الخطبة الدينية للشيخ عبد المهدي الكربلائي من الصحن الحسيني بتاريخ 22 جمادي الاول 1439 هـ الموافق 09 /02 /2018 م

من الضروري الانتباه الى مقتضيات الانتماء للإسلام اثناء المحن والبلاءات

 النص الكامل للخطبة الاولى

اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الدال بآثاره على وجوده، وبتتابع آلائه على عظيم جوده، المستشهد بافتقار موجوداته اليه على غناه، وبإتقان التدبير فيها على حكمته.

واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له العلي الكبير واشهد ان محمداً (صل الله عليه وآله) عبده ورسوله خير نبي ارسل بخير كتاب انزل واقوم دينِ فصل، وصلى الله عليه وآله خلفائه في الدين وامنائه على الكتاب المبين.

اوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك اوصي نفسي بتقوى الله تعالى، واسمعوا ما يتلى عليكم من آياته ومواعظ رسوله وحججه عليكم، واذا سمعتم فعوا، واذا وعيتم فاعملوا، واذا عملتم فاخلصوا في عملكم، فان اعرضتم عن سماعها ووعيها كنتم من الغافلين، وان اضعتموها ولم تعملوا بها بعد العلم بها كنتم من الخاسرين.

ايها الاخوة والاخوات ما زلنا في تلك المواعظ العظيمة لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) التي نقلها الشريف الرضي رحمه الله تعالى وجعل مقامه في اعلى عليين، والتي وصف هذه المواضع بقوله (ولو لم يكن في هذا الكتاب إلّا هذا الكلام لكفى به موعظةً ناجعةً، وحكمةً بالغةً، وبصيرةً لمبصر، وعبرةً لناظر مفكّر).

فتعالوا- ايها الاخوة والاخوات- لنستمع الى هذه المواعظ ونحاول ان نعيها ونعمل بها حتى يوفقنا الله تعالى لأن نكون من الملتزمين بنهج الله تعالى ومواعظ امير المؤمنين (عليه السلام).

قال الامام سلام الله عليه في البداية (لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ) ثم يذكر الكثير من هذه الامور، التي هي أصول للرذائل، وسبب الأمراض القلبية.

ثم نذكر- في هذه الخطبة- بعض فقرات قوله (عليه السلام): (إِنِ اسْتَغْنَى بَطِرَ وَفُتِنَ، وَإِنِ افْتَقَرَ قَنِطَ وَوَهَنَ، يُقَصِّرُ إِذا عَمِلَ، وَيُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ) فبعض الناس ان انعم الله تعالى عليه بالمال والثروة والمقام والجاه والسلطة وشعر بسبب ذلك بالاستغناء عن الاخرين اصابه شيءٌ من البطر وافتتن بما انعم الله تعالى عليه، كالمال والثروة والمقام والجاه والسلطة، كل هذه المصاديق مصاديق القدرة، تولد لديه شعور بأنه قد استغنى عن الله تعالى، وقد استغنى عن الناس فيصيبه الشيء الكثير من البطر والتكبر والغرور والاعتلاء بالنفس والاستعلاء على الاخرين وينسى ان الله تعالى هو الذي انعم عليه بهذه النعم ان شاء اعطاه وانعم بها عليه وان شاء سلب منه جميع هذه الامور وربما يسلبها في وقت يفاجئه، وسبب نشوء هذه الحالة عن ضعفٍ في الايمان.

فواقع الحال ان الانسان مهما أوتي من هذه الامور التي مصدرها الله تعالى فإنه يبقى محتاجا الى الله تعالى، وانه بحاجة الى الناس، فلو ملك الدنيا بما فيها لا يستطيع ان يستغني عن الله تعالى أولا وان يستغني عن الناس ثانيا.

إن الانسان المؤمن العاقل لديه اعتقاد وهذا الاعتقاد مفاده أن مصدر كل هذه الامور هو الله تعالى وهذا يقتضي ان يتواضع لله تعالى وان يتواضع للناس ولا يفتتن بهذه الامور بل يوظفها في خدمة الناس والعمل على اصلاح شؤون الاخرين.

ثم الحالة السلبية الثانية (وَإِنِ افْتَقَرَ قَنِطَ وَوَهَنَ) الحالة المرضية القلبية الثانية ان بعض الناس اذا افتقر وقع في ضائقة مالية او وقع في مشكلة ومحنة وابتلاء اصابه القنوط واليأس والاحباط والتشاؤم، وعاش في حالة ظلامية لا يتصور ان هذه الحالة من الممكن ان تتغير وان الله تعالى الذي بيده الامور من الممكن بلحظة أن يغير حاله.

