المظلوميةُ في عزّةٍ وإباءٍ وجهٌ آخر للنصر (مفهوم النصر والإنتصار)

 

كيف يمكن للمظلومية المقرونة بالعزة والإباء أن تنتصر؟ وكيف يمكن للمأساة الممزوجة بالصبر والثبات أن تكون لوناً من ألوان الغلبة والتفوّق؟ وهل يمكن أن يحدُث ذلك ضمن القوانين الطبيعية، أو أنه لا يكون إلاّ من خلال المعجزة الخارقة لنواميس الكون؟

فإذا كان أمراً ممكناً في الحسابات الطبيعية ـ بحيث يمكن أن يتحقق لكلِّ مظلوم ينشد الانتصار على ظالمه ـ دَفَعَنا ذلك لدراسة المقدمات والظروف المتكفّلة لتحقيقه؛ لأننا نحتاج إلى هذا الانتصار في كلِّ زمانٍ طالما هناك ظالمٌ ومظلومٌ، وأما إذا لم يكن ممكناً، وكان تحققه ضرباً من المعجزة، علمنا أنَّ ما صنعه الإمام الحسين عليه السلام  في ملحمته التاريخية لا يمكن أن يكون إلاّ له، على حدِّ تعبير الشاعر:

فيا أيُّها الوتر في الخالدين فذَّاً الى الآن لم يُشفَعِ

لأنَّ ذلك من تدبير الله تعالى لأوليائه المخلصين، حيث يهبهم الخلود مدى العصور والدهور؛ لسرٍّ لا نعرف منه إلاّ ما روي عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عندما قال: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»[1].

إنَّ الانتصار الذي حققه الامام الحسين عليه السلام  في كربلاء ليس انتصاراً عسكرياً، فالغلبة كانت للجهاز الحاكم، حيث استُشهد الإمام وأهل بيته وأصحابه، كما هو واضح، ولكن الجميع يتفق على انتصار الحسين  عليه السلام ، من المسلمين وغير المسلمين، حتى سُمّيَ هذا اليوم بأسماء متعددة، قبيل: (يوم انتصار الدم على السيف) و(يوم انتصار المظلوم على الظالم) و (يوم انتصار مشروع ألأُمه على مشروع السلطة) الى غيرها من التسميات والتعابير التي تؤكد هذه الحقيقة.

 

ومن هنا يَحِقُّ لنا أن نتساءل:

إذا كان الجهاز الحاكم قد انتصر عسكرياً، وازاح معارضه من الوجود، فكيف كان الإمام الحسين عليه السلام  هو المنتصر؟.

وإذا كانت الغلبة العسكرية لا تكفي لوحدها في تحقيق الانتصار فهذا يعني وجود أسباب أخرى للنصر، فما هي هذه الأسباب؟.

وهل حقاً أنَّ المظلومية المقترنة بالعزة والاباء من تلك الأسباب؟, وهل مظلومية الامام الحسين عليه السلام  هي السبب المهم والبارز في حسم الملحمة لصالحه، على حدِّ تعبير القائد الهندي: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر[2]؟

هذه الأسئلة وغيرها سنحاول ـ إن شاء الله ـ الإجابة عنها في هذا البحث، وتسليط الاضواء بشكل كبير على عامل مهم من عوامل النصر في المعارك المصيرية، وهو عامل المظلومية المقترنة بالعزة والإباء.

وعليه: سيقع البحث ضمن ثلاثة محاور رئيسية:

الاول: مفهوم النصر والانتصار في منظور أهل اللغة والمنظور القرآني والإنساني.

الثاني: المظلومية والانتصار.

الثالث: مظاهر العزة والإباء في مظلومية الحسين  عليه السلام .

 

المحور الاول: مفهوم النصر والانتصار في اللغة و المنظور القرآني والانساني.

ان مفهوم الانتصار, هو مفهوم واسع جدا, ويحتوي على شمولية كبيرة, ولأجل هذه الشمولية والسعة اختلفت اطراف النزاع!, فقال كل طرف إني انا المنتصر!, وذلك لشمولية هذه اللفظة فكل ضل يحمل معناها على وجه معين من الانتصار.

ولما كان لها هذا الوسع, اردنا ان نبحث في مفهومها ومعناها لغة واصطلاحا قرآنيا وانسانيا. فنقول:

اولا: النصر والانتصار في اللغة:

ان الغرض من استعراض أقوال اللغويين هو للوقوف على موارد استعمالات هذه اللفظة في كلام العرب، للاستعانة بذلك على تفسير الآيات القرآنية المتضمنة لها, فقد ذكر اللغويون عدة معانٍ للفظة النصر، وهي كالآتي:

1ـ الاعانة: فقد جاء في كتاب العين: ((النصر: عون المظلوم. وفي الحديث: انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً، وتفسيره: أن يمنعه من الظلم إن وجده ظالماً، وإن كان مظلوماً أعانه على ظالمه. والانصار جماعة الناصر، وأنصار النبي (ص) أعوانه))[3].

وجاء في الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري في الفرق بين النصر والمعونة, أنَّ: ((النصر: يختص بالمعونة على الاعداء، والمعونة: عامة في كل شيء، فكل نصر معونة ولا ينعكس)) [4].

إذاً النصر: الإعانة على الاعداء، فيقال: أعن الفقير على فقره، ولا يقال: انصره على فقره، لان الفقر ليس عدواً.

2ـ العطاء: قال الجوهري في الصحاح: ((والنصر: العطاء))[5], وفي معجم مقاييس اللغة: ((والنصر: العطاء))[6], وفي أساس البلاغة: ((...ووقف السائل على قوم فقال: انصروني نصركم الله, يريد أعطوني أعطاكم الله)[7].

ويظهر من الزمخشري، أن استعمال النصر في العطاء مجاز، حيث قال: ((ومن المجاز أرض منصورة و...)) ثم ذكر من جملة ذلك الكلام السابق.

3ـ الاتيان والايتاء: قال ابن فارس في مقاييس اللغة: ((نصر، النون والصاد والراء، أصل صحيح يدل على إتيان خير وإيتائه. ونصر الله المسلمين آتاهم الظفر على عدوهم...وأما الاتيان فالعرب تقول: نصرت بلد كذا إذا أتيته))[8]

4ـ الانتصار من الظالم (الانتصاف والانتقام والامتناع): قال ابن منظور في لسان العرب: ((وأنتصر الرجل إذا امتنع من ظالمه، قال الازهري: يكون الانتصار من الظالم الانتصاف والانتقام، وانتصر منه: انتقم))[9].

 

ثانيا: استعمال مادة (نصر)في القرآن الكريم.

لقد استعملت هذه اللفظة مع مشتقاتها في الكثير من الآيات الكريمة في معاني متعددة، والذي يهمنا من ذلك هو الآيات التي تتعلق ببحثنا, من قبيل:

1ـ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[10]

2ـ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[11]

3ـ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[12]

4ـ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[13]

5ـ {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[14], الى غيرها من الآيات.

ان هذه الآيات ـ ما عدى الاولى ـ وان كانت مطلقة من حيث محل النصر, وانه في الدنيا, أو في الاخرة, أو في كليهما, ولكن الآية الاولى؛ قد صرّحت بذلك وأنه يكون في الدنيا والاخرة حيث قالت: (في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) ليتضح ان المقصود في بقية الآيات الاخرى هو ذلك.

وإذا رجعنا الى المفردات التي وردت في هذه الآيات وجدناها تقول: (لننصر، نصر، لأغلبنَّ، المنصورون، الغالبون)، إذن توجد لفظتان: هما النصر, والغلبة.

 

والتأمل في هذه الآيات ومفرداتها يوصلنا الى هذه النتائج:

1ـ ان هذه الآيات وعدٌ الهيٌّ بالنصر والغلبة لأنبيائه وأوليائه والمؤمنين، و{ إنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[15]

2ـ إنها تصرّح بشمول هذا الوعد للمؤمنين، ولا تختص بالأنبياء, او الاوصياء، كما إنها شاملة لجميع الانبياء والمؤمنين، وليست خاصة ببعضهم، كما هو واضح من تعابيرها.

3ـ إنها لم تقيّد النصر والغلبة بنوع خاص منه، فلم تقل: إننا لننصر رسلنا والمؤمنين في معاركهم وحروبهم الميدانية، او إنَّ حزبنا غالبٌ دائماً في الصرعات المسلحة، كلا إنها لم تقل ذلك، بل أطلقت النصر والغلبة, وقد تقدم في البحث اللغوي أن النصر يستعمل في المعونة على الظالم, وهو مطلق أيضاً من حيث نوع المعونة، فهو شامل لجميع اشكالها.

وحينئذ: فالنصر والغلبة له معنى وسيع يشمل كل ألوان وأشكال الاعانة والتأييد والدعم والامداد، واليك بعض تلك الالوان والاشكال:

‌أ) النصر والغلبة بالحجة والبرهان، فان الله تعالى ينصر أولياءه دائماً بتلقينهم الحجة البالغة، فهم يغلبون خصومهم بالأدلة والبراهين:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}[16]، فمن ذلك ما حصل للخليل إبراهيم عليه السلام  عندما ألقم النمرودَ حجراً في فمه، فأعجزه عن الجواب، حيث قال تعالى ـ وهو يحكي قصة المحاججة التي وقعت بينهما ـ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[17], وهنا يعني ان من صور النصر والغلبة؛ النصر بالحجة، والغلبة بالبرهان.

‌ب) قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}[18]، والمراد من (إحدى الحسنيين): إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة[19], إذاً فالشهادة ليست هزيمة، بل هي حسنى تضاهي الغلبة والظفر، ومقتضى ذلك أن المؤمن لا يُهزم أبداً ولا يخسر، فهو في نصر دائم، سواء تغلّب على خصمه عسكرياً, أو لا، فانَّ نصره وانتصاره في دخول الجنة والفوز برضى الله قال تعالى, قال تعالى:{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[20], فما تعرّض له الانبياء والمؤمنون ـ على امتداد التاريخ ـ من الظلم والاضطهاد والقتل، ما هو إلاّ شكل من أشكال النصر، وهو كذلك بحسابات الله تعالى، لا بحسابات البشر، فان البشر لا يرون الشهادة إلاّ فناء، ولكنها عند الله حياة متجددة.

‌ج) من ألوان النصر أيضاً إهلاك الظالمين والمناوئين لحركة الانبياء والمصلحين، بإنزال العذاب عليهم وإبادتهم، كما حصل مع بعض الانبياء، فهذا نوح عليه السلام  دعا ربه ليُهلك قومه بعد أن يئس من هدايتهم، وبعد أن أذاقوه شتى أنواع الظلم, والاذى، وقد استجاب الله دعاءه, وانتصر له بإهلاكهم, قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ* وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }[21], ففي هذه الآيات دعا نوح  عليه السلام  ربه لينتصر له من أعدائه، وقد استجاب الله دعاءه فأهلكهم، إذاً من أنواع النصر إهلاك الظالمين.

‌د) ومن معاني النصر ايضاً انتصار الغاية وتحقق الهدف، فان الصراعات التي يخوضها الانبياء واتباعهم مع اعدائهم هي من اجل تحقيق إرادة الله في الارض، فاذا تحققت تلك الارادة ولو بعد حين فقد انتصر أولئك الانبياء، حتى لو قُتلوا أو شُردوا، فان الامور بخواتيمها، فمن ذلك ما جاء في قصة أصحاب الكهف، حيث تعرّض المسيحيون في تلك الحقبة الزمنية الى ظلم شديد، واضطهاد مرير، وقتل مُريع، وبسبب ذلك التجأ الفتية الى الكهف هروباً من بطش الجهاز الحاكم، فضرب الله على آذانهم سنين عدداً، ثم أيقضهم بعد ذلك ليُريهم ثمرات كفاحهم ونتيجة مجهودهم، وليكونوا آيةً للعالمين.

إذاً من معاني النصر انتصار الغاية والهدف وانتشار العقيدة التي يدعوا لها ذلك النبي أو ذلك المؤمن.

هذه بعض معاني النصر، وهي كما ترى لا تنحصر بالغلبة العسكرية والانتصار المسلّح، ولعلّ المتتبع يجد غيرها من المعاني.

نعم, يمكن أن نفسّر (النصر) الوارد في الآيات بالنصر العسكري والغلبة المادية في ساحة المعركة، ولا يتنافى ذلك مع الآيات الحاكية تعرّض الكثير من الانبياء والمؤمنين للقتل والظلم والاضطهاد، وذلك بان نقول: يمكننا أن ننظر الى الصراع القائم بين الحق والباطل منذ عصر آدم والى يومنا هذا كمعركة واحدة مستمرة، فتارة ً تميل الى هذا الجانب واخرى الى ذلك الجانب, ولكنها في نهاية المطاف ستُحسم لصالح المؤمنين للوعد الالهي القاضي بذلك، إذ الآيات المذكورة لم تحدد سقفاً زمنياً لهذا النصر، نعم صرّحت بأن الارض ستكون لعباد الله الصالحين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[22]، وأنَّ الدين الحق سيحكم الارض على رغم الكفار والمشركين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[23].

إذاً الآيات الكريمة تتحدث عن وعدٍ إلهي يتحقق في نهاية الصراع بين الحق والباطل.

 

لمن تعود فائدة النصر

لنا أن نتساءل: لمن تعود فائدة النصر، ومن هو المنتفع بذلك؟.

بكل تأكيد ليس المنتفع هو الله عز وجل، لأنه لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، فانه الغني المطلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[24]، ومعه لابدَّ ان تعود الى الناس، الى اتباع الانبياء والمرسلين، وبناءً على هذا يمكن ان نجيب عن السؤال بهذا الشكل: المنتصر هو ذلك الذي تعود الفائدة على أتباعه، وحيث إننا وجدنا أن أتباع الانبياء والمصلحين هم المنتفعون، لسلامة الدين الواصل اليهم، علمنا ان أولئك الانبياء والمصلحين هم الذين انتصروا على أعدائهم، حتى لو كانوا قد قُتلوا أو تعرّضوا للظلم والاهانة، فهذا الامام الحسين  عليه السلام  قد تعرّض لأبشع مجزرة شهدتها الانسانية، ولكنه انتصر رغم ذلك، لانتفاع الناس بجهاده وتضحيته، فهذا هو قبره أضحى قبلة لأحرار العالم يقصدونه من كل مكان ليستلهموا منه دروساً في الاباء، وليتعلموا منه أساليب الثبات على المبدأ وعدم المساومة مهما كانت المغريات.

وهذه الحقيقة بلغت حداً من الوضوح بحيث لفتت أنظار غير المسلمين، ليقفوا عندها ويسجلوا انطباعاتهم، فهذا المستشرق الالماني (كارل بروكلمان) يقول: ((الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين، قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة))[25]، ويقول المستشرق الانكليزي(د.ج. هوكار): ((دلت صنوف الزوار التي ترحل الى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما زال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الاسلامي بأسره...كل هذه المظاهر استمرت لتدل على إنَّ الموت ينفع القديسين أكثر من حياتهم مجتمعة))[26].

ولعل الى هذا المعنى يشير الامام زين العابدين عليه السلام  عندما سُئل: مَن المُنتصر؟ فأجاب  عليه السلام : ((إذا أذّن المؤذن تعرف من المنتصر)) [27]، فان نهضة الامام الحسين عليه السلام  كانت تهدف الى حماية الاسلام من التزييف والتحريف، فاذا تحقق ذلك فقد انتصر الحسين  عليه السلام ، إذ لا هدف له وراء ذلك.

إذاً يمكن ان يكون النصر الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة يُراد منه هذا المعنى.

 

ثالثا: النصر في مفهومه الانساني.

بعد أن اتضح لنا معنى النصر في الكتاب العزيز، وانه أعم من الغلبة المادية والنصر العسكري الآني، بقي أن نعرف معناه في مفهومه الانساني، وهل هو بمعنى الغلبة المادية العسكرية فقط، أو يشمل ما هو أوسع من ذلك ؟, وبتعبير آخر، هل يستعمل الناس لفظ النصر والانتصار في الانتصار العسكري فقط أو يستعملونه في شكل آخر من الانتصار ؟. فهذا ما نريد أن نتعرّف عليه الآن, فنقول:

عند مراجعة الدراسات السياسية والفكرية والثقافية لا نجد لمفهومي (النصر, والهزيمة) معنىً واضحاً، بل نجد لهما عدة معانٍ مختلفة، ويبدوا أنَّ منشأ الاختلاف في تشخيص المعنى هو اختلاف الناس أنفسهم في تفسير النصر والهزيمة، وتباين أنظارهم في ذلك، ويمكن تلخيص الآراء بما يلي:

1ـ البعض يفهم النصر فهماً عسكرياً مجرداً، فالذي يتغلّب ميدانياً على خصمه منتصر، والمغلوب منهزم، مع قطع النظر عن الجوانب الاخرى، كمقدار الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّض لها المنتصر، أو النتائج التي حصل عليها فيما بعد المعركة، وما الى ذلك من الجوانب والحيثيات التي ترافق الحروب والصراعات، فليس المهم ذلك، وانما المهم تحقق الغلبة العسكرية.

2ـ والبعض الآخر ينظر الى نتائج المعركة، من حيث حجم الخسائر، والدمار الذي حلّ بهذا الطرف أو ذاك، فكلما كان الطرف أكثر خسائر من الآخر فهو المهزوم، والعكس هو المنتصر، فالمدار عند هؤلاء على مقدار الخسائر، وليس المدار على التغلّب العسكري.

3ـ والبعض الثالث يأخذ الجوانب السياسية للمعركة بعين الاعتبار، فليس المنتصر هو من يتغلّب عسكرياً أو يخرج بخسائر أقلّ من الآخر، وانما المنتصر هو من يحقق مكاسب سياسية على أرض الواقع، لانَّ الحرب سياسة في واقعها، فالمهم هو أن ننظر الى ما حققه هذا الطرف من مكاسب سياسية، وما حققه ذلك الطرف، وما نوعها وتأثيرها على المدى القريب والبعيد.[28]

هذه مجمل الآراء في مفهومي النصر والهزيمة، وأنت تلاحظ أنها متباينة فيما بينها ولا تكاد تتفق على شيء، ولكن يمكن من خلال الالتفات الى بعض الشواهد ان ندعم احد هذه الآراء، وهو الرأي الثالث، وفي هذا المجال نذكر شاهدين:

الشاهد الاول: بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي، أطلق السياسيون والمختصون والعالم بأسره عبارة (النصر) على الولايات المتحدة، وقالوا انتصرت في هذه الحرب، مع أنها لم تكن حرباً عسكرية بين الطرفين، وانما هي حرب مشروع، وقد انتصر المشروع الامريكي على المشروع السوفييتي، وهذا يدلل على ان الملحوظ في النصر المكاسب السياسية والاستراتيجية التي تضمن للطرف الانتشار والتوسع والبقاء والديمومة.

الشاهد الثاني: وصف الكثير من القادة السياسيين الامام الحسين عليه السلام  بالمنتصر، رغم خسارته العسكرية في المعركة، كما صنع ذلك الزعيم الهندي البوذي (غاندي)، حيث أطلق عبارته الشهيرة (تعلمت من الحسين أن أكون مظلوماً لانتصر) فلولم يكن الانتصار ذا مفهوم وسيع لما ساغ له اطلاقه عليه، وهكذا نجد المؤرخ الانكليزي (توماس كارليل) يُطلق هذه اللفظة ايضاً على الامام الحسين عليه السلام ، حيث يقول: ((أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنَّ الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أنَّ التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحق والباطل والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلة الفئة التي كانت معه))[29].

إذاً لفظة النصر تطلق على الطرف الذي يحقق اهدافه سواء تحقق له ذلك عسكرياً أو سياسياً.

الخلاصة: اتضح لنا من خلال ما تقدم كله أنَّ مفهوم النصر والانتصار لا يقتصر على معنى الغلبة العسكرية، بل يشمل ما هو أوسع من ذلك، ويمكن أن نختصره بكلمة هي (غلبة المشروع) فمن غلب مشروعه فهو منتصر.

ونحن بهذا قد اكملنا المحور الاول من البحث، وحققنا مفهوم النصر ببعده القرآني والانساني، وبقي أن نعرف كيف تكون المظلومية شكلاً من أشكال النصر لا سيما لو اقترنت بالعزة والاباء؟ وهذا ما سنحاول ان نبحثه في المحور الثاني.

 

الكاتب: الشيخ إسكندر الجعفري

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________________________

[1] - المحدث النوري، حسين، المستدرك: ج10ص233.

[2] - الامام الحسين (ع) في الفكر الغربي، مقال منشور على شبكة الانترنيت.

[3] -الفراهيدي،الخليل بن أحمد، العين ج7ص108

[4] - العسكري، أبو هلال، الفروق اللغوية ص540(حرف النون).

[5] -الجوهري، اسماعيل بن حماد، ج2ص829.

[6] -إبن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة،ج5ص435.

[7] -الزمخشري، جار الله، أساس البلاغة ص961.

[8] -إبن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة ج5ص435.

[9] - ابن منظور،محمد بن مكرم، لسان العرب، مادة (نصر).

[10] -غافر/51

[11] -الروم/47

[12] -المجاداة/21

[13] -الصافات/171،172،173.

[14] -المائدة/56.

[15] -آل عمران/9.

[16] -الانعام/149.

[17] -البقرة/258.

[18]-التوبة/52.

[19] -الطبرسي، ابو علي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان ج5ص72.

[20] -آل عمران/185.

[21] -القمر/الايات من 9وحتى 16.

[22] -القصص/5.

[23] -التوبة / 33.

[24] -فاطر / 15.

[25] -الامام الحسين في الفكر الغربي، بحث منشور في الانترنيت.

[26] - السابق.

[27] -الطوسي، ابو جعفر، محمد بن الحسن، الامالي ص677.

[28] -راجع هذه الاراء في مجلة (إيلاف) الالكترونية، العدد 4529،الثلاثاء 15 إكتوبر2013.

[29] -الامام الحسين في الفكر الغربي، بحث منشورعلى الانترنيت.

المرفقات