هناك حقيقة تاريخية الا وهي بعد وفاة النبي الاعظم محمد " صلى الله عليه واله" حدثت انتكاسة في تاريخ الدولة الاسلامية، اذ استطاعت الفئة الاموية المعادية للإسلام، ان يستعيدوا نفوذهم ومركزهم في المجتمع الاسلامي، بعد ان عزلهم النبي الاكرم محمد " صلى الله عليه واله" عن مواقعهم وجردهم من نفوذهم ودورهم السياسي والاجتماعي. الا انهم عادوا الى مكانتهم وسلطانهم عن طريق الاستيلاء على مواقع الخلافة الاسلامية، فظهر بشكل واضح خلال الحكم الاموي تجاوزه على الاحكام الشريعة وثوابت الدعوة الاسلامية، وكان ذلك من خلال منصب الخلافة الذي استولى عليه معاوية بن ابي سفيان.
فكان الامام الحسين "عليه السلام" يراقب عن كثب ما آلت اليه الامور خلال هذه المرحلة التاريخية الحرجة . وبذلك قرر الامام "عليه السلام" الوقوف في وجه الحاكم الجائر والمنحرف، والقضاء على ثقافة الاستسلام والتخدير والتبرير، وكشف مفاسد النظام الاموي وانحرافاته متجسدا في قوله:" الاصلاح في امة جدي... وأسير بسيرة جدي وأبى علي بن أبى طالب " الإصلاح بمعناه الدقيق هو الاصلاح السياسي لنظام الحكم، وكان ذلك من خلال الدفع بتغير النظام.
وعليه فام مواقف الامام الحسين "عليه السلام" تتجسد اساساً على الاصلاح السياسي لجهاز الخلافة، من خلال رفضه كل اجراءات وسياسات معاوية ويزيد متمثلة برفضه بتولية شخص مفسد ومستبد ومرفوض من قبل الجميع ليكون ولي العهد وهذا كان واضحا من قوله لمعاوية :" ... تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصِف محجوباً، أو تُنعت غائباً، ... وقد دلّ يزيد من نفسه على موقِع أبيه..."([1])، وثانيا رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية بشكل علني وكان واضحا في قوله" وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد"([2])، مما اسفر هذا الرفض الاعلان الرسمي لثورة الامام الحسين "عليه السلام" ضد الحكم الاموي وقد عبر عن هذا المفهوم احد الباحثين بقوله" مات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامة اهل العراق بنوع خاص، يرون بغض بني امية، وحب اهل البيت لأنفسهم ديناً"([3]) .
بناءً على ذلك ان الاسس الفكرية للإصلاح السياسي عند الامام الحسين "عليه السلام" في الجانب السياسي قد حددها من خلال مواقف الامام الحسين لصيانة موقع الخلافة الاسلامية، عن طريق كشف زيف شرعية حكم معاوية ويزيد، فضلا عن رفضة مبايعة يزيد بن معاوية.
موقف الامام الحسين "عليه السلام " من معاوية بن ابي سفيان.بعد وفاة الامام الحسن المجتبى "عليه السلام"، نقض معاوية معاهدة الصلح واعلن عدم وفائه بشروطه، كان من بينها على ان يكون الامر من بعد معاوية الى الامام الحسن "عليه السلام" وفي حال وفاة الامام الحسن تكون الى اخية الامام الحسين "عليه السلام"([4]) ، الا ان معاوية اسند المنصب لولده يزيد، مما ادى هذا الاجراء الى تأجيج مشاعر المسلمين وخاصة اهل الكوفة، فكانوا يفضلون الجهاد ورفض الصلح على معاوية وعدم استجابتهم لتوريث الخلافة([5])
فكان موقف الامام "عليه السلام" موقف التأني من دعوات اهل الكوفة للخروج على معاوية، والالتزام بشروط الصلح مع اخيه، بالرغم من انتهاك معاوية الشروط واستمراره بالتمادي وافعاله المشينة بالقتل والتشريد وقطع الارزاق، علاوة على ذلك آثر الامام الحسين "عليه السلام" عدم الانصياع اليهم لغرض استمالته للوقوف الى جانبهم في محاربة معاوية بقوله: " اما انا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حياً، فلن يحدث الله به حدثاً وانا حي، كتبت اليكم برأيي والسلام"([6]) . على اثر ذلك شخص الامام "عليه السلام" بعض خصائص حكم معاوية وهو القتل على الظن والتهمة، فضلا عن ذلك التزم بالصلح لاعتبارات الوفاء بالعهد وعدم اكتمال معطيات الخروج على معاوية.
بالإضافة الى ذلك ان المراسلات التي كانت بين الامام واهل الكوفة اثارت والي المدينة مروان بن الحكم فكتب الى معاوية يؤكد فيه: " اني لست امن ان يكون حسين مرصدا للفتنة واظن يومكم من حسين طويلاً"([7]) بالرغم من ذلك اخذت الشكوك تساور معاوية وتثير مخاوفه فكتب الى الامام الحسين" عليه السلام"، كتاباً جاء فيه :" إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل الكوفة من قد جربت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله! واذكر الميثاق، فإنك متى تكدني أكدك"(([8] . يبدو ان الامام الحسين "عليه السلام" اغتنم الفرصة لتوجيه الاتهام الى حكم معاوية ولينتزع منه الثقة في تدابير السياسة المنحرفة، وليعلم معاوية على انه رغم سكوت الامام الحسين "عليه السلام" طيلة تلك الفترة، فانه مراقب لمخططاته ومتربص حينما تؤتيه الامكانيات وتسنح له الفرصة، فان الوقوف في وجه الحاكم المنحرف، وكشف مفاسد السلطة الاموي وانحرافاتها مسالة واردة في منظور الامام الحسين "عليه السلام".
فجاء جواب الامام "عليه السلام" متضمنا هذه الادانة، اما بعد فلقد بلغني كتابك تذكر انه : " بلغك عني أمور ترغب عنها، فإن كانت حقا لم تقارني عليها، ولن يهدي إلى الحسنات ولا يسدد لها إلا الله، فأما ما نمي إليك فإنما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنمائم، المفرقون بين الجمع، وما أريد حربا لك، ولا خلافا عليك، وأيم الله لقد تركت ذلك، وأنا أخاف في تركه... فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة... فأبشر يا معاوية بالقصاص، وأيقن بالحساب، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وليس الله بناس لك أخذك بالظنة وقتلك أولياءه على الشبهة والتهمة، ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة، وأخذك الناس ببيعة لابنك غلام سفيه يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب. ولا أعلمك إلا قد خسرت نفسك وأوبقت دينك وأكلت أمانتك وغششت رعيتك وسمعت مقالة السفيه الجاهل ... وتبوأت مقعدك من النار، فبعدا للقوم الظالمين"([9]) . نستنتج من ذلك ان الامام الحسين "عليه السلام" لم يكن بعيدا عن ما يحدث في عهد معاوية حيث استنكر المخالفات الدينية والسياسية وكان هذا الموقف احد اهم الاسس الفكرية التي استندت عليها ثورته في الجانب السياسي.
موقف الامام الحسين من بيعة يزيد بن معاوية وحكمه.تولى يزيد قيادة الدولة الاسلامية(60هـ -679م) بعد وفاة ابيه معاوية ابي سفيان، فأصبحت اجهزة الدولة كلها بيده، واهم ما كان يفكر به من المعارضين في المدينة المنورة هو الامام الحسين "عليه السلام"، لأخذ البيعة منه على اثر امتناع الامام الحسين وبعض الوجوه القريشية، لذلك جاء كتاب يزيد الى والي المدينة الوليد بن عتبة بن ابي سفيان يحمل صيغة التهديد على اخذ البيعة من الامام الحسين "عليه السلام:" فخذ حُسينا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام"([10]) . لقد حسم الإمام "عليه السلام" موقفه من بيعة يزيد بن معاوية، اي عدم اعطاء البيعة وهذا يعني عدم الموافقة على سياسة الدولة والاعتراف بشرعية نظام الحكم الاموي، وبذلك قد ادرك الامام الحسين "عليه السلام" ان اعطاء البيعة ليزيد يعني اقراراً عاماً للسياسة الاموية التي رسمها معاوية وسار عليها ابنه يزيد، فأوضح له الإمام "عليه السلام" في حديث مفصل لوالي المدينة الوليد بن عتبة، عدم أهلية يزيد للخلافة قائلا: " إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي. بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، وقاتل النفس المحترمة ([11])" وأنهى كلامه معه بإعلان موقفه الحازم قائلا: " ومثلي لا يبايع مثله ". وقد مثل ذلك إعلاناً مبكرا عن موقفه واستعداده لتحمل كافة نتائج وتبعات هذا الموقف.
كان من اهم اسباب رفض الامام الحسين "عليه السلام" بيعة يزيد بن معاوية واعلان ثورته حيث كان الإمام يعيش في نطاق الجو الإسلامي الّذي كان يتزعّمه حاكم يتظاهر بالإسلام، وبالإضافة الى ذلك كان يزيد مفسد وجائر ومرفوض عند جميع المسلمين، فوجب عليه الخروج من خلال كلمة قالها الرسول الاعظم محمد" صلى الله عليه واله" :" مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه "وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ _ ويشيرُ إلى بني أميّة وأتباعِهم" _ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر"([12])، ومن جهة اخرى ان الامام "عليه السلام كان احق منه بالخلافة شرعيا كونه افضل منه، وسياسياً بموجب معاهدة الصلح مع معاوية التي تنص ان يؤول الامر من بعده اليه فان تعذر ذلك فالأمر من بعده الى الامام الحسين" عليه السلام" ، لذلك فان الامام عمل على كسر ثقافة التخدير وطاعة الحاكم الجائر الظالم في نفوس المسلمين، بما صرح به من رفضة للبيعة. فخرج مطالباً بإصلاح الامة عن طريق ازاحة يزيد عن الحكم بمعنى اخر طلب الخلافة لتحقيق الاصلاح في امة جده رسول الله "صلى الله عليه واله" وبذلك يتيح له مساحة اكبر للتغيير بإزاحة الظلم والفساد عن الامة الاسلامية، وبهذا فان الخلافة وفق فكر الامام الحسين هي الوسيلة التي يتم من خلالها تحقيق الاصلاح . اي فان خروجه "عليه السلام" لم يكن لطلب السلطة بل لإصلاح النظام السياسي برمته بما يشتمل القيادة والرعية. وعليه ان الاسس الفكرية لنهضة الامام الحسين "عليه السلام" في الجانب السياسي ترتكز على ابرز المفاهيم منها مواجهة الحكم الاموي (معاوية) وادانته، لأن معاوية يمثل اصل الانحراف العام في الدولة الاسلامية، ثانيا رفض بيعة الحاكم الجائر والظالم والمنحرف المتمثل بيزيد بن معاوية لأسباب دينية وسياسية متمثلة بالمحافظة على الخلافة الاسلامية، ثالثا اراد الامام من التحرك والنهوض بكل ثقلة للقيام بعمل قوي في مضمونه ودلالته واثره وعطائه لينهض بالإمة لتغيير واقعها المتردي. رابعا: اراد الامام ان يستئصل جذور الحكم الاموي بزرع مفاهيم روح المقاومة على نطاق واسع وتثبيت مبدأها الشرعي ضد احتكار السلطات الجائرة، فضلا عن ترسيخ القيم السلوكية والمعاني الاخلاقية السامية برفض جميع مساومات الباطل على حساب الحق.
جعفر رمضان
((1 ابن قتيبة الدينوري، الامامة والسياسة، ج1، ص 135-136.
(2) ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، (النجف الاشرف: المطبعة الحيدريه، 1950)، ص14-15.
(3) طه حسين، علي وبنوه،( القاهرة: مؤسسه هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص 258.
(4)ابن الاثير، الكامل في التاريخ ،(دار الكتب العلمية،1987)، ج3، ص203؛ الشيخ الصدوق، علل الشرائع،( بيروت: دار مرتضى،2016) ، ج1، 212.
(5 )علي الكوراني، جواهر التاريخ،(مؤسسه التاريخ العربي للطباعة والنشر، 2004)، ج3، ص367.
(6 ) ابو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، الاخبار الطوال، ( القاهرة، دار إحياء الكتب العربي ، 1960)، ص 222.
(7 )ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق،( دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،1995)، ج 14، ص 205.
(8 ) ابو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، المصدر السابق، ص224-225.
( 9 ) للمزيد من التفاصيل حول نص كتاب الامام الحسين لمعاوية ينظر: ابن قتيبة الدينوري، المصدر السابق، ج1، ص131-132؛ محمد مهدي شمس الدين ، ثورة الحسين.. ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية،(بيروت:1977)،ص133-136 .
(10 ) ابو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، المصدر السابق، 227.
(11 ( ابن الاثير، المصدر السابق،ج3، 264؛ محمد مهدي شمس الدين، المصدر السابق، ص171.
(12 ( محسن الأمين العاملي، اعيان الشيعة،(بيروت: دار التعارف للمطبوعات،1983)، ج2، ص415.
اترك تعليق