ان الله تعالى بلحظة ممكن ان يسلب الانسان اسباب القدرة، وبلحظة ممكن ان يزيل عنه اسباب الفقر والضائقة المالية والمشكلة والمحنة، فالمشكلة ان الانسان عندما يصيبه شيء من القنوط واليأس من تغير في الحال الذي هو فيه يشلُّ عن الحركة والتوجه، مع انه ينبغي عليه ان يكون لديه اعتقاد ان الله هو بيده الامور وهو المؤثر بالوجود وان يكون لديه أمل بأن الله تعالى رحيم لطيف بعباده يعيش حالة التفاؤل والامل القلبي.

إن التفاؤل والامل القلبي يدفعه الى التحرك لتغيير الحال الذي هو فيه بالأخذ بالأسباب ومنها التوجه الى الله تعالى بالدعاء بأن يغير حاله، فان تحرَّك للأخذ بالأسباب الطبيعية فيعمل ويجتهد ويحاول ان يجهد نفسه في تغيير الحال الذي هو فيه يأخذ بهذه الاسباب الطبيعية، فالحالة القلبية ستتغير.

الامام (عليه السلام ) يريد أن يقول: إن اصابتك محنة أو ضائقة أو مشكلة مالية - ايها الفرد ايها المجتمع- ، لا تستسلموا للاحباط والقنوط واليأس، فان ذلك يؤدي الى شلل الحركة لدى الانسان فيبقى على حاله، عشْ حالة الامل والتفاؤل بان هذا الواقع من الممكن ان يتغير، توجه الى الله بالدعاء والتوسل استعن بالامور والاسباب الطبيعية، حينئذ يمكن ان يتحرك ويتغير هذا الحال.

والحالة السلبية الثالثة (يُقَصِّرُ إِذا عَمِلَ، وَيُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ) هنا المقام يتعلق بالعمل والسؤال، تارة العمل مع الله تعالى والسؤال من الله تعالى، وتارة عمل الانسان مع الاخرين، كالعمل في دائرة أو مؤسسة أو مكان عام أو في مكان خاص، ولديه سؤال، وطلب من تلك الجهات التي يعمل لها.

الامام (عليه السلام) يؤشر حالة سلبية أن الإنسان تارة لديه تقصير في العمل العبادي او العمل الانساني العام، فما يقابل التقصير هذا؟

إن أي عمل لكي يأتي ثماره نحتاج بعضا من الامور منها تهيئة المقدمات الصحيحة وتوفر الشرائط لصحة العمل واتقان العمل وحسن التنفيذ للعمل واتمام العمل وادامة العمل ثم الاستمرار به، الى ان يأتي بثماره، وقد يستغرق ذلك سنوات عديدة .

وفي حال التقصير يأتي السؤال: أين يكمن التقصير في العمل؟ ففي العمل العبادي والعمل الاجتماعي بصورة عامة احيانا المقدمات وشرائط العمل لا تتهيأ بصورة صحيحة، فليس هناك حسن تنفيذ وحسن اداء واتقان وحسن اتمام وادامة لهذا العمل وهذه الخدمة، بل هناك توانٍ وتكاسل وتثاقل وسوء تنفيذ وعدم اتمام وعدم اتقان وعدم ادامة هذه الامور، ولا نحصل على نتائج العمل في مقابلها.

احيانا يقصر الانسان في العمل ولكن حينما يطلب العوض المالي والامتيازات والمخصصات والحوافز على هذا العمل الذي قصر فيه سواء كان مع الله او مع الاخرين يبالغ ولا يكل ولا يمل عن طلب الزيادة وطلب الامتيازات بإزاء العمل الذي قصر فيه.

الامام (عليه السلام) يبين ضرورة ان يكون هناك تناسب بين العمل الذي تؤديه والطاعة التي تؤديها لله تعالى، العمل الذي تقدمه للمجتمع والاخرين، أن يكون هناك تناسب بين هذا العمل مع الله تعالى وبين العطاء والعوض الذي يتطلب مقتضى العدالة والانصاف.

فالقاعدة المهمة تقول: انت ايها المؤمن ان اردت لنفسك قضاء الحوائج والخير العظيم من الله في الدنيا والجنة بنعيمها الدائم في الاخرة، عليك ان لا تقصر في طاعتك وعبادتك لله تعالى، ولا بد ان تأتي بهذه العبادات والطاعات بالمقدمات الصحيحة وشرائطها واركانها بإدامتها بالمواظبة عليها، بإتقانها بإتمامها، ففي قبال ذلك يكون لك الحق في الدنيا والاخرة ان تطلب ما تشاء.

أما اذا قصرت فلا تبالغ في الطلب فليس من حقك ذلك، هذا مع الله تعالى، وايضا في عملنا في الدنيا، فإذا اراد احدنا في اي مكان كان بكل انحاء العمل وبكل مصاديقه اذا طلب العوض المالي والامتياز وغير ذلك، لابد ان يكون في قباله اتقان وعدم تقصير في أي نحو من انحاء التقصير|، فان اخل في ذلك فليس من حقه ان يبالغ في السؤال ويطلب المزيد .

ثم يقول الامام (عليه السلام): (إِنْ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ أَسْلَفَ المَعْصِيَةَ، وَسَوَّفَ التَّوْبَةَ، وَإِنْ عَرَتْهُ مِحْنَة انْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ المِلَّةِ) احيانا الانسان تُعرض له شهوة محرمة فيضعف امام شهواته ونزواته (أَسْلَفَ المَعْصِيَةَ) بمعنى قدم.

فان عرضت للانسان شهوة محرمة ضعف امام شهواته ونزواته فهو قدم المعصية وسارع لاشباع نزوته وشهوته بالحرام، قد يقول قائل: هذه ليست مشكلة كبيرة، فالانسان هو بطبعه يضعف امام شهواته يقع في المعصية، المشكلة الادهى التي اشار اليها الامام (عليه السلام ) يقول: انت اذا ضعفت امام شهواتك ونزواتك المحرمة سارع وبادر الى التوبة قبل ان يفاجئك الموت، فان الانسان الذي ضعف امام شهواته ونزواته، ويبرر بالقول: امامي عمرٌ طويل فانا شاب وفي صحة جيدة، وفي عافية، ليس من الضروري ان اسارع الى التوبة، سأتوب بعد فترة ما تزال هذه الشهوات متمكنة مني ثم بعد سنوات اتوب، هو لا يعلم ان الموت قد يفاجئه ويمضي الى القبر والاخرة وهذه المحرمات والمعاصي مكتوبة في سجل سيئاته.

ان هناك مرتبتين، المرتبة الاولى التي هي الاقوى في الايمان (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) هذه المرتبة العليا، فعندما تعرض عليه شهوة محرمة مباشرة يتذكر رقابة الله وعذابه وحسابه فيرتدع ويمتنع عن الشهوة.  

كما ان الانسان قد يصمد لفترة كسنة أو سنتين وبعد ذلك لا يقاوم ضغط الشهوة فيقع في المعصية، فعليه بالمبادرة الى التوبة لكي لا ينغمس أكثر.

ثم يقول (عليه السلام) (وَإِنْ عَرَتْهُ مِحْنَهٌ انْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ المِلَّةِ) فالانسان في حياته يتعرض الى مشكلة أو مصيبة أو ابتلاء أو محنة أو صعوبات, شرائط الملة أي الاسلام وشرائط الانتماء اليه تقتضي على الانسان المؤمن اذا تعرض الى محنة او مشكلة او ابتلاء عليه ان يصبر وان يتحمل وان يعتقد ان الله تعالى مطلع على محنته ومشكلته، وانه حين يطلب منه فان الله رحيم رؤوف بعباده، اما ان يعجل عليه لتخليصه من المحنة والمشكلة او لا سيدخر له من الثواب العظيم ما يجعله يصبر ويثبت امام هذه المحن والمشاكل.

فمن الضروري الانتباه الى مقتضيات الانتماء الى الاسلام اثناء المحن والبلاءات، كالصبر على البلاء والدعاء والتوجه الى الله والاستقامة والتحمل، فان مع الصبر والصمود والثبات سيكون هناك الفرج، لذلك الامام (عليه السلام) يقول (وان عرته محنة انفرج عن شرائط الملة ) ثم يقول ( عليه السلام ) (يصف العبرة ولا يعتبر)، ان شاء الله نكمل في الخطبة القادمة والحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) صدق الله العلي العظيم 

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات