذهنه من صور الأشياء وواقعيتها . اللوحة غنية بالعلاقات اللونية التي تَسر الناظرين ومنها اعتماده الكبير على تفاعُل الضوء والهواء، فقد استخدم الفنان الألوان الحارة مع الباردة كالأحمر والبرتقالي والأزرق والرمادي والأخضر ، ونلاحظ أن الفنان هنا مَزَج وبشكل متدرج بين الألوان المُستعملة للسماء واللون الذهبي الغالب على المرقدين الشريفين في يسار اللوحة وكأنها بقعة واحدة لا تتجزأ.. ولم يكُن للخطوط الصريحة دوراً بارزً في تكوين أشكال اللوحة وملامحها فقد سلّط الفنان جُلّ اهتمامه على مساحات اللون وانسحاباته التي تقوم بدورها بفصل الكُتل والسطوح عن بعضها البعض، واستخدم الألوان الأكثر شفافية بامتدادات وضربات ريشته الذكية ليُظهر فضاءات لونية متناسقة مع بعضها البعض للتعبير عن الضوء المعبّر عن المقدسات للوصول إلى تأثيرات قوية زاخرة بالألوان ذات الملامس الحية .                          إن محاولة الفنان لاقتناص اللحظة الزمنية الزائلة وملاحقة انطباعه البصري كما يستشعره ، دفع به إلى الابتعاد بالأشكال عن متعلقات الوصف، فأسقط من حسابها الخطوط الخارجية الصريحة حتى فقدت ملامحها وتداخلت مع بعضها البعض ومع جو اللوحة في مزيج لوني موحد وكأنه مزيج روحي.  ويمكننا القول أيضاً.. أن هذه اللوحة لم تكن بناءً شكلياً جميلاً فحسب، بل ومخططاً فكرياً عقائدياً تهيمن فيه الدلالة وتتسامى فيه المدركات الحسية.. لتصل إلى مفهوم الامتداد والمطلق أو مثال الجمال الذي يرادف مفهوم الحرية عند الفنان المسلم، مقتربة من الضرورة الروحية التي انجزت لأجلها في النزوع نحو مواساة أهل البيت ونصرة المظلوم والإيمان بثورة الحسين. سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات