الأربعين .. موسم الحزن المقدّس .. نظرة اجتماعية وتاريخية

ليوم الأربعين بعد الوفاة أهمية خاصة من قبل أهل الفقيد حيث يقومون بإسداء البِرِّ إليه وَعَدّ مزاياه في عَقد مجلس تأبيني يُقام تخليداً لذكره والترحّم على روحه, والاعتناء بهذه المناسبة عادة عربية ـ إسلامية ترتبط بأهمية العدد (أربعين) وقدسيته. ولم تكن بداية هذه العادة مع مجيء الإسلام كما لم يكن الاحتفاء بها منحصراً على الإسلام، فهي عادة قديمة كانت تقام في الديانات الأخرى كالنصرانية واليهودية والحضارات القديمة كالسومرية والبابلية والفرعونية. فالحِداد على الميت أربعين يوماً طريقة مألوفة وعادة متوارثة بين الناس وفي اليوم الأربعين من وفاته يقيم فيه أهل الفقيد على قبره تأبيناً يحضره أقاربه وخاصّته وأصدقاؤه. الأربعين في الحضارات القديمة وتشير الدراسات الانثروبولوجية إلى أن هذه العادة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ لكنها اختلفت في نسبتها فقيل إنها تعود إلى عصور الفراعنة القدماء حيث رافقت عملية التحنيط التي بدأت منذ عهد سلالتهم الأولى (3100 ق . م) وذلك لأن عملية تحنيط الميت تتم في أربعين يوماً ثم يقام بعد ذلك عزاء آخر لدفنه وبقيت هذه العادة في مصر بعد أن دخلتها المسيحية ومازالت هذه العادة تقام عند المصريين إلى الآن حيث يحيون ذكرى الميت بقراءة القرآن وإقامة الولائم على روح الميت ويلبسون السواد عليه حتى نهاية الأربعين. وقيل أيضاً إن هذه العادة تعود إلى السومريين والبابليين حيث كانوا يعتقدون أن روح الميت تبقى بين أهله وتطوف حول منزله أربعين يوما ثم ترحل نهائيا عنه ويعزو هذا المعتقد سبب بقائها إلى أنها تبقى لكي يعوض عنها الإله إنليل ــ إله المطر ــ والذي يأتي في ترتيب العظمة عندهم بعد (آنو) إله السماء ويأتي اعتقادهم هذا نتيجة عوامل طبيعية فالإله إنليل هو الموكل بالأمطار والبرد الشديد العواصف الرعدية وغيرها من الظواهر التي ترافق أيام الذروة (الأربعين) من الشتاء والتي تبدأ في العشرة الأخيرة من شهر كانون الأول وحتى نهاية كانون الثاني هو من يختص ويتحكم بهذه الأيام (المباركة) وهي أيامه المفضلة والتي يسميها العراقيون بـ (المربعانية) فعدها السومريون والبابليون أياماً مقدسة, حيث يقوم أهل الميت بعد أربعين يوما بتوزيع الطعام وإقامة الولائم لروح الميت ولا يزال هذا المعتقد بأن روح الميت تطوف حول منزله أربعين يوما سائدا عند بعض الناس في العراق وخاصة في المنطقة الوسطى.  ولا تقتصر قدسية هذه الأيام (الأربعين) على الميت فقط بل إن لها خاصية عند المرأة بعد الولادة وطفلها معاً حيث إن دورة التخصيب تعود إليها بعد أربعين يوما بعد أن فارقتها طوال فترة الحمل وخلال هذه الفترة تكون غزيرة الحليب أما بالنسبة إلى الطفل فإنه يكون بعد هذه الأيام قد تعرف على ملامح أمه وتمييزها عن غيرها.   الأربعين عند المسيحيين  لهذا اليوم عند النصارى أهمية خاصة فهم يقيمون حفلاً تأبينياً على الميت بعد أربعين يوماً من وفاة فقيدهم، يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه والمسماة عندهم بصلاة الجنازة، ويفعلون ذلك في نصف السنة وعند تمامها إعادة لذكراه وتنويهاً به وبآثاره وأعماله.   الأربعين في الإسلام من خصائص العدد (أربعين) في الإسلام أنه ورد في القرآن الكريم وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) عدة مرات كما ورد في كثير من تفسير الآيات الشريفة، وكذلك في أقوال المفسرين ومن كل المذاهب لكثير من الآيات القرآنية ونكتفي بإيراد مثال واحد على كل من هذه الشواهد ففي القرآن الكريم ورد العدد (أربعين) في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ (1)  وفي الأحاديث الشريفة جاء قوله (صلى الله عليه وآله) في مصادر الفريقين: (إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً). (2) كما روى ابن قولويه عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) إنه قال: (إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً) (3) .  كما ورد أيضا في التفاسير والروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (إن آدم (عليه السلام) بكى على هابيل أربعين يوما) (4) أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) تأتي خصوصية إقامة الشعائر الحسينية في يوم أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) المصادف في العشرين من صفر كونها تشكل إحياءً لنهضته الإصلاحية وتعاليمه الأخلاقية ومبادئه النبوية فإن قضية سيد الشهداء هي التي ميّزت بين دعوة الحق والباطل ولولا نهضة الحسين ووقوفه بوجه الظلم والطغيان الأموي لكاد الاسلام ان يندثر حتى قيل: إن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء، وما قام به الإمام الحسين في نهضته الإصلاحية كان امتداداً لدعوة الرسول لنشر الإسلام  وهو (عليه السلام) كان الامتداد الطبيعي للنبي (صلى الله عليه وآله) بنص حديث الرسول: حسين مني وانا من حسين. كما وتأتي خصوصيتها أيضاً لاستذكار الفاجعة التي جرت على أهل البيت في يوم عاشوراء وما صاحبها من المآسي والآلام وتعريف الناس بجور بني أمية وأذنابهم. كما تتزامن إقامة الشعائر الحسينية في يوم الأربعين مع ذكرى رجوع الرأس الشريف من الشام إلى العراق، ودفنه مع الجسد الطاهر في يوم العشرين من صفر كما جاء في الروايات، ويسمى هذا اليوم في العراق (( مَرَد الراس)) فتقام الشعائر استذكاراً لهذه الحادثة الأليمة فتتجدد الأحزان.  الزيارة.. الشعائر والاحصائيات منذ أن التقى الإمام زين العابدين (عليه السلام) في كربلاء بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري أصبحت كربلاء قبلة للزوار في يوم العشرين من صفر ــ أربعين الامام الحسين ــ حيث يؤمها الملايين من المسلمين من كثير من البلدان العربية والإسلامية ـ أضافة إلى محافظات العراق.  وأصبح الزوار يتزايدون سنة بعد أخرى وتشير الإحصائيات إلى أن عدد الزوار يوم الأربعين سنة (1968) بلغ أكثر من نصف مليون زائر، وارتفع عددهم في بداية السبعينات إلى حوالي مليون زائر حتى بدأت سلطات نظام البعث البائد بمحاولات عقيمة لمنع الزوار من إداء زيارة الأربعين خوفاً من النقمة وتحسّباً من الثورة ضد الظلم والطغيان، وقد ذهب بسبب هذه الإجراءات القمعية والتعسفية آلاف المؤمنين بين شهيد ومسجون ومعذَب على أيدي أزلام نظام الدكتاتور صدام، ولكن بعد رياح التغيير التي هبت على العراق ونهاية الدكتاتورية الصدامية انفسح المجال للمسلمين لزيارة الإمام الحسين حتى وصلت أعداد الزائرين (في زيارة الأربعين) خلال السنوات التي أعقبت 2003 أكثر من خمسة ملايين زائر، بينما بعض وسائل الاعلام قدرت أعداد الزائرين بـ ثمانية ملايين زائر، جاء أغلبهم من مدن العراق المختلفة وكذلك من الدول العربية والإسلامية وخاصة من إيران ولبنان والهند وباكستان والبحرين والكويت والسعودية. وخلال إقامة الشعائر الحسينية في يوم الأربعين في كربلاء يصل عدد المواكب الحسينية إلى ألفي موكب أحيانا، يتوزعون بين مقرات المواكب والحسينيات والمساجد، وكذلك الفنادق والمقاهي والمطاعم بحيث يضطر الألوف من الزائرين إلى قضاء ليلة زيارة الأربعين في الصحنين الشريفين للحسين والعباس، إضافة إلى افتراش الشوارع والأزقّة.  كما تضطر بعض المواكب الوافدة إلى كربلاء إلى نصب خيام خارج المدينة أو في أطرافها وتنظيم أمورها لتقديم المنام والمأكل والمشرب لأفرادها وضيوفها من الزائرين.  وخلال إقامة مواكب العزاء في كربلاء يتبادل أفراد المواكب الزيارات فيما بينهم للتعارف وتقديم الخدمات لبعضهم البعض والاستماع للخطب والقصائد التي تقام بهذه المناسبة والتي تعبر عن اعتزازهم بتضحيات الإمام الحسين وأخيه العباس من أجل الإسلام وحبهم وتفانيهم في خدمة الزائرين. محمد طاهر الصفار ...................................................... 1 ــ البقرة: آية 51 2 ــ الماوردي في تفسيره للآية الكريمة  ج 25 سورة الدخان قوله تعالى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ) ج 25 عن مجاهد كذلك ورد في الدر المنثور للسيوطي عن ابن عباس وغيرها من التفاسير. أمالي الطوسي ص 535 3 ــ كامل الزيارات ص 90 باب 28  4 ــ تفسير الميزان قصة آدم ـــ بحار الانوار ج 11 ص 239 ـ 240 ، رقم : 28 ــ مجموعة الشيخ ورام  ج 2 ص 276 . 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار