بقايا الذات ..

يد رافدينية أخرى تبدع في مزج التراث والحداثة .. ومحاولة أخرى لتدوين مساحات واسعة من حياة المجتمع العراقي عن طريق رسم ملامح المدن والأشياء والوجوه والشخصيات العراقية والتي لجأ إليها كغيره من المحدثين في الفن التشكيلي ليطلعنا على مهارته الفنية ورؤيته وتجربته في انتقاء المعنى الحسي وأثراء أعماله الفنية المفعمة بالأبعاد الإنسانية والجمالية .. تلك هي يد الفنان التشكيلي إبراهيم العبدلي.

ولد إبراهيم في بغداد عام 1940 وتخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1965، حصل على شهادة الماجستير في الفنون من مانشستر بولتكنيك في لندن عام 1980..و يُعد من رواد المدرسة الواقعية العراقية وأحد أقطابها البارزين بعد أستاذه الرائد فائق حسن .

أقام الفنان كثيراً من المعارض الشخصية والمشتركة وعلى نطاق عالمي ومحلي ، حيث أقام معارض فردية ومشاركات في لندن و أمريكا و بعض من مدن روسيا وكانت انطلاقته الأولى نحو العالمية من معرضه الشخصي الأول في لندن .

انتهج العبدلي في هذه اللوحة منهج الواقعية حيث عمد إلى رسمها بمادة الزيت على القماش وهي عبارة عن عربة قديمة محطمة تتقدم على عربة أخرى وسط أجواء غير مشخصة، لكنها تحمل السمات اللونية التي حققت مناخاً للبيئة الشرقية, فقد عمد إلى استخدام طريقة تلوين عالج فيها البعد المنظوري وحركة الظل والضوء داخل اللوحة، فالعجلة القريبة على أرض اللوحة أكبر حجماً من تلك الموجودة في العمق, والجزء الأول الأقرب من العربة أكبر من الجزء الأبعد, وحتى رسم العجلة والعربة كان بطريقة منظورية غاب عنها التحوير بقدر ما كان الشكل واقعيا.

 لو دققنا النظر في اللوحة لوجدنا إن الشكل الأساسي (العربة) تقع وسط فضاء لوني احتوى على طبيعة لونية تميل إلى شدة في الضوء، فالأجواء توحي للمشاهد بحرارة اللون وغياب التشخيص عن الفضاء، العربة تبدو كأنها وُضعت وسط عالم مجرد لا يملك هوية إلا من خلال ما يتركه اللون من انطباعات في نفس المتلقي، فهي في مكان تجريدي مع الحفاظ على بعض المزايا المنظورية التي تأسس وفقها هذا المكان وحتى هاتين المفردتين المتمثلتين بالعربتين نفذتا بطريقة كانت عبارة عن توزيعات لونية متجاورة، ومن خلال هذا التجاور أظهر الفنان ما يريد إيصاله من شكل .

عمد العبدلي إلى استخدام تقنية الاختزال الشكلي في رسم عناصر اللوحة .. والاختزال هو العنصر الذي حكم بناء المفردات والمكان وهذا كله يعكس ذات الفنان في جعل اللوحة حاملة لرؤية يُستدل عليها أولا من خلال منظوره الخاص للون ومن ثم النظر إلى الواقع على أنه واقع يخرج من حيز التأويل الذاتي إلى حيز الخطاب البصري الذي يعكس جانباً تعبيرياً بواسطة العملية البنائية في أحكام العلاقة بين مفردات اللوحة وأجوائها وهذا ما يعكس خصوصية الأسلوب الشخصي للفنان.

على الرغم من الواقعية المطروحة داخل اللوحة إلا أن الجانب الحداثي هو الذي مكن هذه المفردات من البدء بصراحة التعبير وسط عالم ملون بطريقة ذاتية خالصة وله سمات اسلوبية تنطلق من طبيعة النظر الى اللون.

ولكن لو تأملنا هذا الابداع من باب الحداثة لوجدنا ان العمل هنا يرتكز على طبيعة اللون في إداء رسالته بغض النظر عما تؤول إليه اللوحة من الجانب التشخيصي كونها ذات مسحة عراقية أم لا ،وهذا ما رأيناه في جزء من أعمال وتجارب العديد من رواد التشكيل العراقي ، إلا أن آلية تشكيل اللوحة تنتمي إلى السياق العراقي في الفن الحديث الذي أبصر النور مطلع العقد الخمسيني من القرن العشرين الذي كان ميالاً نحو التوظيف الرمزي للشكل والبعد الدلالي الذي يخرج بالريادة من الجانب التعبيري .. فقد بقيت العربات وحيدة من دون خيول أو من يقودها وكأن الحياة قد توقفت فيها ولكنها بقيت تصارع الزمن في مكانها ، مما خلق تأثيراً مباشراً على المتلقي من خلال التشكيل الاحترافي للبعد الرمزي والتعبيري في اللوحة وبالتالي تحقيق ثنائية التراث والحداثة التي يسعى لها التشكيل العراقي الحديث.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات