واقعة الخلود..

أتخذ كثير من الرسامين الفضاء المفتوح مسرحاً وزعوا فيه أدوات تمثيله بعملية تنظيمية بغية محاكاة واقعية الحدث، وفق منظور روحي .. وهذا ما شرع به رسام هذه اللوحة المميزة حيث أنشأ فيها أكثر من مركز للبصر جمع من خلالها عدة أماكن وأزمان، فأسس بنية مكانية تنوعت عناصرها وأختص زمانها بها وبذلك تحولت الصورة الذهنية إلى بنية جمالية احتضنت رموز معلومة المداليل في الذهن الجمعي لتشكل تأريخاً بصرياً عن الواقعة. أستطاع رسام اللوحة أن يؤسس لنقطة ارتكاز رئيسة بدت مشعة لمراكز ثانوية ،على الرغم من تعدد مراكز البصر فيها ، فقد عمد الى اختيار مكان أزاح عنه الكتل المزدحمة ليعطي إيحاءً روحياً بالاستقرار والسكون المثير للعواطف والوجدان تعبيراً عن وحدانية المقدس المتمثل بخليفة الله في الأرض . العمل برمته عبارة عن رحلة سفر طويلة.. محطتها الأولى مشهد المعركة والذي ميّزه الرسام بصخبها وزحمة التلاحم فيها، وملمس أدواتها عبر استخدامه لكل أنواع الخطوط العمودية والأفقية ..المنحنية والمنكسرة، واستخدامه اتجاهات الطول والعرض والشمال واليمين، فقد عمد الفنان فيه إلى دمج الخط باللون لتكوين الأشكال، حتى بدت تلك الاشكال مشعة ينبثق منها الضوء الذي ينير الجو اللوني للعمل، لتحمل للمشاهد رسائل ومدلولات عقائدية في التعبير عن المقدس إضافة إلى تكرار الأشكال وتنوّع أدوارها وإبراز قيمها الأخلاقية ووحدانية أهدافها وتمامها وكمالها. أشغل الرسام مساحة كبيرة من اللوحة بعناصر مختلفة وحقق فيها التنظيم والتغيير في حركات الشخصيات .. معززاً ذلك باستخدام تقنية التساوي في الكتل وتلازمها وتكرارها، إضافة إلى التبادل اللوني والمهارة بتحديد مواطن استخدامه بين الغامق والفاتح ، مع ملاحظة إظهار الوحدة الشكلية في الوجوه والافعال والوحدة اللونية في الأزياء. حاول الرسام جاهداً أن يحيل وجوه الشخصيات المقدسة في اللوحة إلى الأمام في مواجهة المتلقي لاستقراء جوهرها.. عكس البنية الشكلية للضد منها والتي حاول الرسام أن يظهر فيها أجسادهم وخيولهم من ألوان أرضية المعركة والتأكيد على ردة فعلهم وهم يواجهون المقدّس وإبرازها في وجوههم وحركاتهم، وذلك عبر استخدامه للضوء والظل في تشكيل الوجوه، وإظهار عدتها الحربية وأزيائها باعتبارها غير مكافئة من حيث القوة بقصد إظهار شجاعة الأشكال المقدسة المتمثلة بشخص الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه . أن المنظومة العلاماتية والمدركة أصلاً بكل تشكلاتها الإيقونية والإشارية كانت الأساس الذي تبناه الفنان في بناء الشخصيات، مع عدم إغفال الذاتية والوجدانية كعنصر أساس أيضاً في التمثلات الشكلية، فيبدو أنه لا يريد أن يظهر مصير مقدساته، فهو يمثلها على السطح التصويري بشكل احتفائي، على الرغم من تكالب وتكاثر الأعداء وكثرة الإصابات الممثلة بخطوط (رماح وسهام) مغروزة في أجسادهم وأجساد الخيول، ولكنها لم تفقد حيويتها وبقائها الروحي. ومن المميز في هذا التكوين الفني أن المشهد يلتف تدريجياً داخل اللوحة لتشكل أحد أركانه بداية لحلقة دائرية تكتمل فيها الأحداث .. حيث تنتقل أنظار المتلقين بانسيابية عبر الأحداث بتخفيف حدة تكثيف الأشكال والكتل المتعمدة من قبل الرسام، لإظهار طابع السكونية والإيقاع الحزين بتوسيع المساحة المكانية وإفراغ أشكالها الإنسانية عبر تقليلها تدريجياً، فيظهر أشكالاً نسائية تطابقت في بنيانها دينياً وعقائدياً مع تضخيم بعض الشخصيات في العمل دلالة عن القسوة عند البعض والبطولة عند الآخر، وخصوصاً في المشاهد التي تُظهر السبايا من نساء آل بيت النبوة ، حيث تكرار شخص السيدة زينب الكبرى عليها السلام ومن معها التي تظهر تارة بين الخيام وأخرى في مواجهة يزيد وأخرى ترعى الأسرى في خربة الشام  كي يوحي لها عبر اللون الأصفر وبساطة المعمار وتقويس الأبواب وقصر الجدران تعبيراً عن قدم البناء . أن تتبع أحداث الواقعة فنياً داخل العمل، يعطي تتبعاً لأحداث واقعية كانت قد حدثت قبل الواقعة وأثنائها وبعدها، بتمازج جمالي تعبيري تسوده الأشكال المرمزة، حيث ينتقل الرسام إلى فسحة زمانية ومكانية دائرية، شكلت حدودها الخارجية علامات أيقونية تشير لتسلسلات روائية، فالدائرة في الفن الاسلامي مملوءة بالرموز القدسية. ففيها يكتمل النظام والتنسيق والتقابل والتناظر والتكرار - لوناً وخطاً - حين استخدامها في التكوينات الفنية، ففيها تجتمع العناصر الأساسية المشكلة للأبعاد الجمالية والإيقاع الروحي الساكن للمقدس وإشعاعه وفيضه من وإلى المركز كما في الرائعة أعلاه، مما أعطى بعداً إنشائياً يتجاوز حدود اللوحة وإطارها .. يلمسه المتلقي بمجرد تعرضه إليها.   سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات