نحو غدير الولاية

لما أَحسَّ  نبينا الكريم صلوات الله عليه وآله  بِدُنُوِّ الأجل، رأى أن يَحِجَّ بيت الله الحرام ليلتقي عامة المسلمين ويعقد مجلساً عاماً يضع فيه الخطوط السليمة لِنَجَاة أُمَّتِه من بعده ووقايتها من الزيغِ والانحراف، فحج صلى الله عليه وآله حِجَّتَه الأخيرة المعروفة بـحِجَّة الوَداع في السنة العاشرة من الهجرة، وسُميت بذلك لأن رسول الله قد وافته المنية بعد حوالي ثلاثة أشهر من خطبته .

فأشاع فيها بين الوافدين لبيت الله الحرام أن التقاءه بهم في عَامِهم هذا هو آخر عَهدِهم به، فقال: ( إِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّيْ لا أَلقَاكُم بَعدَ عَامِي هَذا بِهَذا المَوقِفِ أبَداً)، وجعل يطوف على الجماهير وَيُعَرِّفُهم بما يَضمِنُ لهم نَجَاحَهُم وسعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( يَا أَيُّهَا النَّاس ، إِنِّي تَركتُ فيكُم الثَّـقَلين ، كِتابَ اللهِ وَعِترَتِي أهلَ بَيتي)، فكانت الركيزَةُ الأولى لِسَلامة الأُمَّة وصِيانَتِها عن أي زَيغٍ عقائدي عن طريق تَمسُّكُها بكتاب الله تعالى والعترة الطاهرة  فَهُما أساسُ سعادتِهَا وَنجاحِهَا .

ولما انتهى ( صلى الله عليه وآله ) من مراسيم الحج ، وقف عند بئر زَمْزَم وخطب بالناس بما تَضَمَّنَتْهُ الرسالة الإسلامية من البنود المشرقة في عالم التشريع وما تحتاجه الأمة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، لبِلُوغِ أهداف الأمة في شتى المجالات .

اللوحة أعلاه من إبداعات الفنان الإيراني الشاب (حسن روح الأمين) وهي تحمل عنوان ( حجة الوداع ) ويصوّر فيها الفنان قافلة الرسول الكريم وهي تغادر الديار المقدسة في مكة المكرمة باتجاه المدينة المنورة بعد انتهاء موسم الحج من العام العاشر للهجرة، وقد صور الفنان الموضوع بتكوين إنشائي بديع تشغل عناصره فضاء اللوحة ومساحتها بالكامل .

العمل مُثل على جزأين الأول يمثل مركز السيادة في اللوحة والمتمثل براحلة الرسول ومن معه من الحجيج وهم يغادرون إلى عمق اللوحة الزاخرة بالضوء تمييزاً لشخص الرسول الأعظم، والآخر مكمّل لشغل باقي فضاء اللوحة بالقرب من المشاهد ويتمثل بمجموعة من الأفراد المودّعين لرسولنا الكريم .

يسود الجو العام للوحة تجانس لوني بين ملابس الشخصيات وخلفية اللوحة، فيما كان التكوين الإنشائي العام مبنياً على الشكل المثلث، بالإضافة إلى حركة الأشخاص الكلية أو الجزئية، فإنها تشير إلى الأفكار الفنية المقتبسة من العصر الوسيط لفكر عصر النهضة والواقعية في الرسم، ولو على سبيل البناء الفني دون المعطى الإنساني وهذا ما يحرك تلك العلاقات البنائية في اللوحة مع مضمونها المتخيّل من قبل الفنان .

كرّس روح الامين في هذا العمل منحىً مضمونياً يدلل على روحية الإسلام كونه الدين الإلهي القائم على الإيمان الحقيقي، ومن خلال ذلك أصبحت البنية الشكلية للعمل تتحاور بعلاقاتها المكانية والزمانية مع روحية المكان الإسلامي المتمثل ببيت الله الحرام وكسوته المطرّزة والملابس الإسلامية ذات السِحنة الشرقية من عباءة وعمامة، إضافة إلى الجبال والرمال .. وهذا بحد ذاته تحاور صريح بين ذات الفنان وثقافته ومضمون العمل وفكرته ، لذا فهو جمع بين التناقض الزماني والتواضح المكاني ( الكعبة بين الماضي والحاضر ).

ومن خلال ذلك فأن البنية الفنية الجمالية تتمثل في تحاور الفنان مع طبيعة الموقف الروحي الإسلامي للحج من حيث المضمون مع تمثيل الأساس الشكلي المحاكي للواقع , لتصبح البنية الشكلية قائمة على أساس الموازنة بين كتلتين هما قافلة النبي وكثافة شخصياتها من جانب ومجموعة المودعين من المسلمين وخدام الكعبة الشريفة من جانب آخر، وبذلك تصبح الأشكال المتوازنة جمالياً متباينة مضموناً ووفقاً لذلك فإن الحوار الشكلي يدعم فكرة المضمون الأخلاقي لدين الإسلام ومراسيم الحج .

 وبذلك تتشكل البنية الجمالية من خلال المتناقضات المضمونية المجموعة في أطار شكلي متجانس، أذ يلعب الشكل دوراً مهماً في تنظيم تلك العلاقات في بنية اللوحة، فتحقق فضاءً تصويرياً قائماً على تبادل العلاقات الجمالية بين الأسس والعناصر وفقاً للرؤية المعيارية للمضمون والموضحة عن طريق الأشكال والألوان والأضواء التي مُيّزت بها المقدسات .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة 

المرفقات